لماذا تعطل تطور الهوية العربية؟
لقد استند التكوين التاريخي للعرب، إلى عنصر اللغة، وباتت ثقافة العرب رديفة للغتهم. وحين يذكر العرب، فإن ذلك يعني بداهة الناطقين باللغة العربية. ومع أن الدور الحضاري للعرب ارتبط بالإسلام، لكن التميز بينهما ظل قائماً وثابتاً، فالعربية انتماء إلى لغة، بينما الإسلام انتماء إلى عقيدة.
والحديث عن الثقافة، هو حديث عن الفعل الجماعي للفنون والأعمال الفنية، كما هو حديث عن أسلوب كامل في حياة الناس، حسب رالف لنتون. وفي الحياة العربية، عكس تراجع البنيان القبلي لمصلحة الانتماء للكيان العربي، نفسه على الحركة الثقافية والأدبية العربية. وبرز ما يقرب إلى التحقيب والتصنيف لهذا التطور. فهناك شعر وأدب جاهلي، وهناك شعر وأدب أموي، وهناك شعر وأدب عباسي. والذين كتبوا عن مختلف تلك المراحل لم يهتموا بالتدوين والتأريخ فقط، ولكنهم أيضاً ركزوا على خصوصية كل مرحلة من تلك المراحل، من أمثال عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، والدكتور شوقي ضيف. لقد أكدا من خلال قراءاتهما لتلك المراحل، أن الهوية العربية، شأنها شأن الهويات الأخرى، ليست راكدة، بل خاضعة للتطور التاريخي، وأنها من صناعته.
وهنا تحضر أيضاً، أطروحة أدونيس في الثابت والمتحول، ومشروع الجابري عن العقل العربي، فكلاهما، من خلال التحقيب، عمل على رصد التحولات التي جرت في الثقافة العربية، والأدب، وبالتالي، في النظرة الخاصة لمفهوم الهوية.
وعلى هذا الأساس، فإن من الصعوبة وعي تشكل الهوية العربية، شأنها في ذلك شأن هويات الأمم الأخرى، من خلال مقاربة ساكنة، أو تصور متجانس، يلغي جملة التناقضات التي تفتعل داخل المجتمع. ذلك لأنها ليست شيئاً جامداً، بل هي حقيقة تتطور وفقاً لمنطقها الخاص.
إن افتراض وجود هوية واحدة في المجتمعات الإنسانية، هو قضية ينبغي فحصها، لأن من الصعوبة افتراض وجود مجتمع يتجانس بشكل مطلق. فأغلبية المجتمعات، تنطوي على جماعات وثقافات فرعية مختلفة، تمثل في كثير من الأحيان، نماذج متناقضة. وهذه التناقضات، ربما تؤدي إلى تصدع ثقافي، كما هو الحال في كثير من البلدان المتقدمة، والبلدان المتخلفة على حد سواء. وهناك أيضاً التصدع، في بينان المجتمع الواحد، بين الثقافة الحديثة والثقافة القديمة، بين الثقافة المدنية والثقافة الريفية، والفجوات الكبيرة بين الغنى والفقر.
وهنا يواجهنا السؤال الصعب، إذا كانت الهوية عملية تاريخية، بمعنى خضوعها لقوانين الحركة، ورفضها للسكون، فلماذا تقدمت شعوب العالم، وحققت ثوراتها العلمية، وطورت هوياتها، وبقينا نحن العرب، نراوح مكاننا، بما يمكن القول إن المسافة بين ما حققته شعوب العالم المتقدم، وبين ما حققته أمتنا، هي مسافة فلكية؟
الجواب يكمن في السؤال ذاته، لأن التطور في مفهوم الهوية هو تطور تاريخي، وهذا التطور، يقاس بمدى التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية في مجتمع ما. فحين تكون هذه المجتمعات كسيحة، فإن ذلك ينعكس على تكلس المفاهيم الاجتماعية، وسكونها.
بمعنى آخر، إن التطور الاجتماعي في كل المجالات، تنتج عنه رؤية جديدة للحياة، وانتقال من المجتمع القديم، إلى مجتمع الحداثة. وللأسف فإن العملية التاريخية، في الوطن العربي، تعطلت منذ سقوط دولة الخلافة، وسيطرة التتار، وسلطان الاستبداد العثماني، ورغم أنه منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، بدأت محاولات متواضعة لعصر تنوير عربي، دعي بعصر اليقظة العربية، لكن تلك المحاولات جرى وأدها، حين اصطدمت باتفاقية سايكس- بيكو، ووعد بلفور، وبالنتائج الكارثية على العرب التي ارتبطت بالحرب العالمية الأولى.
لقد كان مشروع اليقظة العربية، مشروعاً حداثياً بامتياز، بمعنى أنه استمد مقوماته من تراث عصر الأنوار الأوروبي. وكان التصور السائد لدى زعماء اليقظة أن الغرب الذي بشر بالحرية وحقوق الإنسان، سيقف إلى جانب العرب في معركتهم من أجل الحرية والاستقلال. وإذا بهم يواجهون بدبابات الغرب، وأسلحته توجه إلى صدورهم.
ولم يميز قادة النهضة العربية، بين الحداثة وما بعدها، حيث إن ما ساد في تلك الحقبة، هو ما بعد الحداثة، وليس الحداثة. بمعنى أن ما شهدناه من توسع استعماري غربي في منطقتنا لم يكن له علاقة بعصر الأنوار الأوروبي. وكان من نتائج غياب الوعي والقدرة على التمييز بين الحداثة، وما بعدها، عودة الإسلام السياسي، بقيادة «الإخوان المسلمين»، بعد أقل من عقد على طي صفحة الحرب الكونية الأولى، كرد فعل غاضب على المشروع الحداثي، الذي اتهم بتواطئه مع المحتل، في حين كان الواقع هو غير ذلك.
وكانت النتيجة هي القطع مع المشروع الحداثي، وتعطل العملية التاريخية، وبالتالي جمود مفهوم الهوية وعجزها عن متابعة التطورات العلمية الهائلة السائدة من حولها، ومرة أخرى، صدم المشروع الحداثي لما بعد الاستقلال، بالأنظمة الشمولية المستبدة، وبعودة قوية للجماعات الأصولية المتشددة.
yousifsite2020@gmail.com