لماذا الإنسحاب من غزة الآن؟!
بصدور هذه المقالة يكون الإنسحاب الإسرائيلي قد تم من آخر مستوطنة في قطاع غزة. ويتوقع أن يسمح الإسرائيليون لقوات أمن السلطة الفلسطينية بالدخول إلى المواقع التي أجلي عنها المستوطنون في غضون عدة أسابيع. فلماذا حدث الإنسحاب الإسرائيلي من القطاع في هذه المرحلة. ذلك ما سوف نحاول في هذا الحديث الإجابة عنه.
شكلت غزة، منذ احتلالها في حزيران/ يونيو عام 1967م عبئا مستمرا على الكيان الصهيوني، وقد طرح موضوع الانسحاب منها لأول مرة أثناء رئاسة إسحاق رابين للوزارة الإسرائيلية. ولم يكن موضوع الانسحاب منها يثير أية إشكالات داخلية رئيسية. حيث إن عددا من أركان حزب الليكود، وعلى رأسهم أرينز وزير الدفاع السابق، قد طرحوا منذ فترة طويلة قضية الانسحاب. لقد مثلث غزة كابوسا حقيقيا للإسرائيليين. فعلى أرض لا تتجاوز مساحتها الـ 260 كم معظمها رملية يعيش ما يزيد على المليون إنسان، معظمهم لاجئون يعيشون في مخيمات بائسة تنقصها كل مقومات الحياة. وكانت تجربة الاحتلال الإسرائيلي لهذا القطاع مريرة وقاسية. ففي العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، احتل الصهاينة هذا القطاع لأول مرة، وواجهوا مقاومة عنيفة. وفي حرب يونيو عام 1967م عادوا واحتلوا هذا القطاع ضمن احتلالهم سيناء والضفة الغربية والجولان. وعلى مدى بضع سنوات بقيت غزة تقاوم الاحتلال بعنف حتى منتصف السبعينيات، وفي الثمانينيات واصلت غزة إزعاج وإرهاق جيش الاحتلال الإسرائيلي. وفي مطلع ديسمبر عام 1987 انفجرت من هذا القطاع الانتفاضة الفلسطينية المعاصرة الأولى في الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، وامتدت منها إلى كل أنحاء الضفة الغربية. وقد عرف عن رئيس الورزاء الإسرائيلي آنذاك مقولته الشهيرة “تمنيت أن لا أستيقظ من نومي إلا وقطاع غزة غارق في البحر”.
ومع أن الإسرائيليين نظروا إلى غزة، على مدى حقبة الاحتلال، كسوق رخيصة للعمالة، إلا أن حركة المقاومة بقيت عبئا ثقيلا على مختلف الحكومات الإسرائيلية منذ احتلالها وحتى وقتنا الحاضر. وقد تضاعفت تعقيدات الوجود العسكري الصهيوني في هذا القطاع في مراحل لاحقة، بعد تصاعد الإنتفاضة الفلسطينية الأولى، حيث شهدت تلك الحقبة نشوء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على يد الشهيد الشيح أحمد ياسين. وكان تبني الحركة للعمليات الإستشهادية منعطفا تاريخيا في مسيرة النضال الفلسطيني، أقض مضاجع الصهاينة، وأثقل حركتهم، وأفقدهم توازنهم.
وتوصل القادة الإسرائيليون، منذ ذلك الحين، إلى أنه لا مفر من التخلي عن القطاع. وكان السؤال الملح، بالنسبة لهم، هو إلى أية جهة ينبغي تسليم القطاع. وكانت حكومة رابين قد لمحت إلى إمكانية تسليم القطاع إلى مصر، لكن جواب الحكومة المصرية، التي كانت معنية بإدارة القطاع قبل احتلاله، كان حاسما وقاطعا برفض تسلم إدارة القطاع مرة أخرى.
خلال المفاوضات التي عقدت في واشنطون بين الإسرائيليين وفلسطينيين مستقلين، والتي ترأسها عن الجانب الفلسطيني السيد حيدر عبد الشافي، وشارك في عضويتها الدكتورة حنان عشرواي والدكتور صائب عريقات برعاية أمريكية، إثر المبادرة التي طرحها الرئيس الأمريكي، جورج بوش الأب بعد حرب الخليج الثانية، والتي عرفت بمبادرة مدريد للسلام في الشرق الأوسط، تفاوض، أثناء ذلك التقى بشكل سري في أوسلو وفد من منظمة التحرير الفلسطينية، برئاسة أحمد قريع رئيس وزراء السلطة حاليا، مع مسئولين إسرائيليين، وجرت مفاوضات بين الطرفين استمرت لعدة شهور، انتهت بتوقيع اتفاق أوسلو، الذي وافق فيه الطرفان على انسحاب إسرائيل من قطاع غزة وأريحا- أولا وتسليمهما للفلسطينيين.
وبموجب هذا الإتفاق نقل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مقره وقياداته إلى رام الله. وتسلمت السلطة الفلسطينية إدارة قطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية. وسلم للفلسطينيين بتشكيل أول سلطة وطنية في تاريخهم منذ الإحتلال الإسرائيلي عام 1948.
تواصلت الإجتماعات والمفاوضات، بعد قيام السلطة، بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ عام 1993 حتى وفاة الرئيس عرفات. وكان الحوار بين الطرفين أشبه بحوار الطرشان. فرغم انعقاد عشرات الإجتمات في شرم الشيخ وواي ريفير وكامب ديفيد، وتفاهمات ميتشل وتينيت، وما عرف بخارطة الطريق، لم يحدث أي تقدم يذكر في تلك الإجتماعات.
كان من السهل التوصل، في تلك المفاوضات، إلى نتائج إيجابية حول العلاقة بين السلطة الفلسطينية والإسرائيليين، وحول المعابر والطرق، وحدود صلاحيات الدولة الفلسطينية المرتقبة. لكن قضيتين رئيسيتين بقيتا عالقتان، لم تتمكن الأطراف المتفاوضة من التوصل إلى حل بشأنهما، هما قضية حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم، وقضية القدس التي يصر الكيان الصهيوني على بقائها عاصمة موحدة وأبدية لدولة إسرائيل، في حين تصر السلطة الفلسطينية على أن القدس الشرقية هي العاصمة للدولة الفلسطينية المرتقبة.
لقد كان موقف الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات واضحا وحاسما، حيال القضيتين. فلا تفريط بحق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، ولا تراجع عن تحرير مدينة القدس. وكان عرفات يستمد صلابة موقفه من التفاف الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع والشتات حوله، ومن عنف المقاومة الفلسطينية وضراوتها، التي اتخذت في مرحلتها الثانية، طابعا مسلحا هجوميا وجريئا لفت نظر العالم أجمع، لم تتمكن إسرائيل عن طريق تصفياتها واغتيالاتها لعدد كبير من قادة المقاومة الفلسطينية أن تضعفه أو تشل من حركته. وكانت قافلة الضحايا والشهداء من القادة الفلسطينيين الذي اغتالتهم إسرائيل طويلة.. وكان الرئيس عرفات آخر الراحلين في تلك القافلة.
ومع رحيل عرفات وتولي أبو مازن لرئاسة السلطة الفلسطينية، أعيد الحديث من جديد عن خارطة الطريق. ومعها أعيدت طاولة المفاوضات، وعاد المفاوضون إلى المربع الأول. ووافق الإسرائيليون على الإنسحاب من غزة من جانب واحد. والإشارة إلى “من جانب واحد” هي بالتأكيد ذات مغزى لا يخفى على المراقب. فإسرائيل بموجب هذا الإنسحاب لا تلزم نفسها بشيء، وهي بذلك تحتفظ لنفسها بحق معاودة الإحتلال. والفلسطينيون أيضا ليسوا ملزمين، على الأقل على الورق، بأي شيء.
لكن الإنسحاب على كل حال، لم يتم في فراغ. فقد عملت السلطة الفلسطينية، بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية وبعض الحكومات العربية، طيلة الستة أشهر المنصرمة على تهدئة الموقف، ومنع استمرار العمليات الإستشهادية، مدفوعة بحرص شديد على عدم استثارة الإسرائيليين، وتعطيل عملية الإنسحاب. كما جرت إعادة النظر في المواقف السابقة من القدس وحق العودة. وإن لم يتم ذكر ذلك بشكل جلي. وتبع ذلك جملة من القرارات والتشريعات العربية، التي تيسر لعملية توطين اللاجئين في الأقطار التي يقيمون بها.
وهكذا، في خضم هذه الأحداث، لاح في الأفق أمران خطيران، أصبح من الواضح أنهما سيكونان ثمنا سيقبضه الصهاينة مقابل هذا الإنسحاب الناقص. أولاهما إسكات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وربما ينسحب ذلك لاحقا على الضفة المغربية أيضا. وبذلك يكون الكيان الصهيوني قد ضمن استقرارا أمنيا في المرحلة القادمة، يستطيع من خلاله أن يعيد ترتيب أوراقه، لينطلق في تنفيذ استراتيجياته إلى مرحلة جديدة، يتحول بها مشروعه من مشروع حرب إلى مشروع هيمنة. والثاني هو تخلي قيادة السلطة الفلسطينية عن حق العودة. وهذا التخلي لن يكون إعلانا من السلطة بأنها لم تعد ممثلة وراعية لشئون الفلسطينيين في الشتات، ولكن باستغلال هذه الرعاية، ووحدانية التمثيل التي منحها لها الميثاق الوطني الفلسطيني ومؤتمرات القمة بالرباط عام 1975 لتفكيك المخيمات، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين بالبلدان العربية.
وهكذا فإن منظمة التحرير الفلسطينية التي طرح برنامجها السياسي المرحلي قضية الضفة الغربية والقطاع كقواعد يجري العمل على تحريرها للإنطلاق لتحرير فلسطين، قد تخلت عن هذا البرنامج، مقابل انسحاب ناقص من جزء لا يتعدى الـ 1% من فلسطين التاريخية. وضمنت إسرائيل من جهة أخرى ليس فقط تصفية القضية برمتها، ولكن حسب تصريحات لمسئولين إسرائيليين، الولوج في عملية تطبيع شاملة مع عشرة بلدان عربية، تمهيدا للدخول بشكل حثيث في مشروع الشرق الأوسط الكبير.
ولاشك أن قراءة تاريخ النضال الفلسطيني المسلح خلال انطلاقته الأخيرة التي بدأت في منتصف الستينيات تؤكد على أهمية تفكيك المخيمات، كوسيلة عملية للقضاء على المقاومة. فبالنسبة للصهاينة، فإن وجود هذه المخيمات يعني أولا أن غالبية الفلسطينيين لا يزالون يصرون على التمسك بهويتهم، وأن حلمهم في العودة لا يزال حيا. كما أن وجود هذه المخيمات هو مدعاة لإلقاء الضوء على مستوى الظلم والجور الذي لحق بهذا الشعب المشرد. وهو من جهة أخرى، تذكير بأن هناك قرارات عدة صدرت من هيئة الأمم المتحدة بشأن عودة اللاجئين لا تزال في رفوف مكاتب الهئية بانتظار التنفيذ. وأهم من ذلك كله، فإن هذه المخيمات كانت المعين الذي لا ينضب لتخريج المقاتلين الفلسطينيين. ومن هذه المخيمات انطلقت منظمات المقاومة الفلسطينية المعاصرة، بما في ذلك حركة فتح.
وهكذا فإن توطين الفلسطينيين وتفكيك مخيماتهم سيشكل ضمانة للصهاينة بعدم انطلاقة حركة مقاومة مسلحة من الشتات. وإذا تزامن ذلك مع دور أمني متصاعد للسلطة، وإحكام للقبضة على بقية الحركات المقاومة، ومقايضة حمل السلاح، بالتحول إلى العمل السياسي، فإن الكيان الصهيوني يمكنه أن يعلل نفسه بربيع طويل ودائم.
تلك هي حسابات الصهاينة، فهل ستسير الرياح بما تشتهي سفنهم.. ذلك أمر ستجيب عليه الأيام القادمة، وقد عودتنا دائما على أن تكون حبلى ببراكين وأعاصير.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2005-08-24