لعبة السيرك الأمريكية في لبنان

210

بضغوط من الإدارة الأمريكية، وبتضامن فرنسي، والعكس صحيح أيضا، صوت مجلس الأمن الدولي هذا الأسبوع على القرار 1559 بأغلبية تسعة أصوات على قرار يدعو إلى “احترام سيادة لبنان وسحب جميع القوات الأجنبية من أراضيه”. وأن تكون الانتخابات الرئاسية التي ستجرى قريبا في لبنان “حرة ونزيهة، وفق القواعد الدستورية اللبنانية القائمة من دون تدخل أجنبي”. و”احترام سيادة لبنان بشكل كامل وسلامة أراضيه ووحدته واستقلاله السياسي”. ونص القرار أيضا على ضرورة “تفكيك ونزع سلاح كل المليشيات اللبنانية وغير اللبنانية” في لبنان. وعبر عن دعم مجلس الأمن “لتوسيع سيطرة الحكومة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية” وطالب من الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي عنان رفع تقرير بعد 30 يوما حول تطبيقه.

 

وقال مندوب الولايات المتحدة لدى المنظمة الدولية، جون دانفورث إن التحرك الأمريكي لاستصدار هذا القرار جاء بسبب “فرض الحكومة السورية إرادتها السياسية على لبنان”. أما روسيا وغيرها من الدول التي امتنعت عن التصويت، فشرحت موقفها معتبرة أن القرار كان “في اتجاه واحد”. وقد رغبت الدول التي عارضت القرار أن يذكر فيه بالظرف العام في الشرق الأوسط وإدانة احتلال الأراضي الفلسطينية من قبل إسرائيل. أما الدول التي امتنعت عن التصويت فرأت أن القرار يمثل تدخلا في الشؤون الداخلية للبنان. واحتجت لبنان وسوريا رسميا على مشروع القرار قبل إجازته، باعتباره تدخلا من مجلس الأمن في الشؤون الداخلية للبنان.

 

هدف هذا الحديث هو تسليط الضوء على الموقف الأمريكي من هذا الموضوع، والتأكيد على زيف ادعاء الإدارة الأمريكية ومن يقف معها بالحرص على استقلال لبنان ووحدة أراضيه، أو حماية الحياة الدستورية والديمقراطية فيه.

 

وابتداء تجدر الإشارة إلى أن التركيبة اللبنانية السياسية القائمة، هي حاصل اتفاق غير مكتوب، تم بإشراف فرنسي قبل رحيل احتلاله عن لبنان، بعد الحرب العالمية الثانية، عرف بالميثاق الوطني. وقد قضى هذا الإتفاق الذي أصبح عرفا قائما حتى الآن بقيام نظام سياسي يستند على توليفة طائفية، يحظى فيها المسيحيون المارونيون برئاسة الدولة، والمسلمين السنة برئاسة الوزراء، والمسلمين الشيعة برئاسة مجلس النواب، والدروز بواحدة أو أكثر من الوزارات السيادية، الدفاع أو الداخلية أو الخارجية، وهكذا.. حسب ثقل الطائفة، وتوازنات القوة. وقد تسببت هذه التوليفة في مشاكل عديدة وصلت حد الاحتراب الداخلي، في حربين أهليتين في الخمسينيات والسبيعينات من القرن المنصرم. ولن يجادلنا أحد في أن هذه التوليفة هي من صنع فرنسي… من البلاد التي انطلقت منها مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.

 

ما يهمنا في هذا الحديث هو علاقة هذه التوليفة بالتطورات الجارية حاليا، ومن ضمنها قرار مجلس الأمن رقم 1559. فهذه التوليفة حصرت رئاسة الجمهورية في أقلية من الطوائف اللبنانية، حققت للقوى الغربية المهيمنة إنجازين في آن واحد. فقد ضمنت أولا أن يكون الرئيس من طائفة واحدة، لها بحكم جملة من الظروف الاقتصادية والسياسية والدينية، علاقتها التاريخية الوطيدة بالغرب. والثاني أنها حصرت جهد هذه القوة في الضغط على طائفة واحدة فقط بدلا من أن يتوزع جهدها على كامل الحراك السياسي اللبناني. وعلى الرغم من هذين الإنجازين فإن الأمور لم تكن دائما سهلة، وقد أتت الرياح في مرات عديدة بما لا تشتهي السفن.

 

في بداية الخمسينيات، شهدت منطقة الشرق الأوسط سعيا أمريكيا دءوبا لتطبيق منطق الإزاحة للإستعمار التقليدي. وبدا من الواضح سيادة نوعين من التنافس، أولهما علني واستفزازي تمثل في الحرب الباردة بين قطبي المعادلة الدولية، الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي. أما الثاني، فكان الصراع غير المعلن بين القوة الجديدة الجامحة، ممثلة في الولايات المتحدة، والاستعمار التقليدي ممثلا في بريطانيا وفرنسا، وكان الصراع في الأخيرة تقوده في الغالب شركات وقوى اقتصادية، وقد عبر عن نفسه بوضوح في سوريا ولبنان ومناطق النفط بالجزيرة والخليج. وبلغ في سوريا حد قيام هذا الفريق أو ذاك من المتصارعين بدعم الانقلابات العسكرية التي طبعت الحياة السياسية في سوريا في تلك الحقبة، كما كان الحال مع انقلابات حسني الزعيم وسامي الحفناوي وأديب الشيشكلي.

 

 

 

في تلك الفترة عبرت الأطراف المتصارعة عن وجودها، كل بطريقته. وكانت جميع تلك القوى تحاول أن تعزز من اختراقاتها لهذه البلاد أو تلك. كانت مصر الناصرية قد بدأت في الإقتراب رويدا رويدا من الإتحاد السوفييتي، وكان عراق نوري السعيد قد بدأ فعلا يعمل كعضو ناشط ومحرك في حلف بغداد، التي تقف من خلفه بريطانيا. وكانت الولايات المتحدة تركز على مناطق النفط، وتحاول أن تمد بجسورها إلى سوريا ولبنان. وفي هذا الإتجاه طرح الرئيس الأمريكي، أيزنهاور مشروعه المعروف بـ مبدأ أيزنهاور، بهدف تشكيل حزام أمني للوقوف دون حدوث تسلل شيوعي في المنطقة، ولضمان إحكام قبضته على المناطق التي نزح منها الاستعمار التقليدي. والمؤكد أن رئيس الجمهورية اللبنانية، كميل شمعون كان منذ البدء مع مشروع أيزنهاور، وكانت فترته الرئاسية على أعتاب النهاية. ومن هنا فكر هو وبإيحاء من الأمريكيين بفترة تمديد لولايته. وتجشع الأمريكيون لذلك. لكنه لم يضمن أن ينجح في التصويت بالبرلمان، فكان عليه أن يعيد تشكيل الدوائر الإنتخابية بما يتيح له الفوز بدورة رئاسية أخرى، ولكن القوى السياسية كانت متنبهة لذلك، وأصرت على عدم أي تغيير في الدوائر الإنتخابية، وعارضت بقيادة، الزعيم الوطني الدرزي، كمال جنبلاط مشروع التمديد. ونزلت القوات الأمريكية على الشواطيء اللبنانية، ليس من أجل حماية الديمقراطية كما تدعي الآن، ولكن لفرض الرئيس شمعون في دورة رئاسية ثانية. ونشبت الحرب الأهلية الأولى، وانتهت بفشل المشروع الأمريكي، وخروج كميل شمعون من الرئاسة، وتسلم الجنرال فؤاد شهاب سدة الحكم.

 

 

 

في عام 1975، نشبت الحرب الأهلية الثانية، وكان السبب، مرة أخرى، هو التوليفة الطائفية التي صنعها الفرنسيون قبل رحيلهم من لبنان. وكانت الخشية هذه المرة عنيفة من الخلل في التوازن السكاني بين المسيحيين والمسلمين، ومن الثقل السياسي للمسلمين الذي تعزز بوجود المقاومة الفلسطينية في لبنان. ودخل الجيش السوري إلى لبنان لحماية هذه التوليفة. وتم اجتياح مخيمي صبرا وشاتيلا وجسر الباشا الفلسطينيين من قبل القوات السورية وآنذاك صرح مسئولون أمريكيون في إدارة الرئيس فورد بأن وجود القوات السورية بلبنان يشكل عامل استقرار لهذا البلد. وتجاوب معهم في ذلك عدد من البلدان الأوربية. ووافقت جامعة الدول العربية، في مؤتمر قمة سداسي عقد في الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية على الوجود العسكري السوري بلبنان، وأضيفت له قوات عسكرية من أقطار عربية أخرى، أطلق عليها قوات الردع، كانت مهمتها تحقيق الأمن والإستقرار بسوريا ونزح الأسلحة من الميليشيات والمقاومة.

 

وظلت العلاقات السورية الأمريكية، فيما يتعلق بالمسألة اللبنانية بين كر وفر، فحين يقترب السوريون من اليمين اللبناني، تكون الإدارة الأمريكية راضية، وحين يديرون لهم ظهر المجن ويقتربون من الفلسطينيين والحركة الوطنية اللبنانية يتخذ الأمريكيون موقفا عدائيا من سوريا. حتى جاء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1981 في العملية التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحيم بيغن والتي عرفت بسلام الجليل. آنذاك كان هناك اتفاق ضمني بين الأمريكان والإسرائيليين من جهة وعدد من الحكومات العربية من جهة أخرى بان المستهدف الوحيد من تلك العملية هو الوجود الفلسطيني بلبنان، وليس غيره. ودارت الأمور بموجب هذا التصور، ولكن الفلسطينيين فاجئوا الأسرائيليين والأمريكان والعرب والعالم بأسره بصمودهم الأسطوري. وصمود بيروت الذي استمر ثمانون يوما. وأمام ضغط حركة الشارع كان لا بد من كسر الإتفاق، والتدخل في توجيه دفة إيقاع الحركة. فتدخل السوريون من جانبهم ضد الإسرائيليين في معركة غير متكافئة انتهت بإسقاط تسعين طائرة عسكرية سورية من قبل المقاتلات والنيران الإسرائيلية، وجاء فيليب حبيب مندوبا عن الرئيس الأمريكي ريجون لإيجاد حل للأزمة على أساس مغادرة المقاومة الفلسطينية لبيروت، إلى مكان بعيد جدا عن هدفها الاستراتيجي، وكان أن اتفق أخيرا، على أن تكون العاصمة التونسية المقر الجديد لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات.

 

 

 

النقطة الأهم في هذا الموضوع هي الطريقة التي تم بها تعيين بشير الجميل في سدة الرئاسة، ومن ثم، بعد مصرعه، تعيين أخيه، أمين الجميل رئيسا للجمهورية في تلك الظروف الصعبة. لقد قام الأمريكيون ومعهم الإسرائيليون بعقد جلسة لمجلس النواب، تم انتقاء الأشخاص الذين حضروها، وعمل المستحيل كي يتحقق النصاب القانوني. وحين تحقق هذا النصاب جرى تعيين بشير الجميل رئيسا للدولة، وجرى اغتياله بعد أسابيع قليلة من تعيينه، وفرض أخوه أمين بذات الطريقة، ووقع اتفاق أيار بإشراف وزير الخارجية الأمريكي، جورج شولتز الذي أدخل لبنان في علاقة مباشرة مع الكيان الصهيوني، وأوصى بتطبيع العلاقة بين لبنان وإسرائيل.

 

 

 

هكذا تكرر خرق السيادة اللبنانية والاعتداء على وحدة لبنان واستقراره وحرية شعبه في اختيار من يمثله. وكانت الإدارات الأمريكية المختلفة هي التي مارست عملية الخرق. أفهل يعقل أن نصدق الآن تباكيهم على الديمقراطية والحرية في لبنان.

 

 

 

هل ثمة أشياء أخر تستحق أن نسلط عليها الضوء؟ نعم بكل تأكيد، لكننا لا بد أن نتوقف عند هذا لنواصل رحلة الكشف في الحديث القادم بإذن الله.

 

ــــــــــــــــ

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2004-09-08

د.يوسف مكي