لحظة الحقيقة

0 225

غدا ستكون لحظة الحقيقة، هي العبارة التي توعد بها الرئيس الأمريكي، جورج بوش أثناء المؤتمر الذي عقده مع حليفيه، رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير ورئيس الحكومة الإسبانية، أزنار في جزر الآزور الإسبانية لوضع اللمسات الأخيرة على مخططات العدوان على العراق، الذي بدأ بعد 4 أيام من ذلك الإنذار، وانتهى باحتلاله. كان بوش قد بدا منتشيا، وهو يعلن اقتراب “لحظة الحقيقة”، بتوجيهه الإنذار للرئيس العراقي صدام حسين ونجليه بمغادرة العراق خلال 72 ساعة.. أو مواجهة الحرب.

نجح الرئيس الأمريكي، بوش في احتلال العراق، ربما خلال موعد أقل بكثير مما قدره الخبراء العسكريون. لكنه غيب دروسا ونتائج مرت بها إدارات أمريكية سابقة في فيتنام ولاوس وكمبوديا وجواتيمالا وتشيلي ولبنان، وبلدان أخرى. ولم يتعلم شيئا عن أهم القوانين القطعية التي حكمت المشهد السياسي فيما بين النهرين، طيلة حقب تاريخية امتدت لأكثر من خمسة آلاف عام. فهذه المنطقة لم تطق غازيا، ولم تقبل بمحتل. وكانت في كل مرة تتعرض فيها للغزو، تحيل الأرض سعيرا تحت أقدام الغزاة، فارضة عليهم الرحيل قبل عودة الطيور إلى أعشاشها، فلا ينبلج صبح جديد إلا والأرض محررة، والسماء أكثر زرقة وصفاء.

 

كان الرئيس الأمريكي، قد أخذ به الوهم، فتصور أن العراق مفتاحا ستنفتح باحتلاله كل البوابات، ليطل على العالم، متربعا على عرشه، من ضفاف الخليج، إلى المتوسط فالأطلسي، مرورا بالبحر العربي والبحر الأحمر، صانعا مجده في شرق أوسط جديد، مسيطرا على الجو والبحر، ومتحكما في كل خزائن الأرض من خلال سيطرته على منابع النفط، وفرض سطوته على الاقتصاد العالمي بأسره من خلال الهيمنة على إنتاج وإدارة وتسويق هذه السلعة الاستراتيجية، التي ليس بمقدور آلة أن تتحرك وتدور بدونها.

لكن القانون القطعي لبلاد ما بين النهرين، كان حاضرا له بالمرصاد. فلم تكد شمس بغداد تنبلج في صبيحة العاشر من أبريل عام 2003، حتى بدأت بوادر مقاومة الشعب المحتل تفصح عن ذاتها، مؤكدة حضور هذا القانون من جديد، ومنغصة على قوى الاحتلال فرحتها وسعادتها بإنجازها اليسير.

وكان ذلك الإنجاز هو حصان طروادة الذي جعل من قوات الاحتلال صيدا سهلا للشعب المقاوم. وفي خط بياني متصاعد ومتناسق بدأت المقاومة تشق طريقها بعناد وإصرار، مقتربة أكثر فأكثر من لحظة النصر والتحرير.

الآن يقترب بوش من إدراك حقيقة أخرى، لكنها بعيدة بمسافة كبيرة عن التي وعد بها وهو يوجه منتشيا إنذاره… حقيقة مرة المذاق أعمته نشوة القوة عن إدراكها أثناء الغزو، حين اقتحمت جيوشه عاصمة العباسيين. فإثر مطاولات ومنازلات وقتل بالجملة في صفوف قواته، بدأت تتكشف الحقائق أمامه، واضطرته ليعترف بعد مكابرات عدة، أن أحداث العراق ربما تثير شجون ذكريات حرب فيتنام لدى الأمريكيين. ففي لقائه مع شبكة إيه بي سي التلفزيونية الأمريكية قال بوش إنه من الصواب مقارنة تصاعد هجمات المتمردين في العراق بحملة تيت عام 1968، التي اعتبرت بداية هزيمة القوات الأمريكية في فيتنام. “هناك بالفعل تصاعد في أعمال العنف ونحن مقبلون على انتخابات. في حملة تيت شن مقاتلو الفيتكونج وجيش فيتنام الشمالية هجوما مشتركا على مواقع القوات الأمريكية. وبرغم أن حملة تيت اعتبرت فاشلة من وجهة النظر العسكرية إلا أن تأثيرها النفسي كان كبيرا على القوات الأمريكية وحلفائها في حرب فيتنام، كما أدت أيضا إلى تضاؤل شعبية الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت ليندون جونسون”. لكن بوش أصر في مناسبة أخرى رغم اعترافه بحرج موقف قواته في العراق، في تجمع انتخابي في ساراسوتا بفلوريدا على الاستمرار في حلمه بقيام شرق أوسط جديد لكي لا “ينتصر التطرف ويصبح فيه حلفاء مثل إسرائيل محاصرون بقوى معادية بشكل استثنائي”.

وقد جاءت هذه التصريحات وسط تصاعد عمليات المقاومة، وبلوغها حدا غير مسبوق منذ عامين، حيث تجاوزت خسائر قوات الاحتلال الأمريكية من الجنود خلال شهر أكتوبر أكثر من مائة قتيل، وأضعافهم من الجرحى.

وجاءت تصريحات خبراء وأكاديميين ومسؤولين ورؤساء سابقين أمريكيين لتتماهى مع تصريحات الرئيس الأمريكي، فقد قال أستاذ التاريخ والحضارة في جامعة كلورادو في مدينة دينفر، البروفيسور، نيلسون إنه بات في حكم المؤكد فشل السياسة الأمريكية في العراق. وأنه عندما يعترف بوش بأن العراق يتجه نحو حقبة فيتنام فإن تلك هي بداية النهاية. ويرى البروفيسور نيلسون أن التاريخ يرصد أفعال الساسة وأنه كثيرا ما يعيد التاريخ نفسه… إن ما يحدث اليوم للجنود الأمريكيين في العراق لا يسقط من حساب التاريخ بل يدون يوما بيوم وساعة بساعة وهو أمر لن يصب في النهاية لا في صالح الولايات المتحدة ولا في صالح الرئيس بوش ولا في صالح المجتمع الإنساني. ويقول البروفيسور نيلسون.. إن التاريخ سيدون لنا هذه الحقبة وسيقول إن بوش أصر على موقفه حتى في اللحظات الحرجة التي باتت تحصد فيها أرواح الجنود الأمريكيين بالعشرات في كل يوم.

ومن جهته، اعترف وزير الدفاع الأمريكي، رامسفيلد بخطورة الوضع، قائلا إنه لا يوافق على مواعيد أمريكية محددة لبسط الاستقرار في العراق. وقال في مؤتمر صحفي عقده بالبيت الأبيض إن أي شخص يطالب بتحديد جداول زمنية عليه أن يتراجع لأنه من الصعب التكهن بالتوقيت الذي سيتمكن فيه العراقيون من السيطرة على بلادهم. لكنه أقرّ باستحالة التوصل إلى حل للوضع القائم في العراق باستخدام القوة العسكرية. وقال إن “الوضع في العراق لا يمكن أن يحل عسكريا، بل بطريقة شاملة. وكان الدبلوماسي الأمريكي، البيرتو فرنانديز مدير الدبلوماسية العامة في قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية قد وصف، السياسة الأمريكية بالعراق في مقابلة له أجرتها قناة الجزيرة القطرية في برنامجها “حوار مفتوح” بـ “المتغطرسة والغبية”، وأنه ينبغي عليها أن تظهر تواضعا أكثر في استراتيجيتها التي ظهرت بـ “كثير من الأخطاء”. وفي اتجاه آخر، أعرب الرئيس الأمريكي السابق، جيمي كارتر خلال وجوده في نيودلهي للمشاركة في برنامج بناء مساكن للأسر الفقيرة عن رغبته الشخصية في مغادرة الجنود الأمريكيين العراق في هذا الموعد. وأشار إلى أنه لا يعتقد أن حكومة واشنطن تعهدت بسحب كامل للعسكريين الأمريكيين من العراق. لكن ديفيد سترفيلد كبير مستشاري وزيرة الخارجية الأمريكية والمنسق الأمريكي للعراق، أبلغ أن الإدارة الأمريكية على اتصال مع المقاومة العراقية. وقال رداً على سؤال حول تفاصيل محاولات الاتصال الأمريكي مع المقاومة “نحن على اتصال مع أولئك الذين لهم علاقة بالمتمردين أو يمثلونهم، بهدف أن نرى ما إذا كانت لديهم بالفعل رغبة للتوصل إلى إنهاء حالات العنف بالعراق.

وعلى صعيد التواجد العسكري البريطاني في العراق، أفاد مسؤول عسكري أمريكي أن الحكومة البريطانية تأمل سحب قواتها من العراق خلال عام، وأنها تريد قصر حضور قواتها على الحرب بأفغانستان. وقال المسؤول الأمريكي الذي طلب ألا ينشر اسمه إن مسؤولين بريطانيين أبلغوا نظراءهم الأمريكيين أن قواتهم في العراق “تقترب من نقطة الانهيار” بسبب انتشارها هناك لفترات طويلة. وقد اعتبرت هذه التصريحات من قبل بعض المراقبين أول إشارة على أن الجدول الزمني لانسحاب الجيش البريطاني من العراق ربما أصبح جاهزا الآن.

لقد جاءت جملة هذه التصريحات في غمرة مواجهات عنيفة، وخسائر كبيرة تكبدها الأمريكيون في قواتهم ومعداتهم. كما جاءت في ظل تصاعد الحديث عن خسائر كبيرة في صفوف المدنيين العراقيين، تجاوزت الـ 655 ألف فرد، خلال أشهر الاحتلال، حسب الدراسة التي نشرتها أخيرا دورية لانست الطبية، والتي رجح باحثون أمريكيون صحة تقديراتها. في حين قدر باحثون من جامعة جونز هوبكينز في بالتيمور وجامعة المستنصرية في بغداد بنسبة تأكيد تبلغ 95%، أن الحرب وما تلاها أسفرت عن مقتل ما يتراوح بين 426 و794 ألف عراقي. 56% من القتلى سقطوا في أعمال عنف بحسب الدراسة 31% منهم برصاص القوات الأجنبية. وارتفع معدل الوفيات من 5.5 لكل ألف نسمة سنويا قبل الغزو الأمريكي إلى 13.3 لكل ألف. وقد جاءت هذه التقارير، وسط حديث عن نهب وسرقات وفساد إداري مروع، تمارسه إدارة الاحتلال والقوى المتعاونة معها، كان آخرها ما نقلته شبكة تلفزيون “سي بي إس” نيوز الأمريكية من سرقة نصف مليار دولار من قبل مسؤولين في وزارة الدفاع العراقية المؤقتة السابقة الموالية للأمريكيين.

لقد جاءت جملة هذه الأحداث والتطورات لتؤكد ما ذهبنا إليه في حديثنا قبل عدة أسابيع من بروز مقدمات تشير إلى انهيار للمشروع الكوني الأمريكي للقرن الواحد والعشرين. الآن جاء الاعتراف بالهزيمة على لسان الرئيس الأمريكي نفسه، وإن كان على استحياء ليؤكد أن لحظة الحقيقة لم تكن كامنة في النشوة التي برزت بها عباراته وتهديداته ووعيده، في مؤتمره بجزر الآزور، أثناء وضع اللمسات الأخيرة على مخطط العدوان، ولكنها تتجسد واقعا على الأرض في مسرح المواجهة، مؤكدة قوانين ما بين النهرين القطعية في رفض غطرسة الهيمنة والقوة، وأن الاحتلال إلى زوال.

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

1 + إحدى عشر =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي