لبنان في عيون العاصفة!!
كانت الطريقة التي غادر فيها الرئيس اللبناني موقعه، قد عكست حالة الانقسام التي يعيشها لبنان. فبينما كانت احتفالات التوديع تجري بالقصر الرئاسي، وفرقة الموسيقى تعزف النشيد الوطني، كانت العناصر المؤيدة لتحالف 14 مارس تطلق المفرقعات، معلنة عن فرحتها وابتهاجها برحيل لحود عن سدة الحكم، باعتباره كابوسا انزاح عن طريقها. وكان فشل أعضاء البرلمان، عدة مرات، في التوافق على تسمية رئيس جديد للجمهورية هو الآخر، قد عبر عن عمق حالة الاختلاف بين النخبة الفاعلة في صنع القرار السياسي في هذا البلد.
والنتيجة هي أن لبنان غدا يعيش حالة فراغ وشلل سياسي يكاد يكون كاملا. فغياب الرئيس عن سدة الحكم، ووجود حكومة مختلف على شرعيتها بين شرائح كبيرة من المجتمع اللبناني، وعدم قدرة المجلس النيابي على التوصل إلى قرار مصيري بشأن انتخاب رئيس جديد للبلاد، لا يعني فراغا دستوريا فقط، بل شرخا عميقا في البنية السياسية التي نشأت بموجبها الدولة، منذ الاستقلال.
البنية السياسية التي نشأت بموجبها الدولة، كانت ولا تزال هي معضلة لبنان. فهي التي كرست بقايا النظام العشائري القديم، ومنحته قوة الاستمرارية. وهي التي كرست التناحر المستديم بين أبناء الوطن الواحد، حيث أصبح تحقق السلم الاجتماعي في هذه البلاد، مجرد هدنة مؤقتة بين مواجهتين. والغلبة في تلك الصراعات كانت دائما لمنطق القوة، وليس لقانون المنطق والحجة. ولأن قانون القوة ليس حالة ساكنة، بل رهن لتحالفات ومصالح خارجية، كانت المواجهات تنتهي دون حسم، وأيضا دون غالب أو مغلوب. ويضطر الغرماء، في نهاية المطاف، إلى التوصل لحلول توافقية، تعكس في الغالب، قوة الداعم الخارجي لهذا الفريق أو ذاك، ومستوى تغلغله في بنية النظام اللبناني.
في المواجهات الأخيرة، يحمل كل فريق حيثيات، تجعل موقفه السياسي يبدو منطقياً وقانونياً. فالموالاة اعتبرت إميل لحود رئيسا غير شرعيا، في السنوات الثلاث الأخيرة، لأن بقاءه في السلطة جاء نتيجة لتمديد مدعوم من القيادة السورية، وتتصرف الحكومة التي يرأسها فؤاد السينورة، أحد أقطاب المولاة، بموجب ذلك. أما المعارضة، فإنها تتعلل في تأييدها للرئيس لحود، بأن هذا التمديد، ليس الأول من نوعه، وأن تمديدات أخرى جرت من قبل، لرؤساء سابقين، لم يعترض عليها، وكان نصيبها الإقرار من قبل الأغلبية البرلمانية. ولا توفر المعارضة فرصة دون الإشارة إلى عدم مشروعية استمرار الحكومة الحالية في أدائها. والحجة في ذلك، أن هذه الحكومة كانت نتاج تحالفات انتهت بفعل تطور الأحداث، وأن وجودها ليس له علاقة البتة بالحقائق السياسية المتحققة على الأرض. وتؤكد على أهمية انبثاق حكومة توافقية جديدة، تكون تعبيرا حقيقيا عن التوازن، ومستوى تمثيل القوى السياسية المحركة، في النسيج الاجتماعي اللبناني. إن الحكومة اللبنانية، من وجهة نظرهم، ينبغي أن تكون تعبيرا عن توافق مجمل الطوائف اللبنانية، وفقا للعرف الذي دشنه الميثاق الوطني اللبناني. ولأن هذا التوافق مغيب الآن، فإن الحكومة غير شرعية.
الخلاصة، هي أن الناظم لاستقرار الفعل السياسي اللبناني، ليس الحجة والقانون، بل توازنات القوة. وهذه التوازنات، كما أثبتتها الحوادث التاريخية، هي ليست انعكاساً لفعل النخب الاجتماعية في الداخل، بل محكومة بثقل علاقة القوى الخارجية داخل لبنان.
وبسبب هذا الواقع المر والمأساوي، كان قدر لبنان، أن يعيش أزمة سياسية، تحولت في كثير من الأحيان، إلى احتراب أهلي، عند كل محطة انتقال في تداول سلطة رئاسة الجمهورية. القيمة الاعتبارية لمرشح هذا الفريق أو ذاك، ليس في برنامجه الداخلي، ولا في الأسماء التي يطرحها، ولكن بمستوى التماهي مع الاستراتيجيات الخارجية، ومستوى تأثيرها في الساحة الدولية والإقليمية.
قراءة التاريخ اللبناني، منذ استقلاله عام 1943م، حتى يومنا هذا تؤكد أن مسيرة لبنان قد ارتبطت منذ استقلاله حتى يومنا هذا بقصة الصراع للهيمنة على المنطقة، وأن الفترات التي شهدت استقرارا، واسترخاء في المواجهات، قصيرة جدا حين تقاس بالفترات التي تعايش فيها اللبنانيون مع الحروب الأهلية. وكان لكل حقبة رموزها، وممثلوها.
وكانت الأسماء المرشحة مجرد رموز لمشاريع خارجية، خفية أحيانا ومعلنة في أحيان أخرى. كان التمديد لكميل شمعون، والحرب الأهلية التي شهدها لبنان اعتراضا على ذلك التمديد، في نهاية الخمسينيات، تعبير عن الصراع بين حركة التحرر الوطني العربية، وبين مشروع حلف بغداد. وكانت المواجهات المسلحة في نهاية الستينيات، بين الانعزاليين، والفلسطينيين في لبنان استكمالاً للصراع بين الفلسطينيين والصهاينة. وكانت الأهداف متناقضة بين الغرماء، بين من يسعى إلى الحفاظ على التركيبة الديموجرافية اللبنانية، وبين المقاومين الفلسطينيين الذين يصرون على إيجاد موضع قدم بالجنوب ينطلقون منه بعملياتهم العسكرية في مواجهة إسرائيل. ولم يكن الحال، مختلفا عن ذلك في منتصف السبعينيات، حين اشتعلت أعنف حرب أهلية واجهها لبنان في تاريخه، واستمرت بالفعل قرابة خمسة عشر عاماً متواصلة. وكان لاتفاق الطائف الذي شاركت فيه مختلف الأطراف اللبنانية الفضل في التوصل إلى حلول توافقية بين مختلف الفرقاء.
خلال الحرب الأهلية الثانية وتداعياتها، ارتبط الصراع بالأحداث القاسية والدامية التي مرت على عموم المنطقة، وكانت في حالات كثيرة تعبيرا عن انهيار النظام العربي الرسمي. أثناء الحرب الأهلية، جرى توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وكان غزو لبنان واحتلال بيروت عام 1981 أحد إفرازاتها. وشهدت حقبة الثمانينيات اغتيال الرئيس اللبناني الشاب، بشير جميل قبل أن يعتلي سدة الحكم، واعتلاء شقيقه أمين الجميل سدة الحكم. وقد غادر الرئيس جميل موقع الرئاسة في ظروف مشابهة، والصراع على أشده بين المناصرين لسوريا والمعارضين لوجودها في لبنان. والطريف في علاقة النخب اللبنانية بالقيادة السورية هو أن الذين ناصروها بالأمس أصبحوا خصومها الآن، وأن الذين ناهضوها هم الآن حلفاؤها. وكانت نتيجة ذلك الانقسام، قيام حكومتين في آن واحد بلبنان: حكومة عسكرية، تتمركز ببيروت الشرقية، بقيادة ميشال عون قائد الجيش اللبناني رفضتها الحركة الوطنية المدعومة من قبل الحكومة السورية، وحكومة أخرى برئاسة سليم الحص في بيروت الغربية. في تلك الظروف انتخب الرئيس، رينيه معوض، في نوفمبر عام 1989، لكنه قتل بعد أسبوعين من توليه رئاسة الجمهورية، ليخلفه في الحكم إلياس الهراوي، الذي مدد له ثلاث سنوات، بدعم من القيادة السورية، وتأييد من البرلمان اللبناني، وقد شهدت فترة حكمه، حرب الخليج الثانية، وتوقيع اتفاقية أوسلو بين “الإسرائيليين” وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، واتفاقية وادي عربة بين الأردن والكيان الصهيوني، كما شهدت استمرار الحصار الأمريكي على العراق.
في حالات ثلاث، وصل قادة الجيش اللبناني، إلى سدة الحكم، كحل مفروض، أو متفق عليه، للأزمة. المرة الأولى، حين جاء قائد الجيش اللبناني، فؤاد شهاب بعد الحرب الأهلية الأولى. وأصبح رئيسا للجمهورية لمدة ست سنوات، منذ سبتمبر عام 1958، حتى سبتمبر عام 1964م. والمرة الثانية، حين تسلم قائد الجيش ميشال عون سدة الرئاسة، بتوجيه من الرئيس أمين جميل. وكانت المرة الأخيرة، حين تسلم قائد الجيش، إميل لحود سدة الحكم، حتى نهاية الأسبوع المنصرم.
هذا الصراع في جوهره ليس لبنانيا، وإن كانت رموزه لبنانية. والأسماء فيه لا تعني شيئا كثيرا، أكثر من كونها تعبيراً عن صراع إرادات، وصراع بين برامج.
وعلى هذا الأساس، فإن التوصل إلى طرح اسم يجري الاتفاق عليه، إن حصل ذلك في الأسبوع القادم، لن يكون أكثر من محطة استراحة يتنفس فيها المتصارعون الصعداء، ويحضرون لدورة أخرى من المواجهات.
الحل في حقيقته يكمن في منع تحول لبنان إلى ساحة للصراعات الدولية والإقليمية. وهو حل ينبغي في كل الأحوال، ألا يعزل لبنان عن محيطه العربي، والإسلامي، أو تاريخه وجغرافيته وثقافته، ولا عن القضايا العادلة للأمة. وهو حل لن يكون بالإمكان تحققه ما لم يعد النظر في البنية السياسية التي فرضها الفرنسيون على لبنان عشية استقلاله. ليس هناك مكان للمراوحة بين الحداثة والنظام القديم.. وبين العشيرة والفردانية.. إما قيام علاقة تعاقدية تضمن حقوقا متكافئة لأبناء الوطن الواحد، وتؤكد على استقلال إرادته، واحترام خياراته، أو المزيد من الفوضى والاحتراب والبلقنة، وبقاء لبنان معلقا بعيون العاصفة…
cdabcd
yousifsite2020@gmail.com