كل عام وأنتم بخير
حل علينا عيد الفطر هذا العام والواقع العربي، في نظر كثيرين، يتجه نحو الحضيض، بل إلى الهاوية. ففي بغداد عاصمة العباسيين، احتفل العراقيون بالعيد وأرضهم محتلة من قبل التتار الجدد. الطائرات الأمريكية العملاقة تقصف مدن تكريت وسامراء وقلب العاصمة العراقية، في محاولة يائسة لإخماد مقاومة ضارية وباسلة قضت مضاجع الغزاة، وأحالت نشوة اجتياحهم الدراماتيكي لأرض الرافدين إلى جحيم، فغدوا في غمرة تخبطهم يحرقون الحرث والزرع، ويقتلون الأبرياء ويتطاولون على العرض. وفي فلسطين المحتلة، تواصل الانتفاضة المباركة عاصمها الرابع، ومعها تواصل قوات الإحتلال الصهيونية حملات الإبادة والقتل والتصفية والاعتقالات وهدم البيوت، وفي الوقت ذاته يزداد تشبث الشعب الفلسطيني باستمرار المقاومة كطريق للتحرير، رافضا التخلي عن ثوابته الوطنية والقومية ونضاله من أجل نيل حقوقه واسترجاع أرضه وإقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني .
في الجزيرة العربية واليمن والجزائر والمغرب ومصر وأماكن أخرى من الوطن العربي، وفي ظل أزمات اقتصادية واحتقانات داخلية، هناك مواجهات يومية بين عناصر التطرف، وبين السلطات المحلية.. وبدلا من اللجوء إلى معالجة الأزمات المستعصية من جذورها، فإن الجهات المعنية تكتفي بالاستمرار في سياسات الإقصاء والهروب إلى الأمام باعتماد الوسائل الأمنية كسبيل للخروج من الأزمة.
في السودان، لا يزال شبح الحرب بين الحكومة المركزية والجنوبيين يهدد استقرار هذا القطر، ويحول بينه وبين التصدي للمهمات الوطنية الأخرى التي يفترض أن تضطلع بها الدولة باتجاه العمل على تنمية البلاد بشرا ومواردا، ورعاية الصحة والتعليم، وزيادة الإنتاج الزراعي وتحسين الأداء الإداري، ومحاولة العيش في هذا العصر. ويبدو أن الأوضاع السياسة في هذا القطر مرشحة لمزيد من التداعيات بين القوى والأحزاب السياسية المحلية المتنافسة.
وفي سوريا ولبنان، تستمر التهديدات الصهيونية والأمريكية بالتعرض لأمن وسلامة هذين البلدين الشقيقين، تارة تحت ذريعة دعمهما لمنظمات المقاومة الفلسطينية، وتارة أخرى تحت ذريعة تسهيل تسلل المقاومين إلى العراق، ومرة ثالثة بحجة معارضة التدخل السوري في شؤون لبنان، أو تحت يافطة انتهاكات هذين النظامين لمبادئ الديموقراطية، والتفرد بالسلطة وقمع المعارضة وتغييب حقوق الإنسان.. وهي ذات الإتهامات التي سبق أن وجتهتها الإدارة الأمريكية للنظام الوطني الذي كان قائما في بغداد، كمقدمة لتسهيل عملية الإحتلال.
رغم ما تزدحم به مختلف الزوايا في بلادنا من عتمة وضمور بهجة، فإن هناك صور مضيئة، تشير إلى أن الأمة، رغم كل النكبات التي أحاطت بها لا تزال حية.. إنها لا تزال تقاوم.. ولا تزال تقاتل، ومما لا شك فيه، أن الأمة موجودة حيث توجد المقاومة وإرادة التحدي والقتال.. ومع هذه الصورة المشرقة، يتجذر وعي المواطن العربي بحقوقه، وترتفع الحناجر في كثير من بقاع الوطن العربي مطالبة بالإصلاح السياسي، والإنتقال من النظام الثيوقراطي إلى نظام القانون والدستور، والحياة النيابية تأسس في كثير من الأقطار جمعيات حقوق الإنسان والمنظمات الأهلية الرافضة للإستبداد والمنادية بالإنفتاح والتعددية والإصلاح.
ثمة وعي جديد اتضحت معالمه في المرحلة الأخيرة، وغدا محركا للنضالات الاجتماعية الجديدة في الوطن العربي خلاصته الربط بين فكرة الحرية والعدالة.. لقد تكشف بوضوح زيف الشعارات التي غلبت أحد هذه الأهداف على الآخر، وأصبح جليا للجميع، من خلال ممارسة الأنظمة الشمولية التي رفعت شعارات التقدمية والأنظمة المحافظة على السواء، أن غياب أحد هذه الأهداف، فيما مضى قد عكس غيابا محققا للهدف الآخر
وهكذا فإن هذا العيد رغم أجوائه المعتمة، فإن هناك ما يجعلنا نحلم ونتفاءل.. فهناك مقاومة للإحتلال في فلسطين والعراق وتصميم على الإصلاح في كثير من الأقطار العربية، ووعي من نوع جديد، يتجه إلى الأعلى، لمفهومي الحرية والعدالة،..
وفوق ذلك كله هناك حلم جماعي.
والفرق كبير بين أن يحلم فرد منا أو أن تحلم أمة
الحلم الفردي غوص في الخيال، أما الحلم الجماعي فهو تسليم بأهداف كبرى، وتحريض على الاستبسال من أجل جعلها حقيقة..
أمام هذه العلامات المشرقة والمضيئة، أو ليس من حقنا، أن نحتفل، كل على طريقته، بهذا العيد؟!
عبد مبارك، وكل عام وأنتم بخير.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2003-11-26