كلام هادئ في وضع ملتهب
فشل مجلس الأمن الدولي، في إصدار قرار يمنع اتخاذ دويلة «إسرائيل»، لمدينة القدس عاصمة لها، رغم تصويت أربع عشرة دولة، من أصل خمس عشرة، لصالح القرار، وتم ذلك بسبب استخدام الولايات المتحدة ل «الفيتو». ولعل هذه هي المرة الأولى، التي يقف حلفاؤها في الغرب جميعاً ضد السياسة الأمريكية الخارجية.
في الجمعية العامة للأمم المتحدة، صدر قرار بشأن القدس، باعتبارها مدينة محتلة، بأغلبية. وقد عارضت القرار تسع دول، فيما امتنعت خمس وثلاثون دولة عن التصويت. وأكدت الجمعية «أن أي قرارات أو إجراءات، يقصد بها تغيير طابع مدينة القدس أو وضعها أو تكوينها الديمغرافي، ليس لها أثر قانوني، وتعد لاغية وباطلة، ويتعين إلغاؤها امتثالاً لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة». ويعتبر ذلك دون شك، انتصاراً أخلاقياً وسياسياً للقضية الفلسطينية.
الموضوع الذي نناقشه، في هذا الحديث، هو كيفية استثمار الموقف الدولي، المساند لعروبة القدس، في خدمة الكفاح الفلسطيني، من أجل حق تقرير المصير، بما يعنيه ذلك، من حماية لعروبة القدس، وضمان عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، فوق التراب الفلسطيني.
السلطة الفلسطينية، أخذت تكرر، منذ إعلان الرئيس الأمريكي ترامب عزمه على نقل سفارة بلاده، من «تل أبيب» إلى مدينة القدس، أن أمريكا لم تعد راعياً نزيهاً، أو شريكاً في تحقيق السلام، والتسوية بين السلطة والحكومة «الإسرائيلية». لكنه من جهة أخرى، أعلن أن عملية السلام سوف تتواصل، برعاية وسيط آخر، غير الإدارة الأمريكية.
تواجهنا في هذا الموقف الجديد للسلطة الفلسطينية، عدة مسائل. أولاها أن الإدارة الأمريكية، لم تكن في يوم ما وسيطاً نزيهاً، في هذه القضية. فبناء المستوطنات ، منذ احتلال الضفة والقدس والقطاع عام 1967م، في هذه المناطق، كان يتم في الغالب بأموال أمريكية. والأسلحة والغازات وقنابل النابالم التي تستخدم في العدوان على العرب، هي أيضا من صنع أمريكي. والولايات المتحدة، لم تتخذ طوال تاريخ الصراع العربي – الصهيوني، قراراً واحداً مسانداً للعرب. وحتى «اتفاقية أوسلو» السيئة الذكر، والتي أقيمت بموجبها السلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع، كانت في الأصل، نتاج مفاوضات بين منظمة التحرير، وحكومة إسحق رابين، بوساطة نرويجية. وقد اقتصر دور أمريكا على رعاية حفل التوقيع على الاتفاقية، في حديقة البيت الأبيض بواشنطن في عهد الرئيس بيل كلينتون.
يضاف إلى ذلك، أن جميع الرؤساء الأمريكيين، منذ عهد جيمي كارتر، تعهدوا بنقل سفارة بلادهم لمدينة القدس. ولكنهم لم يقدموا على تنفيذ ذلك، ليس من أجل عيون الفلسطينيين، ولكن خشية ردود الفعل العربية، والإسلامية، وبقية دول العالم، من تنفيذ هذه الخطوة.
تفرد ترامب، باتخاذ هذه الخطوة، لأنه رأى أن النظام العربي الرسمي الآن في أضعف حالاته، وأنه من وجهة نظره أعجز عن اتخاذ أية خطوة عملية، لمواجهة الغطرسة والعنجهية الأمريكية، التي تعتبر أخلاقياً ووطنياً وقومياً، إهانة لكل العرب والمسلمين، والشعوب والدول المحبة للسلام في العالم بأسره، خاصة وأن الأمر يتعلق بمدينة مقدسة لا تخص المسلمين وحدهم، بل وتخص أيضاً العالم المسيحي بأسره.
إذاً، فالتعويل على الرعاية الأمريكية بالأصل، كان تعويلاً على الوهم. وقد وجدنا أن كل المبادرات الأمريكية لتحقيق تسوية سلمية مع العدو، كانت تأخذ بشكل تدرجي من الحقوق الفلسطينية، لصالح الاحتلال «الإسرائيلي».
لذا فإقفال هذا الفصل، كان ينبغي أن يتم منذ زمن طويل، للحفاظ، على الأقل قانونياً، ووفقاً لمبادئ الأمم المتحدة، على الحقوق الفلسطينية.
ليس بإمكاننا الآن، تناول قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة، التي صدرت بشأن القضية الفلسطينية، منذ القرار 181، الذي قضى بتقسيم فلسطين مناصفة، بين العرب واليهود. وكيف تآكلت هذه القرارات تدريجيا. فقد بات ذلك معروفاً لكل من يتابع مجرى الصراع مع العدو. فما نهدف له هو إيضاح أن التعويل على الولايات المتحدة، أو هذه المؤسسات، لن يقود إلى استعادة الفلسطينيين لحقوقهم، إذا لم يتلازم باستمرار الكفاح.
وإذا ما انتقلنا إلى الاستراتيجية الجديدة، للسلطة الفلسطينية، التي ترى البحث عن وسيط آخر، بديلاً عن الراعي الأمريكي. فتواجهنا عدة مسائل. أولى هذه المسائل، أن أياً من الدول الكبرى، لم يتبرع حتى هذه اللحظة، ليكون بديلاً عن الإدارة الأمريكية في تحمل هذه المهمة الشاقة.
والمسألة الأخرى، هي أن الصهاينة، لا يقبلون مطلقاً، بإقامة دولة فلسطينية، بالضفة والقطاع، حتى ولو سلمت السلطة بالتفريط بالقدس وبحق اللاجئين الفلسطينيين. فمثل هذه الفكرة مرفوضة تماماً، من كل القوى السياسية في دويلة «إسرائيل»، باختلاف مساربها وتوجهاتها السياسية.
وفي هذه الحالة، فإنه مع افتراض وجود راعٍ دولي جديد، للتوسط بين السلطة والاحتلال، فما هي قوة تأثيره على قرار صهيوني استراتيجي، بعدم السماح بقيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي جرى احتلالها عام 1967م؟ كيف يمكن للراعي الجديد، الذي لا يملك نفوذ الإدارة الأمريكية، فرض أي استحقاق عجزت عن فرضه الإدارات الأمريكية المتعاقبة، التي أعلنت ولو بالكلام تبنيها لقيام دولة فلسطينية مستقلة.
الصهاينة، لن يوافقوا حتى على إقامة دولة فلسطينية منقوصة السيادة. والمرة الوحيدة التي جرى الحديث فيها عن احتمال قيام دولة فلسطينية من قبل حزب العمل «الإسرائيلي»، هي أثناء تصاعد انتفاضة أطفال الحجارة. بما يعني أن طريق المقاومة، هو الذي يفرض على العدو تغيير استراتيجياته. وتلك ليست تمنيات أو مواقف عاطفية، بل هي معطيات تاريخية، وليس من معلم، أقدر على توجيه البوصلة وجهة صحيحة من التاريخ.
yousifsite2020@gmail.com