قوة القانون أم قانون القوة؟!
كالعادة، العراق دائما في واجهة الأحداث. وفي هذا الأسبوع كان هناك حدثان بارزان، الأول موضوع محاكمة الرئيس العراقي السابق، صدام حسين مع مجموعة من أركان النظام السياسي الذي كان سائدا في العراق حتى التاسع من أبريل عام 2003م، والثاني كان إعلان عدد من الحكومات العربية عن استعدادها لإرسال وحدات من جيوشها إلى العراق، للمساهمة في إعادة الأمن والاستقرار لهذا البلد. ومن البديهي أن يكون كلا الموضوعين موضع اهتمام بالغ بالنسبة لنا نحن العرب، لما يربطنا بالعراق من وشائج تاريخية ودينية وقومية، وعلاقات قربى وجوار، ولأن أي شيء يحدث فيه، سلبا أو إيجابا، سوف يلقي مباشرة بظلاله على مجمل الأوضاع في المنطقة.
مصدر آخر لاهتمام هذا الحديث بهاتين القضيتين هو علاقتهما المباشرة بموضوعي القانون والقوة. فقد كان حلم البشرية منذ فجر التاريخ أن تكون القوة عاملا معضدا لسيادة القانون. وكان لبلاد ما بين النهرين شرف السبق في وضع اللبنات الأولى على هذا الطريق. وتبقى مسلة حمورابي معلما شامخا وشاهد إثبات على تلك البدايات. وفي هذا الاتجاه أيضا، ربط فلاسفة الإغريق، وفي مقدمتهم أرسطو طاليس، في كتابه السياسة بين القوة والقانون، وأشاروا إلى علاقة تبادلية بينهما.
ولعل عصر الأنوار الأوروبي، في بعض أوجهه، محاولة لإيجاد صياغة جديدة يتغلب فيها القانون على القوة، والتبشير بنظام جديد قائم على علاقات تعاقدية، تكون فيه القوة حارسا للقانون، وضامنة لحقوق الناس. ويمكن في هذا السياق أن نشير إلى كتاب مونتيسكيو روح القانون وجان جاك روسو في كتابه الموسوم بـ العقد الاجتماعي، وجان لوك في كتابه اتفاقيتان، وحتى حين تكلم ماكس فيبر عن أنظمة الحكم، في كتابه الأخلاق البروتستانتية جعل أرقاها وأكثرها تقدما ما دعاه بالعقلانية القانونية. كان الاستبداد والطغيان الذي شهدته أوروبا في العصر الوسيط محرضا للنخب الفكرية والثقافية لاستنباط رؤى فلسفية وأفكار سياسية جديدة بهدف الخروج من المأزق الذي كانت تعيشه معظم البلدان الأوروبية في تلك المرحلة. وكانت تلك الرؤى والأفكار تعبيرا أيضا عن مرحلة انطلاق جديدة، ما لبثت أن عبرت عن نفسها بانطلاق الثورة الصناعية وانتصار الثورات الاجتماعية في فرنسا وبريطانيا وبلدان أوروبية أخرى.
وحين تحققت الوحدة القومية لتلك البلدان، بدأت مرحلة التوسع، وخانت العقائد التي بشرت بها. ومن هنا بدأ عهد الاستعمار التقليدي، وفي ظل هيمنته أعيد بهت دور القانون وأعيد الاعتبار للقوة. وانتقل دورها من حارس للقانون ومدافع عنه، إلى أن تصبح غاية في ذاتها، ويتبدل دور القانون إلى تابع وضيع مهمته تبرير تجاوزاتها بحق البلاد والعباد. وكانت الضحايا هذه المرة، أجناساً وشعوباً ومناطق أخرى، هي بلدان العالم الثالث وشعوبها. وهكذا تمت الهجمة على هذه البلدان، ومن ضمنها الوطن العربي، مدعومة بمعايير جديدة أخلاقية وقانونية في مظهرها، ولكنها في الصميم منها تختزن مورثات عنصرية ونظرات استعلائية بحق الشعوب التي نالت منها الهجمة الاستعمارية، وأصبحت ضحية لها. وكانت النتيجة احتلالاً مقيتاً واتفاقيات ومعاهدات جائرة، وتقسيماً للوطن العربي إلى مناطق مصالح ونفوذ، وضياع لفلسطين.
وكان انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، مناسبة لكي يعاد، بشكل جزئي، للقانون اعتباره. فكانت مبادئ ويلسون الأربعة عشر، والتي يأتي في المقدمة منها حق الشعوب في تقرير المصير، ونشوء عصبة الأمم.. وجاءت نتائج الحرب العالمية الثانية، وبروز المعسكر الاشتراكي، كقطب منافس للرأسمالية، وصعود الاتحاد السوفييتي إلى قوة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأمريكية، والإعلان عن قيام هيئة الأمم المتحدة، خطوات على طريق تعزيز الانتصار للقانون، في الصعيدين المحلي والدولي، على حساب مبدأ الهيمنة واستخدام القوة.
الملاحظ هنا أن انتصار مبدأ القوة مرتبط بالهجمة الاستعمارية، وسيادة مفهوم الاستبداد والهيمنة، وتفرد قطب معين بذاته بالسيطرة على القرار الدولي. وعلى العكس من ذلك تماما، يبرز دور القانون ويتراجع مفهوم القوة كلما تعددت الأقطاب، وضمن المجتمع الإنساني توازن الرعب بين مختلف القوى الدولية المتصارعة.
ومن هنا تبدو مفهومة طبيعة الهجمة الأمريكية، منذ بداية التسعينات وحتى يومنا هذا على المنطقة العربية، وانحيازها الصارخ والمفضوح للكيان الصهيوني، والتي بلغت أعلى مراحلها بالحرب على أفغانستان واحتلال العراق. فهذه الهجمة تأتي بعد تفرد الولايات المتحدة على عرش الهيمنة الدولية، وغياب توازن الرعب بين الدول العظمى لصالح أمريكا. لقد غيب في هذه المرحلة دور هيئة الأمم المتحدة، باعتبارها المؤسسة الدولية التي من صلاحيتها حماية الأمن والسلم العالميين. وكنتيجة طبيعية لذلك تراجع القانون لصالح القوة. وهكذا رأينا ذات القوى الدولية التي رفضت أن تمنح الإدارة الأمريكية ضوءا أخضر للعدوان على العراق، بما دفع هذه الإدارة أن تذهب بجيوشها وأساطيلها للعراق، دون استصدار قرار من مجلس الأمن، هي ذاتها التي تشرعن الآن لبقاء القوات الأمريكية في العراق، تحت عناوين ويافطات جديدة، تارة تحت ذريعة القوات المتحالفة، وأخرى باسم القوات المتعددة الجنسيات، ومرة ثالثة تحت مبرر حماية الأمن والاستقرار في العراق.
وفي ظل انتصار أسلوب القوة، وتراجع القانون، محتوى ومؤسسات، يصبح مفهوما أيضا المسرحية الهزيلة التي أقدمت عليها قوات الاحتلال بمحاكمة الرئيس العراقي وأركان النظام السابق. فأمام هيمنة أسلوب القوة تضيع المعايير القانونية، وتغيب أبسط إجراءات حق الدفاع عن النفس، وتوجه التهم جزافا. فالتهم المنطقية، والمنسجمة، في حدها الأدنى، مع الذرائع الأمريكية للغزو هي حيازة أسلحة الدمار الشامل وإقامة علاقات مع تنظيم القاعدة. وكلتا التهمتين ثبت بطلانهما، بما يعني بطلان مبررات الغزو والعدوان. وقد أدرك المحتلون ذلك، فلم يضمنوا هذه التهم ضمن لائحة الاتهام التي وجهوها لقادة النظام الذي كان قائما في العراق حتى لحظة احتلاله، بل توجهوا إلى تهم أخرى، اختلط فيها ما هو مرتبط بالقوانين الجنائية المحلية، وتلك التي لها علاقة مباشرة بالقانون الدولي. وعقدت المحكمة جلستها الأولى، في ظل غياب أي قانون تستند إليه. فلا هي معترفة بالقانون الذي كان قائما حتى بدأ العدوان، ولا هي أوجدت بديلا عنه. وغيب عن الصورة، عن عمد وسابق إصرار، منظر الحراس الأمريكيين الذين اقتادوا الأسرى، أو المعتقلين، لا فرق، كي لا تضيع هيبة المحكمة ويتوارى جلال الاستقلال الذي لم يجف بعد الحبر المسكوب في الصياغة والتوقيع على صكوكه. وبجرة قلم، انتقل المتهمون من وضع أسرى حرب، يتمتعون بما ضمنته المواثيق الدولية بحق الأسرى، وبخاصة اتفاقية جنيف، إلى متهمين، يخضعون لعقوبات جنائية.
وحتى في التهم الموجهة للمسؤولين العراقيين السابقين، وجهت تهم، تكشف سوآت الأمريكيين أكثر مما تكشف سوآت النظام العراقي السابق، كالحرب على إيران. وهي تهمة عجزت الأمم المتحدة في السابق، بكل هيبتها وعظمتها أن تبت فيها، نتيجة لتدخل القوى العظمى. وكان أحرى أن يكون توجيه هذه التهم مطلبا إيرانيا، لا أمريكيا، خاصة أن الدور الأمريكي في تلك الحرب، مفضوح، ومعلوم لكل ذي بصيرة، وإثبات هذا الدور، في غنى عن الجدال والمناقشة. ومثل هذا القول، يصدق على غزو الكويت، فالمحاكمة بشأنه، أيا تكن مستوى التهمة والعقوبة، ينبغي أن تكون دولية لا جنائية، اتساقا مع ما جرى للقادة اليوغسلاف الذين لا يزالون يخضعون لمحاكمة دولية حتى يومنا هذا. يبدو أن المواقف الغربية العنصرية المعادية للعرب ليس لها حدود، وإلا فلماذا التمييز بين المحاكمتين، أم إنه عقوبة للعراقيين الذين علموا البشرية في بواكير حركتها، منذ عهد حمورابي كيف تغلب لغة القانون على جبروت القوة؟.
الغريب ليس موقف الإدارتين الأمريكية والبريطانية في هذا الشأن، ولكن موقف بعض الأنظمة العربية التي سارعت لتأييد الاحتلال الأمريكي للعراق، وهي المرتبطة معه بمواثيق أمن ومعاهدات دفاع مشترك، وأيدت المحاكمة، وأعلنت تماهيها مع السياسات الأمريكية، معلنة عن استعدادها إرسال قوات عربية للعراق للمساهمة فيما عجز عن تحقيقه جيش الاحتلال الأمريكي من أمن واستقرار.
إن خطورة هذه المواقف هي أنها تغلب القوة على القانون، وأنها تضع سابقة غير مقبولة أبدا، في الخروج على المواثيق الدولية ومبادئ الأمم المتحدة. وهي تضعنا جميعا تحت رحمة السلطان اليانكي وغطرسة القوة. وهي أيضا غير مقبولة أخلاقياً، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الصرخات والاستغاثات المتتالية التي يطلقها الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات من سجنه في رام الله طالبا الحماية للشعب الفلسطيني الذي يتعرض لحملات إبادة من قبل حكومة شارون. ليس مقبولا أبدا من الحكام العرب أن يصمتوا أمام نداءات أهلهم في فلسطين الذين يطلبون الحماية لنسائهم وأطفالهم، ويواجهون بالسياط الشارونية والفيتو الأمريكي، في حين يسارعون، الواحد تلو الآخر، تلبية لنداء المحتل، بإلإعلان عن استعدادهم لإرسال أبنائهم لمقاتلة العراقيين الرافضين للعدوان.
ما لم نغلب لغة الأخلاق والعقل وننتصر لمبادئ القانون على حساب القوة، فلن يكون أمامنا إلا المزيد من الانهيارات والسقوط.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-07-07
التعليقات
2000-00–0 0-:00
محمد الصدقي من مغرب
شكرا