قضايا مهمة أمام مراكز البحوث الاستراتيجية
تهتم المراكز البحثية الاستراتيجيىة عادة بصياغة توقعاتها السياسية، لمدى منظور، قد يصل إلى عقدين قادمين، هو كما الحال في مراكز البحث الأمريكية، التي عملت في مطالع هذا القرن، على التنبؤ بما سوف يكون عليه العالم عام 2020. وكان من أهم توقعات تلك المراكز أن الصين الشعبية، ستكون متعادلة في قوتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأنها بعد ذلك التاريخ سوف تتفوق على أمريكا وتصبح القوة الأعظم اقتصاديا فوق كوكبنا الأرضي.
بعض التوقعات، أشارت إلى أن الولايات المتحدة لن تنتظر حتى تلك اللحظة، بل ستقدم على إشعال حروب عسكرية واقتصادية مدمرة للحيلولة دون وصول الصين إلى المركز الأول في قيادة اقتصاد العالم.
وعلى الصعيد العربي، صدرت تقارير منذ منتصف السبعينيات، عن احتمال إعادة رسم الخارطة السياسية بالمنطقة العربية، بعد أن استنفذت اتفاقية سايكس- بيكو أغراضها. وأن الخارطة الجديدة، ستنتهي بتقسيم الكيانات الوطنية القائمة إلى مستوطنات مجهرية، بحيث يتجاوز تعداد الدول العربية ما يزيد على المائة دولة. وكان لمعهد راند الأمريكي دور الريادة ليس فقط في التنبؤ بما سوف يحدث، بل أيضا في صياغة السياسات والاستراتيجيات لتحقيق مشاريع التفتيت. وكان الأهم بين ما أصدره من تقارير هو المعنون بالاستراتيجية الكبرى Grand Strategy.
المراكز البحثية العربية، للأسف لا تزال محدودة في عددها وإمكانياتها، وتفتقر إلى الموارد التي تمكنها من تحقيق رسالتها في خدمة الأمن القومي العربي. لكن القلة لم تمنع بعضها من التغلب على أزمة غياب الموارد المالية، وأصبحت تحاول تقديم ما يمكن بالنزر اليسير الذي تمتلكه، من تبرعات أفراد، ومما يتأتى لها من مبيعات إصداراتها. وعلى رأس هذه المراكز، مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، الذي أمضى خمسة وثلاثين عاما في خدمة الثقافة والفكر العربيين.
بشهر ابريل 2015، وعلى مدى يومين كاملين استضاف المركز نخبة مختارة من المفكرين والمثقفين العرب، في اجتماع تشاوري لمناقشة مستقبل الأمة وما ينبغي على المركز تقديمه من بحوث وحلقات نقاشية وندوات كبرى خلال السنوات الأربع القادمة. وكان لي شرف المشاركة في تلك المناقشات العميقة والمثمرة.
لقد دأب هذا المركز على صياغة برنامجه العلمي كل أربع سنوات، واعتاد قبل صياغة برنامجه استضافة علماء وباحثين لتقديم اقتراحاتهم لأهم المحاور البحثية التي ينبغي أن يتضمنها البرنامج العلمي للمركز خلال أربع سنوات. وطبيعي أن تكون إسقاطات الواقع العربي الراهن، المتسم بالفوضى والدمار، والتسعير الطائفي والإثني من أهم المحاور التي ينبغي أن يسلط عليها المركز مستقبلا اهتماماته. والأسئلة عن أسباب حالة الانهيار التي تمر بها الأمة كثيرة ومتشعبة.
هل ما جرى هو بسبب انتشار الأمية، أم بسبب الفوارق بين الغنى والفقر، أم أن ذلك سببه اختراقات خارجية، وجدت في هشاشة البنية الاجتماعية، والانقسامات الأفقية والرأسية في الواقع العربي، مجالها فتمكنت من تحقيق اختراقاتها. أم أن القضية هي في ضعف مقاومة الأنظمة العربية، وعجزها عن مقابلة استحقاقات شعوبها، وهل تعود المعضلة إلى ضعف الموارد التي المالية والاقتصادية القادرة على رفد عمليات التنمية بكل تشعباتها، وما هي أدوار القوى الإقليمية في هذه الانهيارات، وهل لذلك شأن بالمشروع الصهيوني الذي عمل في السابق ولا يزال على إضعاف الأمة، وحرمان الفلسطينيين من حقهم في العودة وتقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة فوق ترابهم الوطني.
بالتأكيد حضر النفط والمياه والبيئة والتكامل الاقتصادي العربي، والتنسيق بين البلدان العربية في الكهرباء والمواصلات والتربية والتعليم، والعلاقة بين العرب والدول الكبرى وأوروبا وأسيا وأمريكا اللاتينية… وقضايا كثيرة أخرى شملتها هذه المناقشات.
وجهة نظري ركزت على أن الأفكار كما معظم الأشياء، خاضعة لقانون الحركة. إن ذلك يقتضي ضرورة المراجعة النقدية المستمرة ليقينياتنا. إن هذه المراجعة ينبغي أن تكون من داخل البنية الفكرية العربية وليس من خارجها. ومثل هذه المراجعة النقدية التي تجري من الداخل هي وحدها التي تتكفل بتجديد الفكر، بعد أن تضعه في سياق التحولات التاريخية، التي شهدها الوطن العربي، لحظة انبثاق هذا الفكر، والتطورات اللاحقة التي حدثت فيه، وتأثير التغيرات في موازين القوى الدولية، في حركته، وفي صياغة مفاهيمه.
ثمة مراحل مر بها الفكر العربي، ينبغي أن تكون موضع اهتمام مراكز البحوث، فقد انتقل هذا الفكر من طابعه الجنيني كمشروع في مواجهة الذويب والاضطهاد العنصري من قبل الأتراك، إلى تأسسه كتيار شعبي واسع، في ما قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الثانية. ووضع في سياق حركة التحرر الوطني، العالمية، وفي ساق مواجهة المشروع الصهيوني بالمنطقة العربية.
اقتنص العرب لحظة تخلخل النظام الدولي، لينتزعوا الاستقلال السياسي لبلدانهم، إما بالاتفاق أو بالكفاح المسلح. وقد تركت الوسائل التي تحقق بها استقلال البلدان العربية، بصماتها واضحة على مسيرة الأمة، مؤدية إلى انشطارات سياسية حادة في المجتمع العربي. وقد اكتمل استقلال البلدان العربية في نهاية الستينيات ببروز مشروع حزب العمال البريطاني للانسحاب من شرق السويس. فكان أن نالت دول الخليج العربي استقلالها، إثر ذلك الانسحاب.
في هذه المرحلة نشهد تخلخلا أخر في موازين القوى الدولية. ومع أن شكله مغاير أدواته مختلفة، فإنه يتيح لنا فرصة تاريخية إن تمكنا من اقتناصها، ووضعه في خدمة أهدافنا النبيلة.
اقتناص هذه اللحظة، يفرض على مراكز البحوث، تحليل الواقع وقراءة التجربة الصعبة التي مرت بها الأمة، منذ نكسة يونيو 1967، والتغيرات البنيوية التي أحدثها وجود النفط، كمعطى موضوعي، أثر إيجابا وسلبا على مسيرة العمل العربي، وتسبب في حروب عدة بالمنطقة. كما يتطلب وضع الكيانات الوطنية، في سياق هذه التغيرات، بما يقتضي مراجعة نقدية لمفهوم الأمة، وللعناصر التي صنعتها، بما يتسق مع المرحلة الراهنة.
ينبغي أن تعمل مراكز البحوث على الانتقال بفكرة الوحدة، من طابعها الرومانسي إلى فكرة أساسها تأمين مصالح الناس، فيجري التأكيد على التكامل بدلا عن التماثل، والاتحاد بديلا من الاندماج، واعتبار بناء الوحدة مهمة تجري أفقيا وليس رأسيا. لكن ذلك ليس فصل الختام… فطالما استمرت الحياة، تستمر المراجعة، وعكس ذلك سيكون التسليم بأسطورة نهاية التاريخ.