قراءة في نتائج مؤتمر القمة

0 158

لم يحدث أن صادفت قمة عربية سابقة ذات الظروف والتعقيدات والصعوبات التي واجهتها هذه القمة. فقد واجهت القمم العربية ظروفا مشبعة بهزائم وأزمات وظروف محلية بالغة التعقيد، لكنها على الأقل، لم تكن تعيش حالة التشظي والإنقسام التي تمر بها في هذه المرحلة، كما لم تكن تعاني من الضغوط الخارجية والداخلية التي تعصف بها الآن.

 

كانت الصراعات بين الأنظمة العربية، خلال الخمسينيات والستينيات، وحتى السبعينيات تتمحور حول خلافات ذات علاقة بالآيديولوجيات والمناهج. وكانت الأقطار العربية تعيش حالة الحرب الباردة وتنقسم في ولاءاتها إلى أحد القطبين العظميين، وتحتمي بمظلتهما. وفي ظل الصراع المستعر بين الإتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، كان النظام الذي يرتبط بأحد هذين القطبين يجد حظوة، ويعامل بتدليل وأحيانا بأريحية من قبل القطب الرئيس. أما الآن، وبعد تفرد الولايات المتحدة بالهيمنة على العرش الدولي، فلم يعد هناك من موجب للتدليل أو الأريحية. بل إن الإدارات الأمريكية بدأت تتعامل مع حلفائها، بأسلوب الكاوبوي وبذات الطريقة التي تعامل بها الملاك ومزارعو الحقول بالولايات الجنوبية الأمريكية مع السود، كعبيد وأقل بكثير من الأجراء.

 

في هذا المناخ، وفي ظل العجز انعقدت القمة العربية. وقد عكس برنامج عملها شعورا بقوة الضغط الأمريكي على المؤتمرين، أخذ يشكل هاجسا لهم منذ فترة طويلة، خاصة بعد 11 سبتمبر 2001م واحتلال أفغانستان والعراق. ولا شك أن هذا الشعور كان من بين الأسباب التي أدت إلى تأجيل موعد انعقاد المؤتمر عما كان مقررا له في الأصل، كما عكس نفسه في غياب عدد كبير من القادة عن المؤتمر وتكليفهم من ينوب عنهم في اجتماعاته.

 

ولعل تسليط الضوء على جدول أعمال القمة، والنتائج التي توصل لها المؤتمرون يزيح كثيرا من الشكوك حول مقدمتنا هذه. فقد كان على جدول أعمال المؤتمر أربعة بنود رئيسية هي على التوالي: إصلاح جامعة الدول العربية والإصلاح السياسي في الأقطار العربية، ومن ضن ذلك مناقشة وثيقة العهد التي تقدم بها ولي العهد السعودي، الأمير عبد الله بن عبد العزيز، والموقف من قضية فلسطين وسياسات شارون، وبخاصة فيما يتعلق بقيام الدولة الفلسطينية والتمسك بخارطة الطريق، وتأكيد حق العودة للفلسطينيين، وعمليات الإغتيال الواسعة التي تقوم بها قوات الإحتلال الإسرائيلي بحق قيادات المقاومة، وأخيرا موضوع الإحتلال الأمريكي للعراق، وتحديد موقف واضح من مشاركة مجلس الحكم الإنتقالي المعين من قبل المحتلين في اجتماعات القمة، وطبيعة هذه المشاركة ومستواها.

 

ويمكن القول أن الضغوط الأمريكية كانت حاضرة بقوة، حتى وإن لم يعلن أحد عنها، وسواء كانت تلك الضغوط مباشرة، بمعنى أنها موجه إلى المؤتمر ذاته، أم أنها عبرت عن نفسها في جملة من المواقف التي اتخذها بعض القادة العرب، مدفوعين بالحرص على عدم تسجيل أي شيء من شأنه أن يغضب الإدارة الأمريكية. وقد ألقت تلك الضغوط بظلال كثيفة، وكئيبة على جملة النتائج التي توصل لها المؤتمرون.

 

ففيما يتعلق بالبند الأول، كان هناك مشروع متكامل لإصلاح جامعة الدول العربية، يسجل للأمين العام للجامعة، السيد عمرو موسى أنه عمل جاهدا على أن يمثل هذا البرنامج تطلعات الشعب العربي، وما يتوقع من زعمائه أن يضطلعوا به في هذا المنعطف الخطير والحاسم من التاريخ. فقد شمل المشروع رؤية متكاملة لمشروع عمل قومي مستقبلي، تضمن قيام مجلس أمن عربي، على غرار مجلس الأمن الدولي، وأن يتم اختيار الأعضاء الدائمين في هذا المجلس بناء على الثقل البشري والاقتصادي والدور السياسي والحضاري للقطر العضو، وأن يشمل عددا آخر من الأعضاء، من بقية الأقطار، يتناوبون دوريا على عضوية المجلس. كما اقترح المشروع تشكيل محكمة عدل عربية، يلتزم القادة العرب باللجوء إليها للفصل في خلافاتهم ومنازعاتهم. إضافة إلى ذلك، رأى المشروع أهمية تكوين برلمان عربي، يصبح بمثابة الجمعية العمومية لجامعة الدول العربية، يقوم بدور دستوري واستشاري، ويشكل قوة ضغط شعبية على القادة العرب، كي يلتزموا بالثوابت الوطنية والقومية، ويعملوا على كل ما من شأنه تعزيز القوة والموقف العربي. ورأى المشروع أن يكون ما يجري التصويت عليه ملزما، وليس مجرد توصيات، وأن يتم تبني المواقف المطروحة بالأغلبية وليس بالإجماع، تجنبا للإنفلات والتمييع، وهدر الجهود.

 

في هذا البند، لم يجر تبنى أي موقف جدي ينسجم مع الجدية التي صيغت بها المواضيع المطروحة في مشروع الأمين العام للجامعة. واكتفى البيان الختامي بالتأكيد على أهمية الإنجاز التاريخي المتمثل في ميثاق جامعة الدول العربية الصادر في 22 مارس/ آذار من عام 1945، والإعلان عن الإلتزام ببنوده وتنفيذ المقررات المتخذة في إطاره. ووردت في هذا الصدد عبارات مطاطية، كالتعهد بالعمل على تحقيق مستقبل أفضل للدول العربية وشعوبها، تجنبا لويلات الفتنة والفرقة والتناحر، من ذون إشارة إلى الآليات التي تضمن ذلك.

 

وفي هذا الصدد وقع وزراء الخارجية العرب على وثيقة العهد، التي أشرنا لها في صدر هذا الحديث، وأقسم القادة على الالتزام بها. ومع أن القادة العرب في هذه الوثيقة ألزموا أنفسهم بكثير من التعهدات، لكن المواطن العربي لن يأخذ ذلك بالجدية التي تستحقها. فقد شهد هذا المواطن تعهدات مماثلة من قبل، سرعان ما ذهبت أدراج الرياح أمام الضغوط التي يتعرض لها القادة العرب. ولا تزال حاضرة في الذهن جملة التعهدات والوعود التي قطعها القادة العرب على أنفسهم في مؤتمر بيروت، أثناء التحضير للعدوان على العراق. لقد ضاعت تلك الوعود جملة وتفصيلا، وأصبح احتلال العراق أمرا واقعا.. بل وانطلق العدوان من أراض عربية تعهد قادتنا بالإلتزام بمواثيق الجامعة ومعاهداتها.

 

إن هناك أزمة ثقة يجب مواجهتها والإعتراف بها بين المواطن العربي وقادته، وهي أزمة نشأت بفعل التجارب المريرة والفشل الذريع الذي استمر طيلة النصف قرن المنصرم. ولكي يعاد للمواطن العربي الشعور بالثقة وتتعزز العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، فينبغي أن ينبني العمل العربي على آليات، تشمل هياكل قوية ولوائح واضحة تتضمن عقوبات وجزاءات، بضمنها التجميد والطرد من عضوية الجامعة لمن لا يلتزم بقراراتها. لا يمكن أن يستمر العمل على مجرد النوايا، والثقة في مواقف وقرارات ثبت في الماضي أنها لم تكن تعني شيئا لموقعيها، وأنها لم تساوي الحبر المسكوب في صياغتها.

 

البند الثاني، الذي هو بند الإصلاح السياسي، اختزل في وثيقة العهد. وكان من المتوقع أن يرد العرب على مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي تقدمت به الولايات المتحدة الأمريكية لقمة الدول الثماني، وهو مشروع شمل مطالب أمريكية واضحة ومحددة حول الإصلاح السياسي والإندماج مع الصهاينة في مشروع شرق أوسطي، وافق عليه بعض القادة العرب المتحمسين للسياسات الأمريكية في المنطقة، ورفضه قادة يشكلون ثقلا رئيسيا في النظام العربي الرسمي، كالمملكة العربية السعودية ومصر وسوريا. وكانت مبررات الرفض لهذا المشروع منطقية وواقعية تضمنت القول باختلاف الثقافات والمعايير، وأن الديموقراطية يجب أن تنبع من الداخل ومن حاجة البلدان العربية، وليس عن طريق الإملاء من الخارج. وليس لدينا اعتراض على منطقية هذا الطرح، لكننا توقعنا أن لا يكون الرفض لهذا المشروع سلبيا، وعاجزا، وأن يكون هناك مشروع عربي مواز له وبديل عنه. وإلا فإن من المتوقع أمام غياب البديل، أن تستمر الضغوط الأمريكية باتجاه تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير، في ظل فراغ واضح وغياب كلي مؤكد لاستراتيجية المواجهة. وسيقدم ذلك عذرا على طبق من ذهب للمتواطئين مع المشاريع الأمريكية، واللاهثين خلف سراب جناتها الموعودة، لكي يلتحقوا بقافلة المشروع الأمريكي..

 

بالنسبة للبند الفلسطيني، تخلى القادة العرب عن عام 2005 كموعد نهائي لقيام الدولة الفلسطينية، وهو موعد أكدت عليه وثيقة خارطة الطريق الأمريكية. وهكذا قدم العرب تنازلا آخر على طريق التسليم بالمطالب الصهيونية. ولم يكتفوا بذلك بل سجلوا إدانة تبدو واضحة للعمليات الإستشهادية، حين أدانوا في بيان القمة العربية قتل المدنيين، وهو تعبير دأبت الإدارة الأمريكية والصهاينة على استخدامه، في إشارة إلى المدنيين الإسرائيليين، ويشمل ذلك المستوطنين الصهاينة في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومغتصبي أرض فلسطين.

 

أما البند الرابع المتعلق باحتلال العراق، فلم تصدر إدانة عربية واضحة للاحتلال، ولا لحملات الحصار والتنكيل التي تتعرض لها المدن العراقية. وجرى التأكيد على استقلال العراق ووحدة أراضيه، وهي ذات العبارات التي تستخدمها الإدارة الأمريكية. وفيما يتعلق بقضايا التعذيب التي يتعرض لها العراقيون في سجون الاحتلال، تبنى المؤتمرون أيضا الموقف الأمريكي، وحملوا السجانين مسؤولية تلك الأعمال، وطالبوا بالتحقيق معهم وإدانتهم، وهو موقف سبقهم جورج بوش ورامسفيلد في تبنيه. وللأسف تناسى المجتمعون أن الاحتلال الأمريكي هو الجريمة الكبرى، وأن ما تلاه ليس إلا بعضا من إفرازاته.

 

وتبقى قضايا أخرى مهمة، ذات علاقة بنتائج القمة العربية الأخيرة، جديرة بالمناقشة في حديث آخر بإذن الله

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2004-05-26

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

14 + 5 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي