قراءة في نتائج الإنتخابات البرلمانية اللبنانية
سيكون من المستعصي على الفهم قراءة نتائج الانتخابات البرلمانية اللبنانية، إن لم توضع هذه الانتخابات في السياق تاريخ لبنان المعاصر، لبنان ما بعد الاستقلال، والتطورات اللاحقة التي حكمت مسيرته، وبشكل خاص تلك التي شهدها المسرح السياسي، في المرحلة التي أعقبت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل، السيد رفيق الحريري، وحرب تموز عام 2006، والتي أسهمت مجتمعة في استمرار حصد فريق 14 آذار لأغلبية المقاعد في المجلس النيابي.
ومن باب التذكير، تقتضي الإشارة إلى أن البنية السياسية في لبنان هي نتاج لـ “ميثاق وطني” غير مكتوب بين النخبة التي فاوضت الفرنسيين على الاستقلال. وبموجب هذا الميثاق تم الاتفاق على أن تكون قسمة المراكز السياسية في الدولة اللبنانية، على أسس طائفية، وفقا للكثافة الديموغرافية لكل طائفة. تكون رئاسة الجمهورية للمارونيين، ورئاسة الحكومة للسنة، ورئاسة مجلس النواب للشيعة. وللدروز أحد الوزارات السيادية: الداخلية، الخارجية، الدفاع. وهكذا
وهكذا استند النظام السياسي، في لبنان ما بعد الاستقلال، على بنية طائفية، أسهمت التطورات اللاحقة، ودور القوى الإقليمية والدولية في تعزيزها. وقد أصبح للروابط الإقليمية والدولية شأن كبير في صياغة مستقبل لبنان. ارتبطت الطائفة المارونية تاريخيا بالفرنسيين، والارثوذكسية بالروس، والسنة في الخمسينيات والستينات بمصر، ولاحقا بالسعودية والدروز انتقلوا في تحالفاتهم، بين فرنسا وروسيا ومصر وسوريا، وأخيرا شهد تحالف 14 آذار علاقات قوية مع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، واحتفظوا بعلاقات جيدة مع السعودية ومصر وعدد آخر من الدول العربية. أما الشيعة، فكانوا حتى تأسيس حركة أمل بدعم من شاه إيران لم يكونوا منظمين، وكانت عائلة الأسعد المحافظة والتقليدية تحتفظ برئاسة البرلمان لفترة طويلة. لكن التطورات اللاحقة فرضت أمل وحزب الله كعنصرين فاعلين، حظيت أمل بتأييد الرئيس السوري، حافظ الأسد، وبعد الثورة الإسلامية، واعتبارا من العام 1983، بدأ حضور حزب الله بدعم وتوجيه إيراني مباشر.
والواقع أن التركيبة الطائفية في لبنان لم يعبر عنها، حتى نهاية الخمسينيات، بفصل مناطقي مناطقي. فقد كانت المدن الرئيسية اللبنانية، تضم أفرادا، من مختلف الطوائف. لكن هذه التركيبة تغيرت جذريا عما كانت عليه عشية الاستقلال. ويعود ذلك التغيير لحدثين رئيسيين: الأول هو الحرب الأهلية الأولى عام 1959 بين المارونيين وحلفائهم، الذين عرفوا آنذاك باليمن اللبناني، والحركة الوطنية، التي كانت في غالبيتها من الأحزاب السياسية المناوئة لسياسات الغرب. السبب الرئيسي في تلك الحرب هو صعود التيار القومي، ومواجهته لحلف بغداد، وانقلاب 14 تموز في العراق، وطرد البريطانيين من قاعدتي الشعبية والحبانية. كان اليمين اللبناني، يعمل للالتحاق بحلف بغداد، وقد شجع الأمريكيون الرئيس اللبناني، كميل شمعون على تغيير الدستور، للحصول على دورة رئاسية ثانية، لاستكمال مهمة إلحاق لبنان بحلف بغداد. ووقف الوطنيون والقوميون في مواجهة محاولات الرئيس شمعون.
بدأت الحرب الأهلية اللبنانية الأولى. ووجهت اتهامات لنظام الرئيس عبد الناصر، بدعم القوميين بالمال والسلاح، وتقدمت الحكومة اللبنانية بشكوى لمجلس الأمن. وفي تلك الأثناء أسقط حلف بغداد ومعه سقطت محاولات كميل شمعون للتمديد الرئاسي لحقبة ثانية. وجاء إلى الحكم رئيس أركان الجيش اللبناني، فؤاد شهاب، كرئيس توافقي ساندته كل الأطراف اللبنانية. وانتهت الأزمة الأولى، لكنها أحدثت تغييرا في البنية السكانية للبنان، حيث انتقل المسيحيون إلى مناطق يعتبرونها آمنة. وبالمثل انتقل المسلمون شيعة وسنة ودروز، إلى أماكن “آمنة”.
تكرر ذلك في الحرب الأهلية بلبنان عام 1975، ليستكمل التشكيل الديموغرافي المؤسس على الانتماء الطائفي. هذا يعني أن نتائج الانتخابات في كل مرة ستكون محسومة نتائجها، وفقا للتركيبة الطائفية، طالما بقي المشروع السياسي المدني مغيبا.
كانت الصراعات الانتخابية، قبل الحرب الأهلية الأخيرة، تجري بين قوى تقليدية محافظة تتنافس فيما بينها. لم يكن هناك وجود للقيادات المعاصرة: الحريري، وحلفائهم من سنيورة إلى تفتف. كما لم يكن هناك تنظيم أمل وحزب الله. ومن المسيحيين لم يكن هناك عون أو جعجع. وكانت الإنتخابات طيلة تاريخ لبنان الحديث تجرى، بعيدا عن الأجندة اللبنانية، وتحكم مسارها الأجندات الإقليمية والدولية. إن ذلك يعني أن فوز فريق ما بالانتخابات، هو تعبير عن التصميم والثقل الدولي أو الإقليمي للأطراف التي تقف خلف هذا الفريق أو ذاك، والتي تقدم للفرقاء المساندة والدعم، وليس مصالح اللبنانيين.
وليس سرا أنه في الانتخابات الأخيرة وقف الأوربيون والأمريكان ومعظم الدول العربية، التي تخشى من اتساع الهيمنة الإيرانية على لبنان، وفي المقدمة منها مصر والسعودية، خلف الموالاة. أما المعارضة، فإنها واصلت تلقي الدعم من إيران وسورية. لكن النظامان السوري والإيراني، يمران الآن بمرحلة انتقالية، لا تبدو واضحة المعالم، حتى بالنسبة لهما.
فسوريا التي كان حضورها قويا في لبنان لأكثر من أربعة عقود. والتي كانت ترى في ذلك الحضور، ورقة تقوى من خلالها دورها السياسي، وتحسن أوراقها في المواجهة مع الكيان الصهيوني، وبخاصة في ما يتعلق باستعادة الجولان المحتل، أصبحت ترى في لبنان عبئا، يحول دون التحاقها بـ “عملية التسوية”. بمعنى أن إسنادها لحزب الله أصبح مثار غضب أمريكي وأوروبي على سياساتها. والآن بعد الوساطة التركية، تمر السياسة السورية بمرحلة انتقال، ربما تفضي بالنظام إلى تحييد علاقته بحزب الله.
والحال هذا ينطبق إلى حد كبير، على إيران، التي هي وفقا لرؤية فريق أوباما، يمكن أن تكون عنصرا فاعلا في الصراع الدائر في أفغانستان وباكستان، والعراق. وقد كشفت الشهور الأخيرة عن تنسيق معلن بين كرازي ونجاد وزرداري، وقيل في هذا السياق أن هذه البلدان ستنسق سياساتها في مواجهة القاعدة وطالبان. أما العراق، فإن العملية السياسية، التي فرضتها إدارة الاحتلال برمتها، على أسس طائفية، قد ارتبطت منذ البداية بدعم إيراني، والتفاصيل في هذا السياق معروفة. إضافة لذلك، كانت إيران نفسها مشغولة بحملتها لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، في وقت الوقت الذي كانت فيه معركة الانتخابات النيابية محتدمة بلبنان. ولم يكن واضحا حتى تلك اللحظة، ما إذا كانت نتائج معركة الانتخابات ستبقي السيد أحمدي نجاد في سدة الرئاسة،أم أنها ستأتي بفريق جديد، ليست واضحة هويته بعد.
والنتيجة أن الموقف الإيراني والسوري تجاه تقوية حزب الله، لم يعد كما كان قبل عدة سنوات، وهو في النتيجة خاضع لمواقف براغماتية، ربما تحيده في هذه المرحلة، لحساب أجندات التفاوض. وقد لا نأت بجديد حين نشير إلى أن هناك سعيا حثيثا، لتحويل حزب الله من حركة مقاومة إلى حزب سياسي. وتحقيق ذلك هو بالتأكيد رهن للتقدم على الجبهة السورية، وأيضا نجاح المفاوضات الأمريكية حول الملف الإيراني. وأيضا باستمرار الشراكة الإيرانية، لصالح القضاء على المقاومات في أفغانستان وباكستان والعراق.
هناك قضايا أخرى، جوهرية ينبغي التعرض لها في سياق تحليل الأسباب التي أدت إلى فشل المعارضة في تحقيق الغلبة على الموالاة، كدور فريق الموالاة في قيادة عجلة الاقتصاد، وصناعة السياحة، والشعور العام لدى الناس العاديين بأن المعارضة أضرت بمصالحهم، وبخاصة الاعتصامات والإضرابات. واجتياح عناصر حزب الله للعاصمة اللبنانية قبل عام من هذا التاريخ، وقضايا أخرى، ستكون مواضيع للمناقشة في حديثنا بالأسبوع القادم بإذن الله.
yousifsite2020@gmail.com