قراءة في خطة بوش الجديدة بالعراق
وقبل أن ينتهي العام الماضي بـ 24 ساعة، جرى تسليم الرئيس العراقي صدام حسين للحكومة العراقية المعينة من الاحتلال، لتنفيذ الحكم الصادر بحقه، من محكمة الجنايات العراقية، التي أسس هياكلها وصاغ نظامها المندوب السامي الأمريكي في العراق، بول برايمر، وجرى اغتيال الرئيس العراقي في صبيحة عيد الأضحى، بالطريقة الوحشية التي استهجنها معظم قادة وشعوب العالم. وكان ذلك الحدث قد كشف عن جزء من النوايا والخطط التي تزمع إدارة الرئيس بوش تبنيها كاستراتيجية لمعالجة الأوضاع المتدهورة في العراق.
أصبح الحديث عن هذه الاستراتيجية محط اهتمام وانتظار من ساسة العالم، ووسائل الإعلام فيه. وأخيرا تحدث بوش في الحادي عشر من يناير (الشهر الحالي)، وأعلن أهم البنود في استراتيجيته الجديدة. ولعل أهم الجوانب المعلنة في تلك الاستراتيجية زيادة حجم القوات الأمريكية في العراق بما يزيد على 21000 جندي ليرتفع قوام القوات الأمريكية في العراق إلى 153500، بهدف خفض حدة العنف بين مختلف الأطراف وضمان الأمن في بغداد وإرساء الاستقرار في البلاد لإفساح المجال أمام انسحاب للقوات الأميركية في مرحلة لاحقة. وقد جاء هذا القرار مخالفا لرأي الديموقراطيين الذين يسيطرون على غالبية مقاعد الكونجرس وللرأي العام الأمريكي المعارض عموما لبقاء القوات الأمريكية في العراق.. وفي المقابل طلب بوش من الحكومة العراقية التصدي للميليشيات الشيعية، وأن تتحمل المسؤوليات الأمنية في البلاد بنهاية العام الحالي.
وحث الرئيس بوش قادة الدول العربية على دعم الحكومة العراقية ومساندة جهودها لتحقيق الاستقرار. في هذا السياق، قامت وزيرة الخارجية الأمريكية، كونداليزا رايس بزيارة لعدد من دول المنطقة لشرح بنود هذه الاستراتيجية الجديدة، والبحث في سبل الدعم الذي من الممكن لهذه الدول تقديمه للعراق.
وحمل خطابه نبرات هجومية حادة ضد إيران وسوريا، وطالب بوضع حد لنفوذهما بالمنطقة، وكان وزير دفاعه روبرت جيتس، أثناء زيارته لدول الخليج والعراق، قد طالب هو الآخر قادة الخليج العربي بضرورة التصدي للنفوذ الإيراني، بالمنطقة، مشيرا إلى أن الإيرانيين ذهبوا بعيدا في سياساتهم، وأن ذلك يثير قلقا شديدا حيال نواياهم. وقال جيتس إن الإيرانيين عدائيون جدا ويعتبرون الولايات المتحدة في موقف ضعيف بسبب الوضع في العراق، مضيفا أن ذلك الوضع أتاح للإيرانيين فرصة تكتيكية لكن الولايات المتحدة قوية جدا ومتنبهة لمخاطر هذه السياسة.
وشملت استراتيجية بوش الجديدة أيضا، تقديم مليار دولار من المساعدات الاقتصادية للحكومة العراقية. وذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن هذه المساعدة المالية ستتيح خلق وظائف للعراقيين وضمان الأمن في المناطق الخطيرة عبر تنظيم تعاون أكبر بين الجنود الأمريكيين والعراقيين. ويبدو هذا المبلغ تافها جدا، من وجهة نظر عدد من المراقبين، بالمقارنة مع تكاليف العمليات العسكرية في العراق التي تجاوزت خلال الأربع سنوات المنصرمة الـ 350 مليار دولار.
وحسب صحيفة “النيويورك تايمز” أيضا، تهدف استراتيجية بوش إلى حل الميليشيات الشيعية وإلغاء فرق الموت، وإشراك السنة بشكل أكبر في العملية السياسية وإقرار إجراءات لتوزيع العائدات النفطية وفق عملية تأخرت كثيرا وتليين السياسة الحكومية حيال البعثيين السابقين. وتجدر في هذا السياق الإشارة إلى عودة التيار الصدري إلى البرلمان العراقي. والتيار الصدري يقود ميليشيات كثر القول عنها باعتبارها الجهة التي تقود فرق الموت التي تمارس القتل على الهوية، وتتصدر عمليات التهجير القسري للمواطنين السنة من العاصمة بغداد إلى محافظة الأنبار. وتبدو عودة هذا التيار إلى البرلمان كمكافأة له على أفعاله، لتكشف تواطؤ إدارة الاحتلال مع عمليات التفتيت الطائفي التي تجري في العراق.
والواقع أن القراءة البسيطة للخطة تشير إلى وجود بنود أخرى لم تتعرض لها استراتيجية بوش الجديدة، وربما جاء بعضها ضمنا في سياقها. وما يهمنا في هذه القراءة ليس التركيز على البنود المعلنة في خطاب بوش، فقد علمتنا الأحداث فيما مضى، أن الأهداف المعبر عنها غالبا ما تكون مجرد أقنعة تختفي خلفها النوايا والأهداف الحقيقية للاستراتيجية المعلنة.
وفي هذا الصدد، أشار زبغنيو بريجنسكي، مستشار الرئيس الأمريكي كارتر لشؤون الأمن القومي إلى أن قرار بوش بإرسال 21.500 جندي إضافي إلى العراق، لا يعدو كونه حيلة سياسية ذات أثر تكتيكي محدود، يفتقر إلى أي قيمة تذكر من الناحية الاستراتيجية. إن الأزمة في العراق هي بالدرجة الأولى سياسية، لا يمكن معالجتها والفوز فيها عسكريا. ثم إن تجربة الأعوام الأربعة المنصرمة قد أكدت استحالة النجاح عسكريا. وكان ثمن الخيار العسكري قاسيا وباهظا ومكلفا، وسوف يؤدي التزام الرئيس الأمريكي بإرسال مزيد من القوات إلى تعريض القوات الأمريكية للمزيد من الخسائر في الجنود والمقاتلين، ويدفع بالمنطقة أكثر فأكثر إلى دائرة العنف الدموي، مما يعني حتمية ارتفاع عدد القتلى والضحايا من الأمريكيين والعراقيين، ولن يكون بوسع الخيار العسكري وضع حد لدوامة العنف الطائفي العرقي المستشري في العراق كألسنة النار في الهشيم.
وبالنسبة للتركيز على الخطر الخارجي الذي تمثله كل من سوريا وإيران، أشار بريجنسكي إلى أن ذلك يضع الإدارة الأمريكية أمام خيارين محدودين لا ثالث لهما، أولهما وضع اللائمة على النظام العراقي، وتحميله أسباب الفشل في الإيفاء بمعايير السيادة التي حددتها له واشنطن، وبالتالي الانسحاب بطريقة غير مشرفة من الحرب. أما الخيار الثاني، الذي يبدو أنه ساور الرئيس بوش واختمر في ذهنه، فيتمثل في توسيع العملية العسكرية، بحيث تشمل إما سوريا أو إيران. وهذا خيار لا يعدم وجود الكثيرين داخل الإدارة وخارجها من “المحافظين الجدد”، ممن يدفعون باتجاهه. بل إن ثمة آخرين مثل جوزيف ليبرمان، ربما يفضلونه كأحد الخيارات الممكنة.
إن استراتيجية بوش برمتها، كما يرى بريجنسكي، تعكس سوء فهم مروع لطبيعة هذا العصر. إن الإدارة الأمريكية تتصرف الآن كدولة استعمارية في العراق، متناسية أن عصر الاستعمار قد ولى إلى غير رجعة. فهل من هزيمة أخلاقية ماحقة للذات أكثر من شن حرب استعمارية في عصر ما بعد الاستعمار؟ تلك ثغرة كبرى في سياسات الرئيس بوش، لا حيلة لترقيعها أو سدها بغير الرحيل السريع من العراق.
تلك باعتقادي قراءة واقعية لاستراتيجية الرئيس بوش الجديدة من قبل خبير استراتيجي ضليع في فهم السياسة الأمريكية، لكنها قراءة انطلقت من خندق الحرص على المصالح الأمريكية، وسمعة الأمريكيين في العالم، وغيبت كثيرا مصالح العراقيين. وحتى حين تحدث بريجنسكي عن الهزيمة الأخلاقية الماحقة لأمريكا كقوة استعمارية في عصر أقرت شرعة الأمم فيه، إثر نهاية الحرب العالمية الأولى حق الأمم في تقرير المصير، واعتبرت الاستعمار جريمة أخلاقية، فإنه لم يتحدث عن إسقاطات هذه الجريمة على الواقع العربي، وكيف أنها صادرت بلدا عربيا، شهد بزوغ أقدم الحضارات وأعرقها، وقدم للإنسانية الكثير الكثير، وساهمت عطاءاته، في إبداعات كثيرة بمجالات عدة.. في قوانين حمورابي والكتابة المسمارية، وبناء السدود وتطوير الفلاحة.وبالنسبة لنا نحن العرب والمسلمين، كان العراق رمزا لشموخنا وكبريائنا وعزتنا، ومن عاصمته بغداد صنعت أروع حضارة إنسانية سطعت شمسها على ربوع العالم بأسره. فلتكن لنا وقفة مع استراتيجية بوش الجديدة، نقرؤها ونحللها، ولكن من منظور وطني وعربي، وهذا ما ستكون لنا معه وقفة في الحديث القادم بإذن الله.
editor@arabrenwal.com