قراءة في استشراق ما بين الحربين العالميتين
قراءة في استشراق ما بين الحربين العالميتين 7/1
ورقة قدمت إلى مؤتمر من الإستشراق إلى العولمة الذي تبنته جمعية التراث اللبنانيية والذي عقد في مدينة بيروت في الفترة من 39- 30 أيلول/ سبتمبر عام 2004م
قراءة في استشراق ما بين الحربين العالميتين
تمهيد:
تهتم هذه الورقة بتقديم رصد واستقصاء سريعين لبعض مظاهر الحركة الإستشراقية في الوطن العربي، في الفترة ما بين الحربين العالميتين. وقد اختيرت هذه الحقبة، لعدة أسباب، يأتي في مقدمتها أن الخارطة السياسية للوطن العربي، وبشكل خاص الجزء الشرقي منه، قد أعيدت صياغة تركيبها، لصالح المشروع الإستعماري التقليدي، الذي عبرت عنه بشكل دراماتيكي، معاهدة سايكس بيكو، التي جرى بموجبها تقسيم مشرق الوطن العربي بين الإستعمارين، الفرنسي والبريطاني. كما عبرت عنه المعاهدات والإتفاقيات التي فرضها البريطانيون على مشيخات وإمارات الخليج العربي، والتي وضعت عند مطلع القرن العشرين، معظم مناطق الخليج والجزيرة العربية تحت الحماية البريطانية. لقد ضمت الطلائع الأولى لقوات المحتلين في معظم الأقطار والمناطق العربية مجموعات متخصصة من المستشارين والباحثين، كان بينهم من صار له دورا بارزا في الحركة الإستشراقية. وقد تميز بعضهم بثقل عطائه في مجال الدراسات العلمية والبحث عن الآثار والكشف عن أسرار هذه الأرض. وقد زاوجوا بشكل عملي بين الأدوار السياسية والإستخباراتية المنوطة بهم وبين كونهم علماء يملكون آليات وتقنيات المعرفة والبحث، فكانت أحد نتائج أعمالهم إثراء المكتبة العالمية بكثير من الدراسات العلمية المفيدة والنادرة.
ومن هنا فإن أهمية هذه الحقبة على الصعيدين العربي والعالمي، وكونها مثلت، من جهة، مرحلة انتقال رئيسية في الواقع السياسي العربي، ومن جهة أخرى، ثراء الإنجازات التي تحققت على يد مستشرقي تلك المرحلة، وزخم إنتاجهم، والدور الذي لعبوه في تشكيل العقل والرؤية الثقافية الغربية تجاه هذا الجزء من العالم، بشكل ساعد كثيرا على تحقيق عملية الإختراق الإستعماري للمنطقة العربية التي تواصلت بوضوح حتى الخمسينيات من القرن المنصرم، والحاجة إلى وعي خصوصية تلك المرحلة، هي جميعا ما حفزنا على المغامرة بكتابة هذه الورقة. نأمل أن نتمكن خلالها من المساهمة بإثراء الحوار في مؤتمركم الموقر، وأن تكون قد وضعت لبنة إلى جانب اللبنات الآخرى، على طريق تجذير الوعي بالتجربة الإستشراقية في المرحلة التي هي موضوع هذا البحث.
خلفية حول مفهوم الإستشراق:
تشير كلمة الاستشراق إلى علاقة بالشرق، غير أنه كمصطلح كان دائما فضفاضا وغير مرتبط بزمان أو مكان، وعلى الرغم من التباين، الحاد أحيانا، في تحديده كمفهوم بصورة راسخة، فإنه يشير الى أن دراسة الشرق ومعرفته وفهمه هو الجامع المشترك في كل الآراء التي ناقشته وتتبعت معطياته ومجالاته.
فقد عرف قاموس اكسفورد المستشرق بأنه الذي يتبحر في لغات الشرق وآدابه وعلومه. (العليان ص. 10). واقترب عدنان محمد ازان في كتابه الإستشراق والمشترقون من هذا التوصيف، حيث يرى أن الإستشراق كمصطلح أو مفهوم يطلق في العادة على اتجاه فكري يعنى بدراسة الحالة الحضارية للأمم الشرقية بصفة عامة، ودراسة حضارة الإسلام والعرب بصفة خاصة. (العليان 13:202). لكن وازن لم يشر إلى الجهات التي تنبع منها هذه الدراسات، ولا المكان الذي يخرج منه هؤلاء الدارسين، كما لم يتعرض إلى أهدافهم والغايات التي تحركهم.
أما إدوارد سعيد فإنه يشير في كتابه الإستشراق- المعرفة، السلطة، والإنشاء إلى أن الإستشراق يعني عددا من الأشياء هي جميعا متبادلة الاعتماد. إن الدلالة الأكثر تقبلا للاستشراق دلالة جامعية (أكاديمية). إن الملصقة ما تزال مستخدمة في عدد من المؤسسات الجامعية، تشمل كل من يقوم بتدريس الشرق أو الكتابة عنه أو بحثه. ويسري ذلك على التعامل مع الشرق سواء في المجالات المختصة بعلم الإنسان أو بعلم الأجتماع، وسواء كان المعني بذلك مؤرخا أو فقيه لغة، إن من يتناول الشرق في جوانبه المتعددة والعامة، على حد سواء، هو مستشرق، وما يقوم هو أو هي ببحثه فهو استشراق. لكن سعيدا ينبه إلى أن هذا المصطلح بالمقارنة مع الدراسات الاستشراقية أو الدراسات الاقليمية هو أقل تفضيلا اليوم لدى المختصين لسببين اثنين: أولهما كون التعريف غائما وعاما إلى درجة مفرطة، وكونه يتضمن الموقف التنفيذي السلطوي للاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. (سعيد. 38: 1991). إنه بمعنى آخر، يرى أن هدف الاستشراق هو الحفاظ على السيطرة الثقافية عن طريق القبول الشرقي بقدر ما يمكن عن طريق الضغط الإقتصادي المباشر الخام من الولايات المتحدة. إنها لصدفة أن تجد عشرات من المنظمات لدراسة الشرق الإسلامي في الولايات المتحدة، بينما ليس ثمة مؤسسة واحدة في الشرق لدراسة الولايات المتحدة.
ويلاحظ أن إدوارد سعيد في تعريفه للإستشراق كان متأثرا إلى حد بعيد بالنكبة الفلسطينية، التي كان هو أحد ضحاياها، كما كان متأثرا بمطالعاته للدراسات العنصرية التي تعاملت مع قضايا الأمة العربية بصور فاضحة في تحيزها، وبشكل خاص الموقف من قضية فلسطين. وقد طبعت هذه الرؤية معظم أعماله وفي المقدمة منها كتاب الإستشراق، وكتابه عن المسألة الفلسطينية The Question of Palestine وكتابه عن ثقافة الإمبريالية Culture of Imperialism. ولعلي اتفق، في هذا الصدد، مع الدكتور صادق جلال العظم في نقده لموقف سعيد من الأستشراق، حين وصفه بالاستقرار والسكون، واعتبره موقفا استشراقيا معاكسا للإستشراق الغربي، يوقف الزمن ويفتقر إلى الديناميكية، ويعطي للثقافة الشرقية طابعا إيجابيا ثابتا غير خاضع لقوانين التطور والتغيير، لكن ذلك، على أية حال، ليس موضوع ورقتنا هذه.
ويقترب أنور عبد الملك من رؤية سعيد للإستشراق، حيث يلاحظ في دراسته: الفكر العربي في معركة النهضة إن المستشرقين الذين صحبوا نابليون أثناء الحملة على مصر بهدف دراسة الأثريات المصرية لم يطرحوا أنفسهم كعلماء آثار ولغويين فحسب، ولكن باعتبارهم زاوجوا بين السلطات العلمية والسياسية، وتعاونوا مع أهدافها بشكل كامل. كما أن أمثال شامبليون ويندهام ليسوا فقط علماء أثريات لكنهم علماء في وقت محدد وبصحبة ملك محدد. ولعل خير دليل على تلك الغايات هو تهريب المسلات وغيرها من الأثريات الثمينة إلى الدولة الأم أو المركز.إن عبد الملك يرى أن هدف الإستشراق هو التعرف على الأرض المعدة للإحتلال، وغزو وعي الشعوب لضمان خدمة القوى الأوروبية بشكل أفضل (منصور، 34: 2001).
ويعرف الدكتور عمر فروخ، في مقالته التي نشرتها دورية سلسلة الثقافة المقارنة، في عددها الأول، كانون الثاني 1987 الصادرة عن دار الشئون الثقافية العامة- بغداد الإستشراق بأنه اشتغال نفر من العملاء الغربيين بأحوال الشرق، وأن ذلك قد نشأ بعد الحروب الصليبيبة نتيجة لعوامل سياسية هدفت لتقديم معلومات ومعارف عن القوى الاستعمارية الغربية الفتية آنذاك، عن أحوال الشرقيين، لكي تسهل على رجال السياسة في الغرب تحقيق الإختراق السياسي والعسكري وتجعل من التعامل مع أمور الناس العملية في الشرق الغني أمرا ممكنا، يحقق الغاية والفائدة للدول الغربية القوية. ويرى فروخ أيضا أن الإستشراق كان بالإضافة إلى ذلك، غاية دينية لخدمة المبشرين الذين أرادوا أن ينشروا ديانتهم بين الشرقييين من مسلمين وغير مسلمين. أما الذين انطلقوا من إعجاب خالص لمعرفة أدب العرب خاصة، وفلسفة وعلوم الغرب فهم قليلون إذا جرى قياسهم بالذين رغبوا في الاستشراق اندفاعا في أهدافهم السياسية والدينية.
التالي
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-10-15