قراءة أولية في انتخابات الرئاسة الأمريكية

0 178

رغم أن الوقت لا يزال مبكرا جدا للتنبؤ بمن سيكون له نصيب الفوز في انتخابات الرئاسة الأمريكية التي سوف تجري في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، والتربع على العرش في البيت الأبيض، وبالتالي على عرش الهيمنة العالمية، لكننا نستطيع القول الآن أنه أصبح شبه مؤكد أن التنافس على سدة الرئاسة سيكون منذ الآن بين المرشح الديموقراطي السناتور الأمريكي جون كيري من ولاية من ماساتشوستيس وبين الرئيس الحالي للولايات المتحدة، جورج بوش.

 

ولا شك أن الفوز بسدة الرئاسة يرتبط، إلى حد كبير، بتوفر مجموعة من العناصر لدى الفرد المرشح، يأتي في لمقدمة منها أن يكون برنامجه الانتخابي واضحا وملبيا لتطلعات وحاجات الناخبين، والكاريزما والجاذبية الشخصية التي يتمتع بها، وسمعته وأداؤه الإداري السابق، وموقف قوى وجماعات الضغط والمصالح من شخصيات مؤثرة وأجهزة إعلام وكبار موظفين وقضاة ورجال أعمال ومؤسسات كبرى ورؤساء اتحادات ونقابات وجمعيات منه شخصيا ومن برنامجه الانتخابي..

 

وفي حملة الإنتخابات المقبلة التي يتوقع أن يشتد استعارها بعد انعقاد مؤتمر الحزب الديموقراطي مباشرة والمتوقع أن يعلن الحزب خلاله رسميا عن اختباره للسناتور كيري كمرشح متنافس مع جورج بوش لرئاسة الجمهورية، فإن الصورة كما تبدو الآن، على أرض الواقع، لا تسير في صالح الرئيس الحالي في كثير من الجوانب.

 

فإذا كان من المعتاد، على سبيل المثال، أن لا يهتم الناخبون الأمريكيون العاديون، في الدوزات الانتخابية الرئاسية السابقة، بالسياسة الخارجية الأمريكية، على اعتبار أن تلك السياسة من شأن البيروقراطيين والمتخصصين، ولا تنعكس آثارها مباشرة على معاش الناس وقوتهم اليومي، فإنهم في هذه المرة سيعطون اهتماما كبيرا لهذه السياسة، بعد أن شهدوا بأم أعينهم المستنقع الذي وضعهم رئيسهم فيه باحتلاله لأرض العراق، وبشكل خاص، بعد أن تكشف لهم وللعالم أجمع، فيما بعد، تهاوي الذرائع والحجج التي لجأ لها رئيسهم وإدارته في الدفع بأبنائهم في محرقة حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. لقد اعترف الرئيس بوش أخيرا، والاعتراف سيد الأدلة، كما اعترف حليفه في الحرب رئيس الوزراء البريطاني طوني بليز وعدد كبير من المسؤولين في إطار تحالف العدوان بعدم وجود أسلحة دمار شامل لدى العراق، ولم يتمكن الرئيس الأمريكي ولا غيره من الحلفاء من إثبات وجود علاقة بين النظام الذي كان سائدا حتى احتلال بغداد في التاسع من أبريل/ نيسان عام 2003 وتنظيم القاعدة، بما يعني من وجهة نظر الشعب الأمريكي أنه لم يكن هناك أي مبرر لدخول الحرب والتضحية بأعداد كبيرة من الجنود الأمريكيين وإفراغ الخزينة الأمريكية من مدخراتها، تلك الخزينة التي كانت تنوء في الأصل بمديونيات ضخمة بسبب السياسة الإقتصادية المفلسة التي انتهجتها إدارة الجمهوريين.

 

وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى التقرير الصادر عن صندوق النقد الدولي في السابع من يناير 2004 والذي جاء فيه أن زيادة ديون الولايات المتحدة الخارجية تمثل تهديدا للاقتصاد العالمي حيث أنها حطمت الأرقام القياسية السابقة. ووصف التقرير الأساس المالي للولايات المتحدة بأنه متداع، وأضاف أن صافى التزامات الولايات المتحدة إزاء العالم الخارجي ربما يعادل خلال بضعة أعوام الأربعين في المائة من إجمالي اقتصادها وهو مستوى لم يسبق له نظير، وان خطورته ترجع إلى أن شهية الولايات المتحدة النهمة للاقتراض قد تزيد من أسعار الفائدة وتبطىء النمو الاقتصادي العالمي, وقد لاحظ التقرير أن الولايات المتحدة ترغب في الحفاظ على نفس معدلات الاستهلاك أو الإنفاق دون إنتاج مواز. لذا تلجأ للاقتراض، وتلجأ إلى الاستيراد، فتكون النتيجة عجز تجاري، وعجز في الميزانية تجاوز مبلغ الـ 400 مليار دولار، مع استمرار في عملية طبع الدولارات، وهو الأمر الذي أدى بدون غطاء في الذهب أو الإنتاج إلى انهيار واضح في قيمة الدولار، بحيث لم يعد الدولار حاليا يشكل ملاذا آمنا للمستثمرين، مما دفع بهم للابتعاد عن السوق الأمريكي، وتسبب في تراجع الاستثمار الأجنبي من 300 مليار إلى 50 مليار دولار.

 

وإذا ما أضيفت قيمة الفوائد التي تضطر الخزينة الأمريكية لدفعها لقاء ارتفاع مستوى المديونية التي تثقل كاهلها تكشفت حجم الأزمة المرعبة. إن أمريكا تدفع كل يوم أمريكا حوالي ثلاثة مليارات دولار كفوائد على قروضها التي تتصل إلى ستمائة مليار دولار سنويا والتي بلغ حجمها الإجمالي عدة تريليونات.

 

إن الحلول التي اعتمدتها الإدارة الأمريكية لسد العجز ستشكل، في حال استمرارها، مسمارا ثقيلا يدق في نعش الإمبراطورية الأمريكية. إن الإدارة الأمريكية تلجأ منذ سنوات لمعالجة أزمتها وحماسها لسد عجز الميزانية أو الاستدانة بالقيام ببيع سندات خزانة للدول الصناعية المتقدمة كألمانيا واليابان بشكل متزايد يقدر بعشرات المليارات كل عام.

 

ومن اللافت للنظر أن دولا لم تكن تحسب حتى وقت قريب في عداد الدول الغنية كالصين الشعبية قد دخلت على خط حديثا وأخذت بسياسة شراء السندات، وأصبحت دائنة لأمريكا بما يقدر بـ 150 مليار دولار على شكل سندات خزينة أمريكية. وهذه أمور تنذر بمخاطر جدية على مستقبل الاقتصاد الأمريكي، وربما أصبحت تعني عند كثيرين من المهتمين بالشأن الاقتصادي في الداخل أن بلادهم أصبحت تعيش عالة على الأوروبيين والآسيويين وأنها لم تعد قادرة على الاستغناء عنهم. ومما يفاقم في الأزمة، أن هذا العجز المالي يقابله عجز تجارى أمريكى مزمن وكبير. فوفقا لأرقام عام 2001، فإن أمريكا تعانى من العجز التالي.. 84 مليار دولار مع الصين – 68 مليار مع اليابان – 60 مليار مع الاتحاد الأوروبي – 30 مليار مع المكسيك – 13 مليار مع كوريا الجنوبية – 4,5 مليار مع إسرائيل، 3,5 مليار مع روسيا، ونصف مليار مع أوكرانيا!!.

 

ولا يمثل العجز الناتج عن استيراد النفط سوى 80 مليار دولار، بما يلغي أي تعلل رمسي بأن نقص الطاقة هو أحد أسباب الأزمة الاقتصادية الحالية، وتبلغ قيمة السلع الأخرى المستوردة، ومعظمها مصنع مبلغ 366 مليار!. وحتى في القطاعات الرائدة التي تعلن الإدارة الأمريكية أنها ألقت بثقلها فيها، فإن الولايات المتحدة أخذت تتراجع باستمرار عن مركز الزعامة فيها. فعلى سبيل المثال، أشارت تقارير حديثة إلى أن شركة ايرباص الأوروبية تساوت في الإنتاج مع البوينج الأمريكية. وإذا نظرنا إلى الميزان التجاري في مجال السلع ذات التقنية العالية فإن أمريكا بدأت تعانى من العجز بدءا من عام 2002.

 

وبالمقارنة بين الإنتاج الصناعي الأمريكي والإنتاج العالمي، فإن هذا الإنتاج الذي كان يمثل 44% من إنتاج العالم عام 1929 أصبح بعد سبعين عاما أقل بقليل من إنتاج الاتحاد الأوروبي أو أعلى قليلا من إنتاج اليابان. أما الشركات المتعددة الجنسية، فإنها منذ عام 1998 أخذت تحول الأرباح من أمريكا إلى بلادها الأصلية أكثر مما تحول الأرباح إلى أمريكا.

 

وتشكل فضائح انهيار الشركات الأمريكية التي بالغت في أرقام موجوداتها وأرباحها، ضربة أخرى لأداء إدارة الرئيس بوش، مشيرة إلى زيف كثير من الإحصاءات الأمريكية المعتمدة على معلومات هذه الشركات (إفلاس شركة إنرون وحدها أدى إلى ضياع 100 مليار دولار أي 1% من الإنتاج القومي الأمريكي). ويسجل على الإدارة الأمريكية الحالية أيضا، النمو المفرط للخدمات المالية والتأمين والعقارات بسرعة تساوى ضعف نمو الصناعة في السنوات القليلة الأخيرة.

 

ويشير الكاتب الفرنسي، ايمانويل تود في دراسته المهمة، ما بعد الإمبراطورية: دراسة في تفكك النظام الأمريكي) إلى استنتاج بالغ الأهمية. فمن وجهة نطره، فإن الاستهلاك الاقتصادي الأمريكي المفرط أصبح عنصرا أساسيا لاستمرار البنية الاقتصادية العالمية. ومنه يستنتج أن أمريكا لم يعد وجودها ضروريا للعالم بسبب إنتاجها، وإنما بسبب استهلاكها المفرط، والذي يقوم بعملية التعويض فى حالة عدم كفاية الطلب العالمي.

 

كان هذا هو جانب واحد من الجوانب المهمة التي سوف تلقي بظلالها ثقيلة في الحملة الإنتخابية الرئاسية المقبلة، وهو جانب رغم وجاهته، فإنه الأقل وطأة وثقلا بالنسبة للمعضلات والمشاكل التي ستواجهها حملة الرئيس بوش للفوز بدورة أخرى.

 

فهناك تهمة الفشل في الحرب على “الإرهاب”، وهناك الكذب والتزوير والإدعاء بوجود أسلحة دمار شامل في العراق، وقد بدأت الحملة في التصاعد حول هذا الموضوع في الأيام الأخيرة، وهناك مصير ما يقرب من 200 ألف جندي في العراق يتعرضون يوميا لنوع قاس من الأزمات النفسية والقتل والإصابات الخطيرة، وهناك فوق ذلك كله تهم الفساد والتلاعب في المال بحق رموز بارزة في الإدارة، تصل إلى نائب الرئيس ذاته، وهناك إجماع شعبي أمريكي على غياب الكاريزما لدى الرئيس الأمريكي بوش وضعف أدائه، وجميعها أوراق تصب في مصلحة المرشح الديموقراطي.. وهي أيضا نقاط مهمة للغاية تستحق منا وقفات وتأملات وقراءات في أحاديث قادمة بإذن الله..

 

 

 

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2004-02-10

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

13 + خمسة عشر =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي