قراءة أخيرة للانتخابات الأمريكية
في بداية شهر آذار/ مارس من هذا العام، حين كانت حملة الانتخابات الأمريكية في مرحلتها التمهيدية، حيث لم ينعقد بعد مؤتمر الحزب الديمقراطي، ولم يتحدد مرشحه للتنافس على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، نشرت على صفحات هذا المنبر مقالتين حملتا عنوان قراءة أولية في انتخابات الرئاسة الأمريكية. كانت المعطيات المتوفرة آنذاك تشير، إلى حد كبير، لنجاح جون كيري في نيل ترشيح الديمقراطيين له لخوض غمار الانتخابات والتنافس مع الرئيس الأمريكي، جورج بوش. وقد تحقق ذلك. وكانت المعطيات الأخرى، تشير إلى احتمال فوزه على الرئيس بوش في الوصول إلى سدة الحكم. لكن ذلك أصبح مع مرور الأيام، عرضة للمد والجزر.. وكان سير حملة الانتخابات منذ الأيام الأولى، وحتى تاريخه أشبه بلعبة سيرك يقترب فيها اللاعبون في الأداء ويتنافرون مع بعضهم البعض. إن نتائج الاستطلاعات الأولية، تغيرت مرات ومرات، بما يوحي وكأن المراقب يتابع مشهدا من المسرح اللامعقول. كيف يمكن فهم ما يحدث، ولماذا فشلت قراءتنا الأولية باحتمال تحقق فوز حاسم لكيري، وما هي النتائج المرتقبة لهذه الانتخابات؟ هذه الأسئلة هي ما سوف نحاول تناولها والإجابة عليها في هذا الحديث.
كان التصور باحتمال فوز كيري مستندا إلى فشل إدارة الرئيس الأمريكي الحالي في معالجة الأوضاع الاقتصادية الداخلية، وتهاوي الذرائع والحجج التي لجأ لها لتبرير احتلال العراق، والخسائر المتصاعدة في صفوف القوات الأمريكية على يد المقاومة العراقية، إضافة إلى افتقاره للجاذبية الكارزماتية المفترضة في شخص يحتل الموقع الأول في الدولة الأعظم عالميا. وكانت مجمل المعلومات المتوفرة تشير إلى ترجيح كفة كيري. فهو أولا غير مثقل بأي تركة سياسية سلبية، وسجله في الأداء كنائب في الكونجرس ليست عليه شائبة. إضافة إلى ذلك، فإنه رغم انتقاده للحرب الأمريكية في فيتنام، شارك فيها وعاد من الميدان محملا بأنواط الشجاعة. وهو إلى جانب ذلك يتمتع بنوع خاص من الكاريزما، حيث يتصف بطول القامة والذكاء وارستقراطية المظهر، وكل ذلك يتماشى مع تطلعات وطرق تفكير الشعب الأمريكي. وكان من المفترض أن يكون تفوقه على بوش في أدائه بالمناظرات الثلاث التي جرت بينهما، والتي أجمعت وسائل الإعلام الأمريكية عليه، عاملا يساعد، أخذا بالعناصر الأخرى، على تحقيق فوز ساحق ضد بوش. لكن ذلك، كما يبدو لم يضف كثيرا لرصيده في الحملة الانتخابية. وبقيت النتائج تتأرجح بين الجانبين المتصارعين للوصول إلى البيت الأبيض. وأخيرا أخذت الكفة في الأيام الأخيرة تميل لصالح الرئيس بوش. فما هي أسباب ذلك؟!
لعل من الأهمية التأكيد مرة أخرى على أن البرامج الانتخابية لكلا الحزبين في الانتخابات، التي سادت خلال الخمسين عاما المنصرمة، تكاد تكون تكرارا لسابقاتها، مع بعض التعديلات الطفيفة هنا وهناك، والتي في الغالب تكون مرتبطة بظروف طارئة محلية وإقليمية ودولية.
يتبنى الجمهوريون عادة سياسة اقتصادية أقرب إلى نظرية آدم سميت في دعه يعمل، معتمدين في تنمية الحوافز على التقليل من المصاريف الحكومية، وتقليص الضرائب والحد من الخدمات الصحية والاجتماعية والتعليمية، والتقليل من البيروقراطية والاستغناء عن خدمات أعداد كبيرة من الموظفين الحكوميين، وتسعير المشاعر القومية. ويتسبب ذلك في تضخم الثروة لدى الطبقات العليا، ومضاعفة دخل الكارتلات النفطية والبيوت المالية وتجارة السلاح، وزيادة الإنفاق على الجيش والصناعة العسكرية. وإضعاف الطبقة المتوسطة. وتكون النتيجة تقلص القدرة الشرائية لدى المواطنين، وسيادة كساد اقتصادي عام.
وبالنسبة للديمقراطيين، فإن سياستهم الاقتصادية هي الأقرب لدولة الرفاه، التي تتخذ من النظرية الكنزية دليلا للعمل. وخلاصة النظرية تشير إلى أن الرخاء والنمو الاقتصادي بالبلاد يرتبطان بقدرة المستهلك على الشراء. إن وجود البضائع في السوق يبقى بدون معنى إذا لم يكن هنالك من هو قادر على الشراء. وعلى هذا الأساس، فإن فرض الضرائب بشكل تصاعدي على الطبقات العليا، وتقنينها في الطبقات السفلى بالمجتمع، وزيادة الخدمات الصحية والتربوية والاجتماعية، وخلق فرص وظيفية جديدة هي السبيل لانتعاش الاقتصاد.
لكن سؤالا يفرض نفسه، هو لماذا إذن لا يفوز الديمقراطيون بسدة الحكم بشكل مستمر، ما داموا يحققون البحبوحة والرخاء والانتعاش في المجتمع. الجواب على ذلك يأتي من الزاوية الاقتصادية البحتة. فتصاعد الضرائب يؤدي إلى ارتفاع في الأسعار، وإقبال متزايد على الشراء وهذا في حد ذاته ينتج عنه انفلات بحالة التضخم الاقتصادي، تصل في النهاية، ما لم يتم التحكم بها، إلى وضع قاس لا يستطيع تحمل ثقله ذووا الدخل المحدود. وعندها يصبح القضاء على ظاهرة التضخم مطلبا وطنيا، بما يخلق الفرصة أمام أطروحات الجمهوريين ويتيح لهم المجال للفوز. وتتكرر الدورة مرة أخرى بعد استلام الجمهوريين. إنهم بالتأكيد سيحتوون ظاهرة التضخم، ببرامجهم الاقتصادية، ولكنهم سيخلقون ما هو أسوأ منها. إذ أن إضعاف الطبقة المتوسطة سينتج عنه تضاعف في أعداد العاطلين، وانهيار في القدرة الشرائية وتضعضع شامل في حركة السوق، والنتيجة في الغالب كساد اقتصادي وعجز.. وهكذا تتعاقب الدورات بين التضخم، المرتبط ببرنامج الديمقراطيين، والكساد المرتبط بالجمهوريين.
إن مستوى الوضع الاقتصادي، وتأثيره على الجمهور في الحالتين هو الذي يقرر من سيفوز بالرئاسة في الولايات المتحدة، وهو أيضا الذي يحدد الاستمرار للبرنامج الانتخابي لأي من الحزبين لدورة رئاسية أخرى، أو الانتقال إلى البرنامج الخاص بالحزب الآخر.
في عهد الرئيس بوش الابن، لم يبلغ الوضع الاقتصادي الأمريكي في سوئه الوضع الذي بلغه في نهاية عهد والده الرئيس بوش الأب. وذلك ربما يعود لجملة أسباب: أهمها أن بوش الأب كان استمرارا لدورة ثالثة للجمهوريين، وتلك حالة غير اعتيادية، حيث تسلم الحكم بعد دورتين متتاليتين لسلفه الرئيس رونالد ريجان، وأكمل الأربع سنوات. وحين انتهت دورته الرئاسية كانت حالة الكساد قد ألقت بظلها الثقيل والكئيب على كل أنشطة السوق. فكان لا بد من الانتقال إلى البرنامج الكينزي لمعالجة الخلل. وجاء بيل كلينتون ليقوم بذلك الدور لمدة ثماني سنوات. أما السبب الثاني فهو استثمار احتلال العراق لتنشيط الاقتصاد الأمريكي، عن طريق التفرد بما يدعى بعقود الإعمار، وأخيرا ارتفاع أسعار النفط بشكل دراماتيكي، وتأثير ذلك على النمو الاقتصادي في بلدان العالم الأخرى.
كان من المتوقع أن تتدخل عوامل أخرى لإسقاط بوش، في المقدمة منها الحرب على العراق. لكن الإدارة الأمريكية فطنت إلى خطورة زج أعداد كبيرة من الأمريكيين في محرقة الحرب، وأوجدت حيلا خاصة للتعامل مع ذلك. واستخدمت مجموعة من الأساليب للحيلولة دون تحقق ذلك أهمها إقناع عدد كبير من حلفائها للدخول معها في الحرب وإرسال الجيوش للمشاركة في القتال، والزج بأعداد ضخمة من الأجانب المقيمين بالولايات المتحدة، بوعد منحهم الجنسية الأمريكية حال عودتهم من الحرب، والإسراع في تأسيس ما أطلق عليه بالحرس الوطني العراقي، الذي يعمل أفراده كدروع بشرية للأمريكيين. إضافة إلى أن عبئا كبيرا من الأعمال التي كان من المفترض أن يضطلع بها الجنود الأمريكيون قد انزاحت عنهم. فعلى سبيل المثال، أنيطت الأعمال اللوجستية بمجموعة من المقاولين من جنسيات مختلفة، وهذه الأعمال هي من صميم مهمات دائرة الحركة في الجيوش. وهكذا فبقياس عدد القتلى من الجنود والأفراد الذين يخدمون ويساندون الإحتلال، حسب الإحصائيات المعلنة، بما فيهم الجنود العراقيين، فإن عدد القتلى من الجنود الأمريكيين لا يتجاوز الـ 10% من العدد الكلي للقتلى في جانب الاحتلال. إن ذلك كله يفسر أسباب إصرار المقاومة العراقية على التعرض للجنود العراقيين والمقاولين والأفراد الأجانب الذين يدعمون مخطط العدوان الأمريكي على العراق.
ومن الجانب الأخر، فإن عدم وضوح سياسات المرشح الديمقراطي، جون كيري من مستقبل الاحتلال في العراق، لا يجعله مؤهلا لإقناع الأمريكيين به كقائد بديل. صحيح أنه ينتقد بشدة سياسات منافسه، الرئيس بوش في اتخاذ قرار الحرب، ويعلن بأنه سوف يتبنى سياسة بديلة، لكنه لم يفصح للناخبين عن تلك السياسة، ولم يحدد بدائله حتى الآن. إنه يريد أن يعيد لأمريكا صورة الحليف الوفي مع أوروبا الغربية، لكن كيفية تحقيق ذلك لا تزال في الغيب. وحتى في الجانب الاقتصادي، فإنه لم يقدم برنامجا تفصيليا لما سيقدم عليه، كما فعل بيل كلينتون.
لقد خاطب الأمريكيين من برجه العاجي، بينما نزل كلينتون إلى أدنى المستويات، وحتى المدارس الابتدائية ورياض الأطفال كان لها نصيب من زياراته. لقد أفصح سلفه الديمقراطي عن برامج واضحة وتفصيلية عن كيفية القضاء على البطالة وتدريب العاطلين، والحد من الجريمة وحماية البيئة، وعن أسلوب تعامله في العلاقات الدولية. أما هو فليس هناك في برنامجه الانتخابي إلا الخطابية والكلمات الفضفاضة، واستعداء لحكومات حليفة، لدرجة جعلت الكثير من المراقبين لا يرون في الحملة الانتخابية الحالية سوى نوع من صراع الديكة، تستخدم فيها أقذع الكلمات ومختلف أنواع المكائد، ويحضر فيها كل شيء له علاقة بالسعي للوصول إلى كرسي الحكم، إلا جوهر الصراع الانتخابي المتمثل في وجود برنامج قوي ومتماسك يتمكن من الاستحواذ على أصوات الجمهور.
وفي ظل هذا الواقع، يبدو أمل المرشح الديمقراطي جون كيري في الفوز ضئيلا جدا، وأن الرئيس الأمريكي جورج بوش مرشح للبقاء في البيت الأبيض لفترة رئاسية ثانية، إلا إذا حملت الأيام القليلة المتبقية، والتي لا تتجاوز الأسبوع، على كل حال، مفاجئات عاصفة تقلب الطاولة رأسا على عقب، وهي ما لا تلوح بوادرها حتى الآن في الأفق.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-10-27