قانون للقوة أم قوة للقانون؟

180

 

 

صادقت محكمة الجنايات الدولية في لاهاي في الأسبوع المنصرم، على طلب مدعيها العام لويس مورينو أوكامبو بإصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني، عمر البشير، بحجة أنه ضالع بشكل غير مباشر، في جرائم اعتداء وقتل وإبادة واغتصاب وتعذيب ونقل قسري لأعداد كبيرة من السكان المدنيين، في دارفور، غرب السودان، ونهب ممتلكاتهم. ويشكل هذا الحدث سابقة في تاريخ هذه المحكمة، ضد رئيس لا يزال يمارس سلطته في بلاده.

 

يطرح أمر التوقيف هذا قضايا عدة مهمة، حول طبيعة عمل المحكمة، وظروف نشأتها، والسياقات التي تتخذ فيها قراراتها، والموقف العربي المطلوب تجاه قرار التوقيف.

 

وفي هذا السياق، فإن أول ما يلفت الانتباه هو أن هذه المحكمة تأسست في لاهاي بهولندا في 11 أبريل/ نيسان عام 2002 بعد اعتماد نظامها الأساسي ومصادقة 60 دولة عليها. بمعنى آخر، إن الإعلان عن مولدها جاء بعد حوالي ستة أشهر على أحداث 11 سبتمبر عام 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية، التي شهدت تدمير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وضرب مقر البنتاجون في العاصمة الأمريكية، واشنطن.

 

الأمر الآخر، هو أن هذه المحكمة تتولى قضايا التحقيق في جرائم الإبادة التي تحال لها من مؤسسات دولية، أعلى منها صلاحية، وشأنا. وتحديدا تحال لها القضايا من قبل مجلس الأمن الدولي مباشرة. وذلك يعني أنها ليست معنية بالتحقيق في كل جرائم الإبادة، بل فقط بتلك التي تحال لها من قبل مجلس الأمن. بمعنى آخر، فإن القضايا التي تحال لها، لا تشمل الجرائم التي ترتكب من القوى الدولية ذات النفوذ في مجلس الأمن، والتي تحتمي خلف حق النقض “الفيتو”. إذن فالمحكمة موجهة ضد الضعفاء من الدول، وهي والحال هذه، انتقائية، وسيف مسلط ضد الحكومات التي لا تتماهى في سياساتها مع المتفرد بالهيمنة على السياسات الدولية، وصانع القرار الأممي الأوحد، وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية.

 

لقد بدأت المحكمة ممارسة عملها في زخم جملة التحولات العالمية، في المقدمة منها، انهيار النظام العالمي الذي ساد إثر الحرب العالمية الثانية، وانتهاء الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفييتي، وانفراط عقد حلف وارسو، وتداعي الكتلة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وتفرد الإدارة الأمريكية بصناعة القرارات الأممية. ليس ذلك فحسب، بل إن التشكيل جاء متزامنا مع احتلال أفغانستان، والتحضير لاحتلال العراق، وفي غمرة احتدام ما عرف ﺒ”الحرب على الإرهاب”. ولتكون هذه المحكمة جزءا من تعابير تلك الحرب وأدواتها.

 

وفي كل الحالات التي استهدفتها هذه المحكمة، كان المستهدف “أنظمة مارقة”، عرفت بمعاداتها سياسة الهيمنة الأمريكية. وجاءت القرارات في الغالب متماهية مع سياسة إخضاع الدول وفرض استتباعها، لمواقف ومصالح القطب العالمي الأوحد. وكانت الروح الثأرية واضحة في جملة قرارات التوقيف والملاحقة التي صدرت عنها.

 

فجميع الملاحقات التي قررتها المحكمة، باستثناء حالة الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش، كانت لزعماء أفارقة. بما يضفي طابعا عنصريا وشوفينيا على سلوك قضاة هذه المحكمة. فالمستهدف دائما هم قادة العالم الثالث. وحتى في حالة الرئيس اليوغسلافي، ميلوسوفيتش، فإن من غير الممكن تجاهل الدور المناصر لقضايا العرب، الذي طبع سياسة الزعيم اليوغسلافي الراحل، جوزيف بروس تيتو، ودوره الكبير في قيام كتلة عدم الانحياز، التي أسهمت في دعم حركات التحرر الوطني المعادية للاستعمار. وكانت السوابق الأخرى قد تضمنت ملاحقة رؤساء أفارقة، خارج السلطة، كالرئيس الليبري تشارلز تيلور، والرئيس التشادي السابق حسين هبري.

 

كان التسييس واضحاً في جميع قضايا الملاحقات التي قررتها المحكمة الجنائية الدولية، خلافا لكل الادعاءات، بالحرفية والمهنية. وكان أول ضحايا تسييس قضايا ومشكلات العالم هو الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش، الذي تعرض للملاحقة الدولية، بعد قيام حلف الناتو مباشرة بقصف المدن الصربية وتدمير بنيتها التحتية، حيث وجهت إليه محكمة الجزاء الدولية المختصة بيوغسلافيا عام 1999 تهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية، أثناء الصراع الدامي لتفكيك يوغسلافيا الاتحادية. وانتهت القصة بتوقف محاكمة ميلوسوفيتش إثر وفاته الغامضة في زنزانته عام 2006.

 

إن ذلك يعني أننا إزاء تكريس حاد لمنطق القسمة بين المنتصرين، وللحقائق التي فرضت نفسها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. فهذه الحقائق تقسم العالم إلى مناطق نفوذ ومصالح بين المنتصرين، وتكون مهمة القانون الدولي، وفقا للصياغة الجيوسياسية الكونية، هي رعاية مصالح الدول الكبرى، وليس تحقيق العدل والمساواة، وصيانة المبادئ المتسقة مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة.

 

فالمحكمة الجنائية الدولية، ليس لها حول أو قوة عندما يتعلق الأمر بجرائم ارتكبت بحق الإنسانية، من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وبشكل خاص في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش. وليس بإمكانها الاحتجاج ولو بالتلميح ضد النموذج الأمريكي الفريد في بطشه ووحشيته، والأسوأ من نوعه في العصر الحديث، حيث استخدام معظم الأسلحة المحرمة دوليا، بما في ذلك القنابل العنقودية والفسفورية واليورانيوم غير المنضب. وكانت نتيجته مصرع أكثر من مليون عراقي، وتشرد ستة ملايين، تركوا ديارهم بحثاً عن الأمان في مخابئ الدول المجاورة. وهي أيضا ليست معنية بجرائم الإبادة التي يرتكبها الكيان الصهيوني، ما دام سيف الفيتو الأمريكي، سيكون مسلطاً فوق أي قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي، يحمل إدانة، للكيان الغاصب، مهما بلغ مستوى ضعفها.

 

إن المنطق الأخلاقي يقتضي منا أن ندين جرائم الحرب ضد الإنسانية، أياً يكن مصدرها. لكن اللجوء للقواعد الأخلاقية، ذات العلاقة بحق الأمم في تقرير المصير، وعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول، يجعل أي مقاربة موضوعية بين التهم الموجهة للرئيس السوداني البشير، وتلك التي ارتكبتها فعليا إدارة الرئيس الأمريكي بوش في العراق، أو الصهاينة في فلسطين ولبنان، تصب لصالح الحكومة السودانية. فالركن الأساس في صرح القانون الدولي، كان ولا يزال يقوم على قاعدتي السيادة والمساواة.

 

وضمن هذا الجدل، يصبح التدخل العسكري للجيش السوداني في دارفور مبرراً قانوناً، لأنه ضد تمرد وقع في إقليم يخضع لسلطة الحكومة المركزية في السودان. وقد جاء رد الفعل الحكومي، في سياق الدفاع عن وحدة وسلامة البلاد، رغم أن التجاوز في حق المدنيين، إن حدث فهو غير مبرر، ويعد جريمة إنسانية بكل المقاييس.

 

أما الاحتلال الأمريكي للعراق فهو خرق فاضح لحق الأمم في تقرير مصيرها، وفقاً للقانون الدولي، هدف إلى الاستيلاء على ثروات العراق، ومصادرته كيانا وهوية، وتم خارج القانون ومن دون تصريح من مجلس الأمن ولأسباب تأكد أنها ملفقة ومختلقة. فهو بالتالي، جريمة ينبغي أن يعاقب عليها القانون الدولي، خصوصا أن المآسي والكوارث الإنسانية التي نجمت عنها أكبر، بما لا يقاس بالمآسي التي نجمت عن التدخل العسكري للجيش السوداني في دارفور.

 

إذاً فالهدف من ملاحقة البشير، هو استكمال مشروع تفتيت المنطقة، الذي بدأ بمحاصرة العراق، واحتلاله لاحقا، وخلق بؤر توتر في عدد من البلدان العربية والإسلامية: في لبنان وفلسطين والصومال والجزائر واليمن والسودان، انسجاما مع السياسة الأمريكية المعلنة، التي تبنتها الإدارة الأمريكية السابقة بوضوح، بعد أحداث سبتمبر/ أيلول عام 2001، ولذلك يغدو مفهوما جدا مسارعة الولايات المتحدة لاعتبار الرئيس السوداني البشير “هارباً” من وجه العدالة، ومطالبة دول غربية أخرى بضرورة الالتزام بأمر المحكمة.

 

ولأن المحكمة الجنائية، هي مجرد واجهة سياسية، وأحد التعابير للتوازنات الدولية القائمة في هذه المرحلة، التي تشهد بداية النهاية للتفرد الأمريكي بصناعة القرار الدولي، نتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية الحادة، ولبروز قوى استقطاب دولي جديدة، فإن المذكرة الخاصة باعتقال الرئيس السوداني لن تتحول إلى مذكرة ذات ختم دولي صادر عن مجلس الأمن، وبالتالي، فإنها ستكون عديمة القيمة. وقد تلجأ دول الغرب، من أجل حفظ ماء وجهها، إلى إعمال هذه المذكرة على أراضيها.

 

ليس أمام الأمة العربية، قيادات وشعوب سوى الوقوف إلى جانب السودان، والتصدي لمذكرة التوقيف جملة وتفصيلا. وليس من المقبول المساومة في هذا السياق، بالمطالبة بتأجيل تنفيذ الاعتقال، لأن ذلك سيجعل السودان رهينة، إلى مدى غير منظور لسياسة الغطرسة والهيمنة، وسيجعلنا جميعا، فريسة للابتزاز، ومشاريع التفتيت.

 

cdabcd

 

yousifsite2020@gmail.com

 

د.يوسف مكي