في نظريات التقابل بين المجتمعات
في حديث سابق، دحضنا الأطروحة التي ترجع أزمة النهوض العربي، إلى التصحر، باعتباره سببا أساسيا في انقطاع التواصل الثقافي بين المجتمعات العربية، وحال دون اندماجها. وقد قيل في هذا السياق، أسباب أخرى، لم نتناولها بالقراءة والتحليل، كالنفسية البدوية الانطوائية للعربي، التي هي نقيض الاندماج، والمورثات الدينية، التي قيل أنها تحض على الكراهية، وترفض ثقافة التسامح.
ورغم أن صخب هذه الاطروحات بات عاليا بالعقود الأخيرة، فإنها ليست جديدة. وهي في الأصل ليست موجهة إلى المجتمعات العربية فحسب، بل تشمل جميع الشعوب، غير المنتمية للغرب. وللأسف فإن مصادرها ليست ثقافة الشارع، بل أكاديميون ومفكرون، وعلماء اجتماع، من أمثال مانهايم وإميل دورخايم. وقد انطلقت تنظيراتهم من مركزية أوروبية خالصة. هذه التنظيرات تميز بشكل حاد بين الأنا والأخر، ويتمثل الأنا في كل ما هو خير ونبيل، بينما يحمل الآخر كل الصفات السلبية.
وفي هذا السياق، فإن وسم المجتمعات العربية، بالانطوائية، وبالمورثات الدينية التي تحرض على الكراهية ورفض ثقافة التسامح، يأتي في سياق نظرة مؤسسي علم الاجتماع الغربي للآخر.
نظرية التقابل، التي قال بها عدد كبير من علماء الاجتماع، تصف الغرب بأنه ديناميكي، عقلاني، مدني، علماني، صناعي، وجنس أبيض. يقابل ذلك المجتمعات الأخرى، في قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، التي تشكل عالما ثالثا، تتصف بالسكون والخرافة وأنها قروية وغيبية وزراعية، وأجناس ملونة أو سوداء.
والأخطر، في هذه التنظيرات، أنها نزيف العلم، وترجع التخلف إلى خلل بالجينات، واختلاف في تركيب ووظائف الدماغ، تجعل الأبيض متفوقا باستمرار على سواه من البشر. وللأسف فإن هذه التنظيرات لا تزال تجد لها مريدين حتى يومنا هذا، حتى وإن اختلفت صيغ التعبير عن ذلك.
أقل ما توصف به هذه التنظيرات، أنها ليست علمية وعنصرية، وغير تاريخية. وقد انطلقت في مرحلة تاريخية معينة، هي عهد الاستعمار، حين كانت أوروبا، ترسل أساطيلها البحرية، وتشن حروبها على شعوب العالم. وفي حينه كانت أوروبا من حيث ميزان القوة العسكرية والاقتصادية، هي مركز العالم. لكن ذلك، لم يكن حال القارة الأوروبية باستمرار.
بل إننا نزعم، أن حال أوروبا، من حيث قوة حضورها العسكري والعلمي، ليس شاملا. فهناك بلدان أوروبية، وباللون الأبيض الفاقع، بقيت تعاني الفاقة والتخلف والحرمان. وفي العمق الأوروبي، هناك مجتمعات قروية وريفية، تحمل مواريث غيبية مشابهة لتلك التي تسود في بقية المجتمعات الأخرى. وإذا فالمسألة ليست ثابتة.
ونظرية التقابل هذه، التي انطلقت في مرحلة معينة، هي مرحلة الهيمنة الأوربية على العالم تلغي التاريخ، وتتناسى أن المواصفات التي ذكرها مفكر مثل دورخايم، لم تكن ثابتة باستمرار. وأن مواصفات أووربا في تاريخها السابق، على الثورة الصناعية هي غير ذلك، والبون بينها وبين ماضيها كبير جدا. وما هو ديناميكي وعقلاني وعلماني ومدني وصناعي الآن، كان نقيض ذلك قبل عدة قرون.
الحضارات الإنسانية، خاضعة لقانون الدورة التاريخية. هكذا كان التاريخ الإنساني دائما. حضارات تبزغ شمسها، وحضارات أخرى، تعيش لحظة الغروب. والعرب كانت لهم حضارتهم أيضا. وتحتضن أرضهم أقدم مدن العالم، كدمشق وحلب والفيوم والقيروان ومكة والقدس، وكانت هذه المدن قبلة لطلاب العلم، من كل مكان.
والعربي، لم يكن بدويا باستمرار، فهناك دائما جبال وواحات وصحارى ووديان. والناس يكتسبون صفاتهم من وظائفهم، ومع انتقالهم من حال إلى حال تتغير الصفات. والقول بغير ذلك، نقيض للتاريخ، الذي هو في حقيقته، تدوين للمتغير من الفعل والحراك الإنساني وليس ثوابته. وفي سجله الكثير الكثير، عن حضارات إنسانية سطعت في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولم يكن نصيب العرب يسير، في هذا المضمار.
العقود الأخيرة، وبشكل خاص فيما بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت تراجعا أوروبيا، في كثير من الأصعدة. ومنذ بداية هذا القرن، مثل الاتحاد السوفييتي قوة أوراسية. وفي السنوات الأخيرة، برزت الصين كقوة اقتصادية وعلمية وعسكرية كبرى، يضاهي قوة اقتصادها الإقتصاد الأمريكي، وتنبيء كل المؤشرات، بأنها ستكون القوة الاقتصادية الأعظم بالسنوات القليلة القادمة. فكيف تفسر نظريات التقابل العنصرية، هذا التطور، الذي يلجم مجمل مقولاتها بالجملة والتفصيل، وهو تطور يدحض كل المقولات البائسة عن أسباب أزمة النهوض العربي، ويفتح الأبواب على مصاريعها، لقراءات مختلفة. والموضوع لا يزال بحاجة إلى مزيد من القراءة والتحليل، في أحاديث قادمة.