في نتائج الاستفتاء على الدستور العراقي: قراءة أولية
ولعل هذه الغايات، تفسر إلى حد كبير إصرار الرئيس الأمريكي، جورج بوش واليمين الراديكالي المتنفذ في إدارته على سرعة إجراء هذا الاستفتاء، رغم المعارضة الشديدة لكثير من المستشارين والخبراء في إدارته، بل وضمن بعض القوى العراقية التي ناصرت الاحتلال بحماس، واعتبرته مرحلة هامة من أجل بناء “عراق ديمقراطي جديد.”
فقبل الاستفتاء بوقت قصير شكا السياسي الكردي، محمود عثمان، الوزير المعين بالمجلس الانتقالي الذي شكلته قوات الاحتلال بعد سقوط بغداد، لمراسل صحيفة “لوس أنجليس تايمس” بالعراق في تصريحه من استعجال الرئيس بوش الاستفتاء على الدستور في العراق. وأشار إلى أن هدف الرئيس الأمريكي من هذه السرعة هو وقف تدهور تأييد الرأي العام في بلاده للحرب. ووصف الاستفتاء بأنه طبخة همبرجر مستعجلة قضت، في رأي السياسي الكردي على فرصة إقناع سنّة العراق بقبول الدستور.
وكانت هناك مواقف أكثر غرابة في هذا الاتجاه، فحسب صحيفة “واشنطون بوست” فإن كنعان مكية، الذي احتل عشية الحرب العناوين الرئيسية للصحف الأمريكية، حين توقع أن يكون قصف بغداد بالصواريخ “أعذب موسيقى يسمعها في حياته”، ورند رحيم، التي عينت سفيرة لحكومة الاحتلال في واشنطن قبل تعيين واشنطن لحكومة الاحتلال في بغداد، قد رفضا ما جاء بالدستور. حيث أشار مكية، في توصيف لحالته النفسية، إلى أنه لم يتبق لديه “سوى الآمال المحطمة والآمال المحطمة”، وأن أمله في عراق ديمقراطي وليبرالي قد تهاوى، معللا سبب فشل نشر الديمقراطية بالعراق بقوة تغلغل نظام صدام حسين بالمجتمع العراقي. إن اللوم يقع علينا “نحن العراقيين”، يقول مكية “فقد أخطأنا في تقدير قدرة النظام السابق على حشد المسلّحين، الذين عطلوا إعادة البناء، فيما قسموا العراق على امتداد الخطوط الدينية والإثنية”. إن الدستور يبلور في رأيه هذا “العنف القاسي، الذي يجعل العمل السياسي مستحيلا، ويدفع العراق إلى تجزئة ثلاثية قد تؤدي إلى حرب أهلية تستمر عقوداً”. وبلغ التشاؤم بمكية حد اعتبار الدستور “وثيقة لتدمير الاستقرار بشكل جذري”، وقال إن “الدستور غير قابل بحكم تكوينه للعمل، وإذا عمل فلن يعمل إلاّ باتجاه سفك دماء الأشقاء بعضهم البعض.”
رند رحيم، هي الأخرى، لم تكن أقل تشاؤما. فقد استعارت تعبيراً مشهوراً للأديبة الأمريكية غرترود ستاين لتُفسِّر لماذا يهدد الدستور العراق بكارثة: “الدستور ينشئ حكومة مركزية بالغة الضعف حدّ أنك عندما تبحث عنها هناك لا تجد هناك هناك”. على خلاف ذلك يجعل الدستور برأيها “الإقليمين الكردي والشيعي أشبه بدول مصغرة”. ويعني هذا “أن هناك احتمالات قوية بتطويح الدستور بالدولة وجعلها خارج نطاق السيطرة.”
والواقع أن التصويت على الدستور يعيد إلى الذاكرة جملة من الحوادث التي أعقبت الاحتلال.. ففي كل مرة تقدم الإدارة الأمريكية على اتخاذ خطوة ما بالعراق، تروج ماكينة إعلامها إلى أن ذلك سيشكل انتقالا رئيسيا نحو تعزيز الأمن والاستقرار، وتثبيت مشاريع الاحتلال. وما تلبث الحقائق على الأرض أن تتمخض عن غير ذلك، فنرى تسارعا وتصاعدا في الكم والنوع لعمليات المقاومة. قيل لنا إن الأمن سوف يتحسن بعد تشكيل مجلس الحكم الانتقالي، ورأينا قوات المقاومة تسد الطريق عنوة إلى مطار بغداد الدولي، وتحاصر القوات الأمريكية وقوات الشرطة وتجعلها تنكفئ على نفسها في مواقع تحسب أنها آمنة. وتتجرأ المقاومة على قصف المنطقة الخضراء، حيث يتواجد مقر المندوب السامي، والسفارة الأمريكية ومجلس الحكم. وقيل إن ذلك الحال، سوف يتغير بعد تشكيل حكومة منتخبة، فإذا بالبنتاجون، بعد فترة وجيزة يعلن بأن عمليات المقاومة قد تضاعفت، وأنها قد طورت كفاءاتها وإبداعاتها، وتقوم بتصنيع ما تحتاجه من المعدات والسلاح، وتطور بشكل حاسم قذائف مضادة للدبابات، وتستخدم أشعة الليزر في عملياتها، وتضاعف من قدرتها على التصدي لجيش الاحتلال.
وفي هذا الاتجاه، برزت تحليلات مماثلة، متشائمة النبرة في واشنطون، حيث تتوقع دوائر سياسية واستخباراتية أن الموافقة على الدستور سوف تجعل الأمور أسوأ وليس أحسن، وأن من نتائجها تقسيم العراق، وأن التحول “الديموقراطي” سيعزز دور المقاومة ويعزز من تصديها وليس العكس. قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال جورج كيسي يوافق أن هذا السيناريو محتمل جدا. ويعتقد روبرت ماللي، الذي انتهى لتوه من وضع تقرير عن العراق أصدرته “المجموعة الدولية للأزمات” أن “النجاح في العراق لا علاقة له بالديموقراطية، أو عدم الديموقراطية، بل بالتوصل إلى تحالف سياسي توافق عليه جميع الأحزاب السياسية… إذا لم يتم التوافق حول ذلك فلا نفع في العملية السياسية.”
وتقدم لنا إجراءات التحضير للاستفتاء صورة أوضح عن حالة التشاؤم والقلق والخوف التي تسود في صفوف إدارة الاحتلال.
فقبل الاستفتاء بيومين، فرض على ملايين العوائل في العراق نظام منع التجول حتى نهاية يوم الاستفتاء السبت. ومنعت اعتبارا من مساء الجمعة حركة السيارات بين المحافظات، وأغلقت الحدود والمطارات والموانئ. وتوقع وزير الداخلية المؤقت جبر صولاغ تهرب الآلاف من أفراد الشرطة من القيام بالحراسة. وكان ما توقعه صحيحا، ففي الرمادي التحق بالخدمة ألف شرطي فقط من مجموع 6500. وصدرت بيانات عدة تطالب بمقاطعة الاستفتاء، بعضها صادر من أكبر الزعامات الدينية الشيعية العراقية، كمدرسة الخالصي في الكاظمية.
في يوم الاستفتاء اتضح أن مفوضية الانتخابات قد أخفقت في إيجاد مراكز انتخابية في أكثر من 15 مدينة عراقية تتوزع على محافظات كركوك والرمادي والموصل وصلاح الدين فضلا عن مدن اللطيفية واليوسفية والرشيد التابعة لمحافظة بغداد. ومن جهة أخرى، أشير إلى أن المصوتين في مدن هيت وحديثة وعانة والبغدادي وراوة والقائم لم يجدوا مراكز انتخابية يدلون من خلالها بأصواتهم. وأن قوات الاحتلال عزلت مدن المنطقة الغربية لمنع المصوتين من أن يدلوا بأصواتهم.
وفي مدينة الناصرية، ذات الغالبية الشيعية، تداول أهالي المدينة فتوى صادرة من مكتب رجل الدين الشيعي آية الله كاظم الحائري يوصي فيها مقلديه بعدم المشاركة في الاستفتاء. وقال أحمد جارالله ممثل الحائري في الناصرية إن المرجع الشيعي قد وصف الدستور بأنه لا يحمل من الإسلام إلا ظاهره ونقل عن الحائري قوله: أفضل أن أقطع إربا إربا على أن أقول نعم للدستور.
وفي محافظة الأنبار، قال مصدر في هيئة علماء المسلمين إن موافقة الحزب الإسلامي العراقي على الدستور ودعوته للتصويت بنعم قد جعلت هذا الحزب معزولا ومستهدفا من قبل المقاومة العراقية.
وكانت هناك مواجهات مسلحة بين المقاومة وقوات الشرطة وقوات الاحتلال في عدد من المدن والبلدات العراقية. وقد أعلنت القوات الأمريكية أنها قتلت في قصف جوي بالمنطقة الغربية من العراق أكثر من سبعين مسلحا، فيما اعترفت بمصرع خمسة من جنودها في اليوم التالي للتصويت على الدستور، بما يعكس ضراوة المجابهة بين المقاومين وقوات الاحتلال.
النتائج الأولية تقول بأن 61% فقط صوتوا على الدستور، حسب الإحصاءات الرسمية، وأن محافظتين هما الأنبار وصلاح الدين قد صوتتا بـ”لا”. وأن غالبية العرب، من أهل السنة لم يوافقوا على الدستور.
إن الدستور كما أوضحنا في أحاديث سابقة، هو العقد الاجتماعي الناظم للعلاقة بين المرء والمجتمع والدولة، وعلاقات سلطات الدولة ببعضها البعض. واللحظة الدستورية هي ليست بالضرورة لحظة توفر الأغلبية لصالحه. اللحظة الدستورية هي لحظة التوازن المطلوب لترجمة القيم السياسية والحقوقية التي يتفق الجميع على أرجحية سيادتها. وكتابة الدستور هي الفعل الجوهري للتعبير عن الإجماع… إن الدستور هو التعبير عن الإرادة الجماعية في منظومة محددة من القيم والحقوق والواجبات، والعمل من أجل وحدة الوطن وضمان أمنه وحريته واستقراره.
وعلى هذا الأساس، يبقى التشكيك قائما في مشروعية التصويت على الدستور العراقي، وفي النتائج التي رشحت عن الاستفتاء، كونها لم تأخذ تلك المسلمات البديهية بعين الاعتبار. والأهم من ذلك أن آثارها، كما بدا لنا، ناكسة في الحفاظ على الوحدة الوطنية وتحقيق الأمن والاستقرار في أرض الرافدين.