في مواجهة التخريب

0 347

 

في خضم الخراب والدمار، والأحداث العاصفة، التي تمر بها معظم البلدان العربية، في السنوات الثلاث المنصرمة، التي صاحبت ما عرف بالربيع العربي، صمدت المملكة في وجه الرياح العاتية، وبقيت عصية على التخريب، وبقيت واحة وارفة، ينعم أهلها بالأمن والسلام. وكان ذلك استثناء، وخارج منطق التأثير والتأثر، خاصة حين تحيط بنا الحرائق من كل الجهات.

ما حدث مؤخرا من عمل إرهابي، على حدودنا الجنوبية، في شروره، والذي فقدنا فيه أربعة من رجال الأمن البواسل، هو تأكيد على صعوبة النأي عما يجري من حولنا من أحداث جسام، وأن للجغرافيا أحكامها. فبلادنا واسعة وحدودها مفتوحة، وقد أصبحت محاطة من الشمال والجنوب، بمناطق تشتعل فيها النيران، ويسود فيها الخراب والدمار، وروائح الموت, وقوى التخريب، كما هي عادتها، لا تعتمد المواجهة المباشرة، بل التسلل في أعداد صغيرة محدودة، بما يجعل اكتشافها والتحسب لتخريبها، غاية في الصعوبة. نقول ذلك، مع كل العرفان والامتنان للأجهزة الأمنية، التي أدت دورا بطوليا هائلا، وقدمت تضحيات كثيرة، بما أسهم في حماية الحدود، ومنع محاولات التخريب، وحمى الأرواح والممتلكات.

مؤشرات كثيرة، تقول بأن بلادنا هي الآن في دائرة الاستهداف. وكانت توجيهات خادم الحرمين الشريفين، قد قضت بالتهيؤ لكل الاحتمالات، ووضعت القوات السعودية، في الحدود الشمالية، بشكل خاص، بموجب التوجيهات الملكية في حالة تأهب قصوى. وذلك مبعث أمن ورضا من قبل أبناء الوطن. وهناك يقين وثقة بأن حدودنا، عصية على الاختراق، في أية مواجهة عسكرية مباشرة. وليس هناك مكان للمقاربة بين ما جرى في بلدان عربية أخرى، وبين ما تعيشه بلادنا.

فوصول تنظيمات القاعدة بكثافة، إلى بلدان كاليمن وسوريا والعراق والصومال، هو نتاج انفلات أمني، وضعف لسلطة الدولة، سابق على حضور تنظيمات الإرهاب والتطرف. وفي ظل الفراغ السياسي والأمني، تحدث حالات الاختراق. ومثل ذلك لا ينسحب مطلقا على الأوضاع في بلادنا. والبديل عن ذلك، إن حدث لا سمح الله، ستكون عمليات فردية محدودة، سيتمكن رجال الأمن، كما تمكنوا في السابق، من احتوائها.

على أن ذلك ينبغي أن لا يكون من جانبنا نهاية المطاف. فليس شرطا أن تجري أعمال التخريب، باستمرار في شكل تسلل من الخارج، فيكون عليها مواجهته عند الحدود. فأعمال التخريب السابقة، كانت تجلها تحدث في قلب المدن الرئيسية، في الرياض وجدة والدمام والخبر وبقيق، ومدن أخرى. وقد تكفلت السلطات الأمنية في المملكة، بالتعامل مع ملفات تلك الأحداث، وحققت نجاحات باهرة، حالت دون استمرار أعمال التخريب، قرابة عقد من الزمن.

مهمة السلطات الأمنية، في مواجهة التطرف، سوف تتواصل بالتأكيد، وستؤدي دورها المعتاد في حماية الأمن والاستقرار بالمملكة. لكن مواجهة وطنية كبرى، كهذه لا ينبغي أن تقتصر على خط واحد، هو المعالجة الأمنية، وتدع بقية الخطوط مكشوفة. فالإرهاب في الأصل، وكما أكدت تجارب جميع البلدان التي اكتوت به، ينطلق من فكر التطرف، أفكار تكفر الدولة والمجتمع، ومواجهته، تتطلب تعميم نقيضه.

النقيض للتطرف هو التسامح، وقبول الرأي والرأي الآخر. وسد المنافذ على الأفكار التي تروج للتزمت والكراهية. والمتطرفون، لا يلجأون، كما أثبت التجارب للعقلاء من الناس، ولا للبالغين من الشباب. فمثل هؤلاء يكونون محصنين، ضد التطرف والشر. وتكون نظرتهم للحياة، قد تحددت واكتملت، بما ينسجم مع الثقافة والعادات المألوفة في مجتمعاتهم.

ومادامت الأبواب مغلقة، أمام قوى الإرهاب والتطرف لاصطياد البالغين، فإن التوجه في الغالب يكون نحو الشباب الصغار، وبشكل خاص أولئك الذين لم ينالوا تحصيلا وافرا من التعليم. فمثل هؤلاء تكون أدمغتهم، لوحات مفتوحة، ومهيأة لتقبل أي شيء، كما أن أعمارهم، وكونهم في سن المراهقة، تجعلهم يميلون للمغامرة، خاصة وأن في ذلك، حسب حقن فكر الإرهاب والتطرف، أجر الدنيا وثواب الآخرة.

إن المواجهة الوطنية الكبرى للتطرف، لا ينبغي أن لا تقتصر على المعالجة الأمنية، التي هي أمر لا بد منه، لصيانة أمن البلاد، بل ينبغي أن تكون على كل المستويات. لا بد من سد المنافذ أمام قوى الإرهاب، من التغلغل وسط الشباب، ومحاولة اقتناصهم، وزجهم في محرقتها. وشرط ذلك، تأهيل هؤلاء الشباب، وإيجاد الظروف المناسبة، لعودتهم إلى مقاعد الدراسة، بدلا عن التسكع في الأماكن الموبوءة، بفكر التطرف.

ولا مناص في هذا السياق، من السير قدما، ومن غير تردد، نحو استبدال ثقافة الاتكالية والعجز بثقافة الفكر والعمل. واستبدال ثقافة التلقين بثقافة النقد والتحليل والتفكيك، وثقافة النص الساكن والمتبلد، بثقافة الإبداع والمبادرة، والعلم الحق والعمل الحق. والولوج بقوة، في عصر كوني أهم سماته التقدم العلمي والتكنولوجي والمعاصرة.

لا بد من تنوع الفعاليات الشبابية وتعددها، وتلك مسؤولية لا تقتصر على الوزارات المعنية بالشباب وحدها. فنحن في معركة مواجهة، ومعركة وجود، تقتضي وضع كل الطاقات، للانتصار فيها، كل وزارة وكل مؤسسة من موقعها. لا بد من التأشير على مواقع الضعف والخطأ، والمكامن التي من خلالها يتم التسلل إلى شبابنا.

الانتصار للوطن، في هذا المنعطف، يقتضي تغليب هويته، على ما عداها من الهويات الجزئية والفرعية. فلا ترفع راية أخرى غير رايته. لا مكان في هذه اللحظة، للقبلية أو العشائرية أو الطائفية أو الهوية، فهي أن بقيت ستكون مكمن الداء. ولن ترفع السواعد عاليا لنصرة الوطن، إلا بدحرها، والانتصار للوحدة الوطنية. ففي بلادنا العزيزة، ما يستحق أن ندافع عنه، وأن نستبسل في سبيله، فهل سيكون علينا تأكيد جدارة الانتماء.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

16 + 15 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي