في ملامح النظام العالمي الجديد

0 406

 

من الثابت القول إن العالم على أعتاب نظام دولي جديد، مغاير للنظام الذي ساد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وأهم ملمح في ذلك النظام هو الثنائية القطبية التي حكمت التفاعلات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين الفاعلين الدوليين. وكانت رصاصة الرحمة على هذا النظام أطلقت غداة اقتلاع جدار برلين في نهاية عقد الثمانينات من القرن المنصرم، ليعقب ذلك تفرد الأمريكي على عرش الهيمنة، وصناعة القرار الدولي.

 

إن تغيير النظام الدولي، يعني بداهة، تغيير الفاعلين الدوليين، لكون هذا النظام هو البيئة التي تتم فيها العلاقات الدولية، وفقاً لمصالح أصحاب القوة والنفوذ. ولا يتحقق النظام الدولي بالتراضي والقبول، بل هو نتاج صراعات وحروب، يفرض من خلال نتائجها المنتصر شروطه، وشكل النظام الجديد على أولئك الذين رفعوا راية الاستسلام.

 

وخلال الحربين الكونيتين، تشكّل نظامان دوليان، بالضربة القاضية، حيث كان هناك منتصرون يفرضون تسوياتهم، وشروطهم، ومفاهيمهم للعلاقات الدولية، وهناك مهزومون ليس أمامهم سوى القبول بذلك.

والنظام الذي انبثق بعد الحرب العالمية الثانية، كانت أهم ملامحه أنه تقاسم مراكز القوة بين الشرق والغرب. والملمح الآخر، أنه شمل شكلين اقتصاديين متعارضين، اشتراكي في الشرق، ورأسمالي في الغرب. وشمل تقسيم آخر للشمال والجنوب، حيث الثروات والغنى والصناعة تتركز أفقياً في الشمال، أما الجنوب فهو عالم الفقراء.

وتبعاً لهذا الانقسام، تشكلت منظومات وتحالفات سياسية، واقتصادية، وعسكرية، عكست في مجملها الصراع المرير بين القطبين المتربعين على عرش الهيمنة الدولية.

وكان ضمن الحقائق التي برزت بعد الحرب العالمية الثانية، تنافس القطبين على إنتاج أسلحة فتاكة، لم يسبق للإنسانية أن شهدتها من قبل، يأتي على رأس قائمتها السلاح النووي الذي تحول إلى سلاح ردع، لا يمكن لأي من الفريقين المتنافسين استخدامه، لأن ذلك يعني فناء محققاً للبشرية.

فكان أن استبدلت الحرب الباردة بالصراع العسكري المباشر، وفيها جرى اعتماد الحروب بالوكالة.

نحن الآن أمام واقع جديد، تتغير فيه من جهة، موازين القوى الدولية، وتبرز قوى اقتصادية جديدة، ممثلة بشكل رئيسي بالصين الشعبية، ويعود الدب القطبي، بجبروته وقوته العسكرية، للساحة الدولية. لكن ذلك لن يمكن من انبثاق نظام دولي جديد، على شاكلة النظم السابقة. فالضربة القاضية، ورفع رايات الاستسلام لن تكون واردة في المدى المنظور، لأنها ارتبطت سابقاً بالحروب العالمية، التي بات شنها في ظل أسلحة الرعب أمراً مستحيلاً.

يضاف إلى ذلك التداخل القوي، في العلاقات الاقتصادية بين المتنافسين، بحيث تشكل الهزيمة الاقتصادية لأي فاعل قوي في السياسة الدولية جرحاً عميقاً للجميع. ولعل الموقف الصيني من أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، خير مثال على ذلك. فالصين الشعبية، وهي المنافس الاقتصادي الرئيسي للولايات المتحدة، تحصل على 25 في المئة من دخلها القومي، من تعاملاتها مع أمريكا، ولذلك تجد نفسها، مرغمة على الإسهام الفاعل والجدي في معالجة الأزمات الاقتصادية التي تمر بها الولايات المتحدة. وربما لو حدث العكس ستتصرف أمريكا بالسلوك نفسه. ذلك يعني أن علينا أن ننتظر طويلاً حتى ينبثق النظام الدولي الجديد الذي سيكون اقتصادياً من طينة واحدة، هي النظام الرأسمالي. بمعنى أن النظام المرتقب لن يكون التنافس فيه عقائدياً. ولن تكون فيه ضربات قاضية، والتحالفات التي ستتشكل فيه ستكون محكومة في الأغلب بالإرث القديم، أكثر مما هي محكومة بأنماط النظم السياسية والاقتصادية.

لكن ذلك لن يستمر طويلاً، فالقوى الفاعلة الجديدة، ستبحث لها عن أقدام راسخة، وحضور قوي في النظام الجديد. فعلى سبيل المثال، لن تقبل ألمانيا باستمرار مواريث الحرب العالمية الثانية، ووثائق الاستسلام جاثمة فوق صدرها، وبالمثل ستطالب الهند بدور قوي في السياسة الدولية، وسيكون لبلدان أمريكا اللاتينية حضور مماثل في صناعة البيئة الدولية، وسوف تتشكل تحالفات عسكرية، واقتصادية، وسياسية، في ضوء حقائق القوة الجديدة.

الأهم بالنسبة إلينا نحن العرب، أن ما يسبق انبثاق النظام الدولي الجديد والتوافق على التسويات بين الكبار، هو سيادة الانفلات والفوضى في السياسة الدولية، وفي العادة يكون الضعفاء هم ضحايا محارق الفوضى، والانفلات، وغياب التسويات، وعدم انبثاق نظام دولي جديد. وقد رأينا ذلك واضحاً في احتلال العراق، واندلاع خريف الغضب العربي، وغطرسة «إسرائيل»، والتراجع الأمريكي عن عروبة القدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين.

إنها مرحلة جديدة في البيئة الدولية، وعلينا أن نختار، إما أن نعترف بأننا أمة واحدة عليها أن تجمع مصادر قوتها، وتوحد جهودها لكي تأخذ مكانها في الحراك العالمي الذي يجري على قدم وساق، وإما نكون خارج التاريخ.

Yousifmakki2010@gmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثلاثة × اثنان =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي