في ملامح النظام الدولي الجديد
وليس بالإمكان تقديم قراءة استشرافية لملامح هذا النظام، إلا بوضعها في سياق التحولات العلمية الهائلة، التي حدثت في الكون خلال العقود الأخيرة. فهناك انتقال جديد لمفهوم العولمة، من اعتبارها حالة اندماج أو تبعية اقتصادية، من قبل الأطراف إلى المركز، إلى مستوى أخر، مختلف تماما عن كل ما شهدته البشرية، منذ بدأ الاجتماع الإنساني.
هناك ثورات في عالم البيولوجيا والاتصالات، وثورة رقمية، وتطور مواقع التواصل الاجتماعي، ربما يكون تأثيرها محدودا حتى الآن في المجتمعات الفقيرة، لكن تأثيرها العالمي، وبالذات في عالم المال وصناعة الأسلحة، هو تأثير مهول وغير مسبوق. فلم يعد التأثير مرتبطا بحجم الكتلة وثقلها، بل بقياسات مختلفة، في الكم والنوع. وسيكون لذلك تأثيره المباشر، على مفاتيح كثيرة، بما يستدعي إلى أعادة النظر في المفاهيم المعهودة للقوة. وعلى الصعيد الزراعي، لم تعد هناك فاصلة بعد مكننتها بين عالمي الزراعة والصناعة.
وعلى واقع هذه التحولات ستتشكل تكتلات جديدة، لن تكون محكومة بالصراعات العقائدية، التي سادت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وقد بدأت ملامح نهاية العهد الذي دشنته نتائج الحرب العالمية الثانية، تبرز بوضوح. فالصين الشعبية، على سبيل المثال، رغم أنها عضو دائم في مجلس الأمن الدولي، لم تبرز في هذا المسرح كلاعب اقتصادي رئيسي إلا في العقود الأخيرة. والحال هذا ينسحب على الهند، التي بقيت معزولة عن لعب أدوار سياسية هامة في المسرح الدولي، وعانت كثيرا من التهميش والفقر، تتقدم الآن بقوة، في تعزيز برامجها التنموية، وتتنافس مع الكبار في الصناعات الالكترونية.
وفي آسيا أيضا، تتقدم كوريا الجنوبية، في التصنيع وعلى كل الأصعدة، وتلحق بها وأن بمسافات لا يستهان بها، اندونيسيا.
وإذا كانت كلمة السر دائما هي في الاقتصاد، فإن من يملك القوة فيه، سيطلب مقابل ذلك استحقاقات سياسية. وستسهم قوة الاقتصاد في تحفيز شهوة الدخول إلى صناعة السلاح. فمن يستطيع تصنيع السيارة، سيهل عليه صناعة الدبابة، ومن يسهل عليه صناعة الطائرة المدنية، يسهل عليه صناعة قاذفات الطائرات.
العالم الجديد، الذي لن يطول انتظارنا كثيرا له. ستتغير فيه موازين القوى الاقتصادية. وبالمثل سيؤدي إلى تغير هائل في مجال الثقافة والكفر والفنون، بما يتسق مع التحولات العلمية الهائلة التي يشهدها الكون. ولأن السياسة، كما الكون لا تقبل الفراغ، فإن نظاما سياسيا جديدا سيقوم على أشلاء النظام القديم. وستظل القوتين الاقتصادية والعسكرية، تقرران المواقع الجديدة للدول في عالم القوة.
وفي حال تراجع القوة الاقتصادية الأمريكية، كما هو ملحوظ في العقدين المنصرمين، فإن من المتوقع أن تنتهج أوروبا بالتدريج سياسة مستقلة عن واشنطون, تراعي المصالح الخاصة، للقارة الأوروبية. وفي هذا السياق، سيكون لفرنسا وألمانيا الدور الأساس في قيادة النزعة الاستقلالية الأوروبية عن العم سام.
فثقل التاريخ، بالنسبة لعلاقة البلدين بالولايات المتحدة، سيكون له تأثير كبير في صناعة المحور الأوروبي. فألمانيا دخلت حربين مدمرتين، انتهت بإذلالها وخضوعها للهيمنة الأمريكية. وسوف تجد في التطورات الأخيرة، فرصتها للفكاك من أسرها، الذي استمر أكثر من سبعة عقود، منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية. وبالنسبة لفرنسا، فإن نزعتها الاستقلالية، بدأت مع الرئيس شارل ديغول، بعد نهاية الحرب مباشرة. وبقي إرث الديغولية السياسي، في فرنسا، قائما حتى يومنا هذا.
هناك محورين سياسيين بدءا في التشكل في مجموعة البريكس وشنهغاي، وسوف تتطور هاتين المجموعتين، لكن ذلك لا يعني أنهما ستشكلان مستقبلا تكتلا أو تحالفا عسكريا.
ما يلوح في الأفق حتى الآن، أن العالم الجديد، سوف يكون بثلاثة أضلاع. الضلع الأمريكي، وسوف يضم الولايات المتحدة وكندا، والضلع الأوروبي، وستكون فرنسا وألمانيا ركنه الأساس، وستلتحق به معظم الدول الأوربية. وضلع آسيوي، ربما تكون روسيا الاتحادية والصين الشعبية والهند، ركنه الأساس، وتلتحق به بعض الدول الأسيوية وربما الأفريقية.
هناك سعي روسي محموم، لتشكيل كتلة أوراسية، تشكل محورا أسيويا أوروبيا، قد تفلح مرحليا، في تشكيل شراكة اقتصادية، إلا أنه من الصعب الآن التنبؤ بمآلات هذه الكتلة، حين يتعلق الأمر بالتحالف السياسي والعسكري.
أسئلة ملحة تبقى من غير جواب. أولاها هل ستكون ولادة النظام العالمي الجديد عسيرة، بحيث تستدعي اندلاع حروب إقليمية، أم أنها ستأخذ الشكل الأوروبي الشرفي، الذي شهده العالم، في مطالع التسعينيات من القرن المنصرم. كل المؤشرات تؤكد أن هذه الولادة ستكون عسيرة، لأنها مرتبطة بصراع الإرادات، ومثل هذا النوع من الصراع، لا يحسم وديا. لكن من الجزم تقرير ذلك بقوة الآن.
السؤال الآخر، هو عن مدى مواءمة تشكيل هيئة الأمم المتحدة الحالي، لهذه المتغيرات، وبشكل خاص نظام مجلس الأمن الدولي وحق النقض فيه. هناك دول صاعدة كاليابان وألمانيا، بدأت تطالب بعضوية دائمة في مجلس الأمن. وقد تعطل ذلك بفعل سطوة اليانكي الأمريكي، على صناعة القرار الأممي. فماذا سوف يحدث، بعد تراجع نفوذه. هل سيعاد النظر في هذه المؤسسة، فيجري تطويرها على ضوء الحقائق السياسية الجديدة، أم تطوى صفحتها نهائيا، كما طويت من قبل صفحة عصبة الأمم، ويقام على أنقاضها تشكيل جديد، بمسميات مختلفة. ذلك أمر لا يمكننا أيضا الآن الجزم به. وسيكون علينا أن ننتظر قرابة عقد من الزمن لنشهد هذا التحول في خارطة موازين القوة وصراع الإرادات.