في معنى النصر والهزيمة
د. يوسف مكي
في الحروب التقليدية، غالبا هناك منتصرون ومهزومون… يتقابل الجيشان فيكسب الحرب الجيش الأكثر رجالا وعدة وعتادا، وخبرة في صياغة الاستراتيجيات والتكتيك، وأحيانا ما تنتهي تلك الحروب من غير حسم ، حين تتكافأ قوة المتحاربين، لتتبعها جولات أخرى. حديثنا هذا ليس معنيا بهذا النوع من الحروب. إن الهدف من هذا الحديث هو تسليط الضوء على طبيعة معارك الاستقلال التي تدور بين الشعب المحتل وقوة الاحتلال. وهي حروب دارت رحاها في ما بين الحربين العالميتين وما أعقبهما، وكانت معارك الاستقلال الوطني بالقارات الثلاث… آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، من أهم معالم القرن العشرين.
أول ما يلفت النظر في حروب التحرير هو عدم التكافؤ بين حركات التحرر الوطني وجيوش الاحتلال. فجيوش الاحتلال تملك تفوقا تقنيا وماديا في ميادين القتال يبز بكثير ما تمتلكه حركات التحرر. فعلى سبيل المثال تبدو المقاربة بين قوة الجيش الفرنسي ورجال الثورة الجزائرية غير متكافئة بمسافات شاسعة. فالجيش الفرنسي هو من أقوى جيوش العالم عدة وتجهيزا وخبرة، أما جيش الثورة الجزائرية وهو بالكاد شعب قبلي يتحصن بجبال الأوراس ويحمل اسلحة خفيفة جدا، لا تقارن بأي شكل من الاشكال بقوة جيش الاحتلال. والحال هذا ينسحب على قوة الجيش الثوري الفيتنامي، الذي واجه الفرنسيين في مراحله الأولى، ثم انتقل اثناء عهد الجنرال فان ثيو إلى المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة.
على الرغم من أن حكومة الثورة الفيتنامية التي يقودها هوشي منه، التي تتخد من مدينة هانوي عاصمة لها قد حضيت بدعم عسكري وسياسي واسع من قبل الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية، لا يضاهى بأي حال من الأحوال قوة الجيش الأميركي. لقد زجت ادارة الرئيس الأميركي ليندن جونسون، بنصف مليون مقاتل في الحرب الفيتنامية. وحين انتهت تلك الحرب كانت خسائر الامريكيين خمسين ألف جندي وقرابة نصف مليون من الجرحى. وإذا ما قارنا اعداد قتلى الثوار إلى اعداد القتلى الاميركين نجد أن نسبة تصل واحد إلى عشرين. بمعنى أن الفيتناميين خسروا عشرين ضعفا من نسبة خسائر الامريكيين. لقد خسر الفيتناميون في شطري فيتنام الشمالي والجنوبي ما يربو على المليون قتيل، وكان الدمار في مدنهم وبلداتهم وأريافهم هائلا ومروعا. لكن النصر في النهايةكان لصالح الفيتناميين.
هذا الواقع، له ما يماثله في جميع الثورات الوطنية التي أخدت مكانها في معظم دول العالم الثالث… خسائر البلدان المحتلة هي اضعاف أضعاف خسائر جيش الاحتلال، ومع ذلك فإن النصر في الأخير يكون لحركات التحرر. فماذا يعني ذلك؟!.
نساجل في هذا الحديث، أن نصر حركات التحرر الوطني هو نصر سياسي وليس عسكري. إن هذه الحركات تدافع عن أرضها ووجودها واستقلالها ومستقبلها، وهي لاتجد مفر ا عن مواصلة القتال والكفاح حتى طرد الاحتلال. مهما كلف ذلك من تضحيات. أما جيش الاحتلال فإنه قوة خارجية أتى من مكان بعيدة، وليس له علاقة وجدانية أو هوياتية بالمكان الذي يستعمره. هو يعمل جهده لإخضاع السكان الاصلين، ولكن الكلف التي يتحملها غير مفتوحه. بمعنى آخر المعركة بالنسبة للمحتل هي معركة ارباح وخسائر، فمتى ما وجد أن كلف الاحتلال أعلى بكثير من كلف المواجهة مع الشعب المحتل فالطريق أمامه مفتوحة للإنسحاب والعودة إلى موطنه الأصلي. ومن هنا فإن نصر شعوب العالم الثالث أمام قوى الاحتلال الغاشمة، بالدرجة الأولى سياسي وليس عسكري. وهذا الإستنتاج يصدق على ما حدث في الحرب التي دارت بالهند الصينية، في لاوس وكمبوديا، كما يصدق على حرب التحرير التي خاضها اليمن الجنوبي ضد الاحتلال البريطاني.
والنتيجة التي نصل إليها، هي أن شعوب العالم الثالث التي تواجه الاحتلال الأجنبي، لا ترى من سبيل لكسر قيودها سوى مواصلة الكفاح لطرد المحتل الغاشم مهما كلفها ذلك من تضحيات جسام. في حين أن المحتل يوازن بين مكتسباته والكلف التي يدفعها من تعزيز احتلاله، ومتى ما وجد أن الكلف عالية ولا تستحق استمرار المغامرة انسحب من الميدان.
والخلاصة أن معنى النصر والهزيمة، في حالة حروب التحرير ليس محكوما بتوازنات القوى العسكرية فقط، بل هو محكوم بعناصر أخرى لا تقل أهمية، تشي بأن النصر، في تلك الثورات ليس عسكريا بل سياسيا بامتياز، وذلك مايعطي لمعنى النصر والهزيمة أبعادا جديدة وآفاقا أخرى.
التعليقات مغلقة.