في مخاطر القسمة السياسية على فكرة المواطنة
يتقلص فيه دور المركز، هو المدخل لحل معظم المعضلات. وفي هذا السياق، اقترح اللجوء إلى الحكم الذاتي في المناطق التي تضم أقليات عرقية أو دينية أو طائفية.
الحديث هذا وإن بدا جديدا، لكنه ليس كذلك. فقد جرى التبشير به منذ أواخر الحرب العالمية الثانية، حين أشار الرئيس الأمريكي هاري ترومان، حيث أشار إلى أن اتفاقية سايكس- بيكو التي جرى تنفيذها في المشرق العربي، بعد الحرب العالمية الأولى، لم تأخذ بعين الاعتبار، حقوق المظلومين، وأن المؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية، التي سوف تنشأ بعد الحرب، ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار تأمين حقوق الأقليات القومية والدينية والطائفية. وكان ذلك هو الإفصاح الأول، عن النية في تفتيت الوطن العربي، على أساس القسمة بين الطوائف والإثنيات.
كان المشروع الفرنسي، الذي اتخذ من لبنان محطة تجربته الأولى، قد اعتمد الكوتا، في تقسيم الوظائف الرئيسية بين السياسيين اللبنانيين على قاعدة الانتماء الديني والطائفي. فرئيس الدولة وفقا لهذه القسمة ينبغي أن يكون من المسيحيين المارونيين، ورئيس الحكومة من المسلمين السنية، ورئيس مجلس النواب من الشيعة، وهكذا.
وإذا كانت البوصلة هي التجربة التاريخية، فإن ما حدث في لبنان، منذ استقلاله حتى يومنا هذا، ينبغي أن يكون جرس إنذار للجميع، بمخاطر فكرة القسمة على الأمن والاستقرار الوطني، وعلى فكرة المواطنة ذاتها.
فالأزمة الأخيرة، التي جرى تجاوزها في بلاد الأرز، لم تكن وليدة شغور الموقع الرئاسي فقط. بل إن ذلك هو أحد تجليات أزمة لبنان، منذ استقلاله، والإعلان الميثاق الوطني، الذي جرى بموجبه تقسيم الوظائف الرئيسية في الدولة على أساس كوتا الطوائف.
لقد قوى الميثاق الوطني، من النزعات الطائفية في المجتمع اللبناني، ونقل الطائفية من الدين إلى السياسة. ونتج عن ذلك أن كل طائفة عملت على الاستقواء، بمكونات سياسية خارجية وقوى كبرى، كي تسعفها في زيادة حصتها من الكعكة السياسية اللبنانية. وبات لبنان مركز استقطاب سياسي، لجميع القوى الدولية والإقليمية والمحلية.
مر لبنان بحروب أهلية عديدة، وبأزمات سياسية مستعصية، مباشرة بعد استقلاله. وظلت هذه الأزمات ملازمة لمسيرته. التحولات التي حدثت في موازين القوى في لبنان، هي تحولات في الشكل، وهي في جلها انعكاس لتغير موازين القوى الإقليمية والدولية.
ففي الخمسينات، احتدم الصراع بين الشرق والغرب. وترك ذلك الصراع بصماته واضحة على الواقع العربي، حيث اصطفت حركة التحرر الوطني في البلدان العربية، مع المعسكر الشرقي، بينما اختارت بلدان عربية عديدة التحالف بشكل أو بآخر، مع الغرب الرأسمالي، وتحديدا مع بريطانيا وفرنسا، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع الولايات المتحدة الأمريكية، بعد تربعها مع الاتحاد السوفييتي على عرش الهيمنة الدولية.
لقد خلقت حالة القسمة، جملة من الحقائق، كرست واقع الاستقطاب السياسي الدولي والإقليمي، والعربي أيضا للبنان. فتمترس كل فريق خلف قوى دولية، أضاع هيبة الدولة، وأفقدها القدرة على الحسم، وخلق مناخا من الحرية السياسية والاجتماعية غير متاح، في أي بلد عربي آخر. لكن هذه الحرية لم تكن انعكاسا لتطور تاريخي، بل عكست هشاشة الدولة، وعدم قدرتها على الإمساك بزمام تسيير الأمور بفعالية وقوة. وقد خلق ذلك معادلة لبنانية خاصة، خلاصتها “أن في لبنان كثير من الحرية وقليل من الديمقراطية”.
وهذه المعادلة، هي تعبير عن سيادة نمط من الفوضى، لا تستطيع معه الدولة، فرض سطوتها وسن قوانينها، والحد من التمترسات الطائفية والتدخلات الخارجية. إن الحرية الجامحة، هي بالتأكيد ضد وجود أي سلطة مقيدة ومنظمة لها، ونقيضها هو ترسيخ تقاليد احترام المؤسسات المعبرة عن إرادة المجتمع وخياراته السياسية، وهي آلية تنفيذ العقد الاجتماعي، بين بنيتي المجتمع التحتية والفوقية.
وعلى هذا الأساس، فإن دولة المؤسسات، هي صنو المواطنة، حيث تضطلع دولة كل المواطنين، حماية حقوق الأفراد، على أساس انتمائهم للأرض، وليس وفقا لانتماءاتهم الطائفية. بينما دولة الطوائف، هي صنو الحريات المنفلتة والفوضى وغياب الاستقرار وانعدام الأمن. والتوافقات التي تجري، في ظلها بين زعماء الطوائف، هي توافقات مؤقتة، سرعان ما تنهار، عند أي منعطف.
والحديث عن لبنان، في سياق هذه القراءة، لا يستهدف لبنان بالذات، بل يستهدف دولة القسمة بين الطوائف. وللأسف فإن هناك قوى عاتية تسعى لتعميم هذا النموذج ليشمل العراق وسوريا واليمن وليبيا، طائفيا حيثما تواجدت الطوائف، وقبليا حيث تنعدم الطائفة، وتحل القبيلة محلها، وإثنيا وطائفيا، بشكل مشترك، كما هو الحال مع سوريا والعراق.
تطرح الآن بقوة مشاريع التفتيت، في عدد من البلدان العربية. وليست الحروب الدائرة رحاها الآن في العراق، تحت شعار تحرير نينوى سوى مقدمة، لتنفيذ المشروع “الفيدرالي”، الذي يراد بموجبه تقسيم العراق، على أساس الولاءات القومية والطائفية. ومثل ذلك يجري التبشير به من قبل قوى الهيمنة، لتنفيذه على بقية البلدان العربية.
لن تقوم دولة المؤسسات، إلا في ظل نظام وطني، ركنه الأساس هو الاعتراف بما ترتبه المواطنة من حقوق وواجبات، نظام قادر على أن يزج بكل الطاقات البشرية في معركة التنمية والبناء، والدفاع عن الاستقلال والسيادة. والبديل عن ذلك هو التشظي والقسمة، والحروب الأهلية وغياب الأمن والاستقرار وهزيمة فكرة المواطنة.