في مخاطر الطائفية.. بعد تاريخي

0 198

 

 

كان بزوغ رسالة الإسلام العظيمة من جزيرة العرب، ومن مكة المكرمة بالذات المركز الديني والتجاري والثقافي الأول فيما بين بحر العرب والبحر الأحمر، ومحط ترحال القوافل التجارية المتوجهة ذهابا وإيابا، من اليمن والشام قد خلق حقائق جديدة على أرض الواقع. فبالإضافة إلى ما أرسته رسالة الإسلام من توحيد وعبادات وطقوس، وسمو بكرامة الإنسان فإنها غدت عنصر التوحيد الرئيس لقبائل وعصب متفرقة ومتنازعة، في هذه المنطقة، رفع الإسلام من شأنها وجعل الأكرم هو الأتقى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.

وعند رحيل الرسول الأعظم – صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى، كانت معظم أراضي الجزيرة قد تم توحيدها. لكن نواميس الكون، وبقايا مواريث القبيلة والعشيرة قد أطلت برأسها بقوة، مهددة وحدة المسلمين. وكانت بداية الاجتماع في سقيفة بني ساعدة فتنة وقى الله المؤمنين من شرها، وانتخب أبو بكر الصديق – رضي الله عنه- خليفة للمسلمين، ليواجه الردة، والفتن وليعيد توحيد بلاد الإسلام، منطلقا إلى اليرموك ليواجه الجيوش البيزنطية.

 

ورحل الصديق، وأصبح الفاروق، عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- خليفة للمسلمين، ليواصل معارك الفتح ضد البيرنطيين في الحدود الشمالية الغربية لجزيرة العرب، وليفتح صفحة أخرى جديدة من حروب الفتح نحو بلاد فارس.

 

وخلال معارك الفتوح التي خاضها المسلمون على الجبهتين البيزنطية والساسانية، اندملت جروح وتطهرت قلوب، وبرز ما يشبه القانون القطعي خلاصته، أن المسلمين يلتحمون بالمطلق ويتناسون خلافاتهم وأحقادهم حين تجمعهم معارك الجهاد وتوسيع دائرة دار الإسلام، وحين يعودون إلى مآويهم مؤزرين بالنصر، تعتمل في نفوسهم، نواميس الكون، بما في تلك النواميس من رغبات وغرائز، شأنهم في ذلك شأن بني البشر جميعا.

 

وكانت الفتنة الكبرى في الإسلام قد بدأت في الأيام الأخيرة لخلافة عثمان بن عفان – رضي الله عنه- وكان استشهاده أحد تعابيرها الرئيسية، لكنها لم تنته بعد رحيله. فقد اختلف المسلمون، من بعده ودارت معارك فيما بينهم، عرفت بالجمل وصفين والنهروان.. وكانت كل معركة تحصد عددا من خيار المسلمين وقادتهم، وكما رحل الخليفة عثمان شهيدا بسب الفتنة التي عمت بلاد الإسلام، رحل الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه- أيضا شهيدا بسبب تلك الفتنة. لتبدأ مرحلة “الملك العضوض”، ولتتواصل الفتن في دار الإسلام بعد رحيله، محدثة تبدلات رئيسية وهيكلية في بنية الدولة الأموية وانتقالا سريعا، في المركز الأول للخلافة. وكان من نتائج تلك الفتن، كارثة كربلاء التي استشهد فيها الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب مع نخبة من إخوته وأبنائه وبني عمومته.

 

لحق تلك الأحداث انسلاخ العراق والحجاز عن مركز الخلافة في دمشق، حيث تمكن المختار بن أبي عبيدة الثقفي من الاستيلاء على الكوفة، وتمكن عبدالله بن الزبير من الاستيلاء على الحجاز، وكان من نتائج تلك الصراعات تعطل مشروع الفتح، وانشغال المسلمين عن قضايا ِبناء الدولة. وبالتأكيد كان التضييق على الفكر، تجاه قوى المعارضة، أمرا مألوفا في مثل تلك الظروف.

 

عاود مشروع الفتح صعوده، بعد وصول الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان للمركز الأول، وتمكنه من قمع الانتفاضات والانشقاقات، فوصل إلى السند شرقا، والأندلس غربا، وتعربت مجموعة من البلدان التي تم فتحها، واحتفظت بلدان أخرى بملامحها الثقافية والقومية رغم اعتناقها لرسالة الإسلام، وانضمامها إلى دار حضارته.

 

وضعت هذه البدايات المقدمات لقيام دولة كبرى يساهم في نهضتها أقوام من ثقافات مختلفة، محتفظة بمواريث عديدة ذات علاقة بالمعتقدات والديانات، وأيضا بالمشاعر القومية السابقة. وبحكم غلبة مفهوم العقيدة في الإسلام، وأنه “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”، تمكنت بعض العناصر الأعجمية من الاقتراب من مركز الحكم، خاصة أنه كان لهذه العناصر إسهامات رئيسية في إسقاط الدولة الأموية، وبروز الدولة العباسية التي بشر بها أبو مسلم الخراساني. وقد أسهم ذلك في نشأة الحركة الشعوبية التي نشطت منذ بداية عهد الخليفة العباسي، هارون الرشيد حتى نهاية عهد الخليفة المأمون. وكانت الحركة الشعوبية في نشأتها احتجاجا من قبل العناصر غير العربية في مركز دار الإسلام، ضد النهج العنصري، الذي كان يمارس من قبل شرائح عديدة من العرب، وكانت الحركة تطالب بدور أكبر في الحياة السياسية والثقافية في دولة الإسلام.

 

في عهد الخليفة العباسي، المنصور بدأت نشأة المذاهب الفقهية الإسلامية الأربعة، المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية، كما نشأ مذهب الشيعة الإمامية، الذي أسسه الإمام جعفر الصادق. وكانت تداعيات الصراعات التي حدثت في دار الإسلام، بعد وفاة الرسول الأعظم مباشرة، قد جعلت نسل الإمام علي بن أبي طالب في قائمة المعارضة للدولة الأموية، ثم الدولة العباسية. وكان منطق المعارضة للدولة الأموية، والتعلل بحق آل البيت في الخلافة قد دفع بأبي مسلم الخراساني، وبالعباسيين إلى تأسيس دولتهم. ومرة أخرى كما وقف الخراساني، تقف الحركات الشعوبية، متعللة بحق نسل آل البيت في استلام سدة الخلافة بدلا من العباسيين. وهو المنطق نفسه الذي استثمره العباسيون من قبل.

 

سقطت الدولة العباسية، بفعل عوامل كثيرة ساعدت على اضمحلال قوتها، وانقسمت مناطق الخلافة الإسلامية إلى ممالك وأقاليم، سلجوقية وحمدانية وفاطمية… لا يجمعها سوى وحدة العقيدة. وظلت كل دولة تستمد مشروعيتها لا من العقيدة الإسلامية، التي تؤمن بها، ولكن من المذهب الذي تتبعه. وهكذا وبدلا من أن تصبح المذاهب الإسلامية عامل إثراء وتخصيب للفكر الديني، أصبحت عامل صراع وتفتيت، مع أن القراءة الموضوعية لفقه هذه المذاهب لا تفصح عن أي اختلافات جوهرية دينية فيما بينها، وأن العوامل الرئيسية للصراع فيما بينها هي الاختلافات السياسية ليس غير.

 

ومرة أخرى، استثمرت هذه الاختلافات الجزئية، وغير الجوهرية في الصراع بين العثمانيين والصفويين. وكان الصراع على أرض العراق، وكانت الذريعة هي ادعاء كل طرف من أطراف الصراع الدفاع عن مذهبه وأتباع ذلك المذهب، أما النتيجة فكانت سقوط بلاد ما بين النهرين تارة بيد الأتراك وأخرى بيد الفرس.

 

في أيامنا الحاضرة، يمثل العراق صورة كاريكاتيرية لهذه الاختلافات واستثمارها من قبل المحتل الأمريكي لفرض عملية سياسية تقوم على المحاصصة، وتغييب حقوق المواطنة، والحق في الاستقلال وتقرير المصير.

 

إن الحديث عن التقارب بين المذاهب الإسلامية موقف نبيل ومقدر لكل القوى الخيرة التي تعمل على تحقيقه، لكن الخشية أن هذه الدعوة لن تتمكن من تحقيق أي اختراقات جدية في سبيل وحدة المسلمين، لسبب بديهي هو أن المشكلة ليست في الاختلافات المذهبية. فتلك الاختلافات يمكن كما قلنا أن تكون عامل تخصيب وإثراء للفكر الإسلامي، إنما المعضلة الحقيقية هي في الموقف السياسي وتبعاته. المشكلة الحقيقية تكمن في تحول المذهب الطائفي، ومن أي اتجاه، إلى هوية بديلة عن الانتماء إلى الوطن. الخشية هي أن يتحول المذهب إلى جيتو يتمترس فيه الأتباع، ويحاولون أن يجدوا لهم ثقافة خاصة غير ثقافة المجتمع، فتحل تلك الثقافة بديلا عن الانتماء للوطن كهوية جامعة.

 

هناك حاجة ملحة في المجتمع العربي، بأسره لفهم الظروف الموضوعية التي تنشط فيها الطائفية بكل تفرعاتها وتشعباتها. والمطلوب دائما هو أن يشمل العمق الاستراتيجي لكل فرد حدود وطنه، لا حواشي مذهبه. وسوف يكون ذلك ممكنا فقط حين يتم الإقرار بوجود هذه المعضلة دون خوف أو وجل، والعمل على أن تكون المذاهب معبرة عن حالات اجتهاد، وإضافة إلى الفكر وليس انتقاصا منه، وأن يعترف بها، كجزء من النسيج الفكري الإسلامي من جهة، ومن جهة أخرى، ألا يكون أفرادها ضحية للتمييز، وانتقاص حق المواطنة بسبب من الانتماء إلى مذهب دون آخر.

 

الآن، وقد قمنا بقراءة بانورامية وسريعة للبعد التاريخي للمسألة الطائفية، بقي علينا أن نتناول مخاطر هذه المسألة على أمننا الوطني والقومي في المرحلة الحاضرة، وذلك ما نعد بتناوله في الحديث القادم بإذن الله تعالى.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثمانية عشر − أربعة عشر =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي