في مخاطر الطائفية… أبعاد وطنية وقومية
ابتداء، يجدر التنبيه إلى الفرق بين الالتزام بمذهب فقهي من المذاهب الإسلامية المعروفة، واعتماده قاعدة في فهم العبادات والطقوس والمواريث وبين تحول هذا المذهب إلى ثقافة خاصة، وهوية خاصة حاضنة لأتباع المذهب، يميز فيها الأتباع أنفسهم عن غيرهم، وتشكل الثقافة والهوية سياجا مانعا، يحول دون الاندماج بالمجتمع وثقافاته وهويته، وبالتالي يخلق هوية مغايرة لهوية الوطن.
إن التمييز بين الالتزام المذهبي، والتوجه الطائفي ليس اعتباطيا، بل هو أمر جوهري وأساسي لقراءة مخاطر الطائفية على الوحدة الوطنية والانتماء القومي. فالأول يضيف إلى حصة الوطن والأمة، أما الآخر فيأخذ منهما. وكما أسلفنا بالقول بالحديث السابق، فإن المذاهب الإسلامية وإفرازاتها الفلسفية قد أثرت الفكر العربي الإسلامي وأسهمت في تخصيبه، بينما أدى استثمار تلك المذاهب، دينية وفلسفية لأغراض سياسية إلى تحويلها إلى بؤر للصراعات والفتن في دار الإسلام، وكانت كلافها باهظة للإسلام والمسلمين، حيث سقطت دولة الخلافة، وتعطل الدور الحضاري للعرب، وتفتت دار الإسلام إلى ممالك وأقاليم.
الانتقال بالمذهب من وسيلة لفهم فقه وأصول الدين إلى ثقافة وهوية قد جعل من المذاهب إسفينا في خاصرة حضارة العرب والمسلمين. فقد تحلقت كل طائفة حول نفسها، ورفعت راية المطالبة ﺒ”حقوقها”، سعيا وراء نيل الحصة الكبرى. وفي ظروف كهذه غاب الفعل الجمعي للأمة.
بالعصر الحديث، خاضت الشعوب العربية معارك الاستقلال والتحرير، تحت شعار الوحدة الوطنية، وتمكنت من تحقيق أهدافها في عدد من البلدان العربية. وكانت تجربة البريطانيين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ووضع اتفاقية سايكس- بيكو موضع التنفيذ قد أوحت لهم أن مواجهة الحركات المطالبة بالاستقلال لا يمكن أن تحسم بالسلاح وحده، وأن تفتيت الحركات المقاومة هو السبيل لإنجاح مشروع الهيمنة، فكان تعميم شعار “فرق تسد”. وقد رأينا بأم أعيننا أنه حيثما يفشل مشروع التفتيت تنتصر الأمة، وحيثما يتمكن من تحقيق أهدافه تتقهقر مشاريع النهضة.
في لبنان الشقيق، أقام الفرنسيون كيانا سياسيا يعتمد المحاصصة بين الطوائف والأديان. وكان من نتيجة ذلك غياب المشروع الوطني، وسعي زعامات كل طائفة لمضاعفة حصتها في القسمة، دون تقدير لحقوق ومصالح غيرها من الطوائف، وتغليب ذلك على قضايا أخرى ملحة، كتحقيق التقدم وتنمية الموارد وإشاعة روح الألفة وتعميق مفهوم المواطنة. والأخطر من ذلك بكثير، أن البلاد لم تنعم منذ استقلالها حتى تاريخه بحقبة طويلة من الأمن والهدوء والاستقرار. وكانت الحروب الأهلية وعمليات القتل على الهوية الطائفية دليلا قاطعا على مخاطر الطائفية.
ورأينا ذلك أيضا في بلاد الرافدين، حين اقتبست إدارة برايمرز النمط اللبناني، في توزيع الحصص، وأضفت عليه ملامح عرجاء ومشوهة، جعلت من بلاد الرشيد اتحادا طائفيا وإثنيا فيدراليا هزيلا لعناصر وقيادات لا تربطها رابطة بتاريخ العراق العريق، ولا بأمجاده، طوائف تستمد قوة حضورها من تماهيها مع مشاريع خارجية، دولية وإقليمية، وكان وصولها لكراسي الحكم هو أحد إفرازات التنسيق والتكامل بين مشاريع الهيمنة الدولية والإقليمية، وبالتالي، فإن ارتباطها بفكرة الوطن، ووحدة الوطن لا يمكن أن يكون، أمام هذا الواقع، إلا مزيفا ومصطنعا. والنتيجة الطبيعية لاعتماد القسمة على الأسس الطائفية والإثنية، هي غياب العنصر التوحيدي، وغياب فكرة الوطن الواحد.
ولعل الصراعات الجارية الآن فيما يدعى ﺒ”البرلمان العراقي”، حول تبعية كركوك، التي يصر الزعماء الأكراد على ضمها ﻟ”إقليمهم”، بسبب احتوائها على مخزون نفطي ضخم، مع أن غالبية سكانها هم من العرب والتركمان، إن هذا الصراع هي الترجمة الحقيقية لنتائج غياب فكرة الوطن، وقيام العملية السياسية في العراق، التي فرضتها إدارة الاحتلال على أساس من المحاصصات الإثنية والطائفية. وفي أوضاع كهذه، تغيب فكرة التنمية الشاملة، والتكامل الاقتصادي، ويجري تقسيم الوطن إلى كانتونات ضعيفة، يضم كل كانتون هويته الخاصة، وثقافته الخاصة. وحتى المراكز الرئيسية في الدولة من وزارات، وجيش وشرطة يتم تقسيمها وفقا لسياق المحاصصات. وبالقدر الذي تتعزز فيه القسمة، وتترسخ فيه الهويات الطائفية والإثنية، بالقدر الذي يضعف فيه دور الحكومة المركزية، وتفقد هيبتها وقدرتها على إدارة شؤون الدولة والمجتمع.
وإذا كان هذا النوع من المحاصصات والقسمة مقبولاً قبل نشوء الدولة، ومرحلة ما قبل التاريخ، فإنه بالتأكيد لا يمكن قبوله الآن، كونه ضد التطور التاريخي، وما أفرزته مسيرة البشرية من آليات وأدوات ومؤسسات حديثة في الحكم, وليس بالمستطاع أبدا تصور قيام نظام تعليم متطور، أو النهوض بالقطاع الصحي، أو التأمينات والضمان الاجتماعي., بل ليس بالمقدور، في مثل هذا الواقع، إمكانية تصور قيام دولة حديثة وعصرية، أو الحديث عن الوحدة الوطنية في ظل سيادة نظام الكانتونات الطائفية والإثنية، الذي لم يكن يملك القابلية على الاستمرارية حتى إبان عصر المماليك.
ولعلنا لا نضيف جديدا، حين نؤكد استحالة تصدي كانتونات كهذه لأي عدوان خارجي، فضلا عن اتفاقها على مواجهة هذا العدوان، ولنا في الحوادث التي أخذت مكانها شمال العراق، حين قام الجيش التركي بملاحقة عناصر من حزب العمال الكردستاني، وقصف القرى والمواقع العراقية، خير دليل على ذلك. فخلال تلك الأحداث، انقسمت زعامات الكانتونات العراقية، طائفية وإثنية، حول العمل المطلوب اتخاذه لمواجهة الاختراقات العسكرية التركية، وبلغ الصراع بين هذه القوى حد استخدام الشتائم والكلام غير اللائق. وقد تكرر ذلك مرة أخرى، أثناء قيام القوات الإيرانية بقصف عدد من القرى على الحدود الشمالية الشرقية للعراق، ولم تتمكن القوى السياسية “الحاكمة” من الاتفاق على اتخاذ أي خطوة جدية تجاه تلك الاختراقات. لقد لعبت امتدادات الهويات الطائفية والإثنية أدوارها في الحالتين، وتبين غلبة تلك الارتباطات على الحالة الوطنية.
إذاً فالطائفية نهج مقيت، محرض على الكراهية، ومعاد لثقافة التسامح، وهي أيضا خطر ماحق على الوحدة الوطنية، ولذلك فالتصدي لها مسؤولية أخلاقية ووطنية في آن واحد.
أما فيما يتعلق بالبعد القومي، فإن من نافلة القول، الإشارة إلى أن تفتيت الجزء وتشظيه، ينتج عنه متتاليات تقسيمية وتجزيئية على مستوى الوطن العربي بأسره. فتداعي حبة من السبحة، يؤدي بالتأكيد إلى تساقط بقية الحبات. هذا في الجانب الإجرائي، وما ينتج عن النهج الطائفي من كوارث ومحن، لكن هناك جوانب اعتبارية لا تقل خطورة في نتائجها على الأمن القومي والوعي العربي، ومستقبل الأمة.
إن الثقافة الطائفية، لديها موقفها الخاص من التاريخ، وهي تفسره بالسياقات التي تعزز هويتها الفئوية. وللأسف فإن هذه الهويات ليست خارج الوعي، بل إن كثيرا منها صمم ليخدم أغراضا سياسية، وبعضها هو نتاج لنوازع ثأرية سكنت عميقا في نفس أمم اعتنقت الإسلام عقيدة، حين بلغتها جحافل الفتح العربي، ودخلت بلادها عنوة. دخلت هذه الأمم الإسلام، وأحنت هامتها للتيار الهادر، ولكن انتماءاتها القومية، ورؤيتها العنصرية وشعورها بتفوقها على العرب، شكل في اللاوعي، قراءات أخرى، غير موضوعية متحيزة ومزيفة للتاريخ العربي، طالت رموزا عظيمة لعبت أدوارا خالدة في نشر رسالة الإسلام. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن كل طائفة لها رؤيتها الخاصة، وقراءتها الخاصة، وأن هويتها وثقافتها وطقوسها وأحزانها وأفراحها، أخذت بالتشكل من خلال هذه القراءة، أمكننا التوصل إلى وجود جملة من القراءات، وأن كل قراءة تمارس دورا معاديا للأمة، من حيث تشويه التاريخ والأمجاد العربية.
ولأن التاريخ هو روح الأمة، وجغرافيته هي محتواها، فإن تشويه التاريخ العربي، يعني في محصلته تشويه روح الأمة. ويصبح التصدي للطائفية المقيتة في هذه الحال دفاعا عن الأمة وعن مواريثها وعن رموزها.
الطائفية إذن خطر جاثم في البعدين الوطني والقومي….
cdabcd
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة ياسر المعولي)
الانتماءات المذهبية هي واقع لا يمكن تغييره على الأقل في هذه المرحلة وقضية تحولها أو استقطابها لاتباعها لتتحول إلى طائفية النزعة قنبلة موقوتة بلا شك، ولكن وفي الوقت نفسه فالقوميات العربية والفارسية و…الخ كانت تكتلات طائفية (حالت دون الاندماج بالمجتمع الإسلامي في وقت سابق) وكانت المحرك الرئيسي لتفتيت الدولة الإسلامية وكان من أسباب ظهور هذه التكتلات هو تحول الدولة الإسلامية إلى دولة عربية وبالتالي أشعلت القوميات الأخرى والتي اندثرت وقت ما كانت القومية الإسلامية هي الهوية والثقافة .
ولا يمكن إنكار ذلك التحول في الهوية فملامحها جلية لا تخفى على من يقرأ التأريخ وأما عجلة الاتساع في رقعة الدولة الإسلامية العربية! فليس دليلا على قوميتها الإسلامية بل كان لها الأثر الأكبر على اثارت القوميات الأخرى عندما كان يزرع الزارع ويحرث الحارث وتلد المرأة بل وتمطر السماء لاجل شخص الأمير العربي ( يصل الأمر إلى فتح بلدان البربر في المغرب ليعلنو إسلامهم ولكن ولكونهم ليسو بعرب لم تحرم على الأمراء العرب المسلمين أعراض نساء البربر فاخذ الفاتحين إلى أمرائهم السبابا !) كيف يمكن ان يؤمن البربري أو الفارسي ويلبس عباءة القومية الاسلامية ولم يشمله قول النبي الذي فصل في دماء المسلمين وأعراضهم .
.ويالها من مصيبة فالهوية الإسلامية تحولت إلى قوميات عرقية ضيقة و الآن هذه القوميات ستتحول إلى طوائف !
ياسر المعولي bu.sahib@yahoo.com