في مأزق الثورات العربية
لم يعد موضع جدل أن ما أصبح متعارف عليه بموسم الربيع العربي، قد تعثر، ولم يحقق أهدافه. فباستثناء ما حدث في تونس ومصر، من إطاحة بقمة هرم السلطة، لم تنجز الثورات الشعبية أهدافها في الإطاحة بالنظام السياسي في البلدان العربية الأخرى التي حدثت فيها حركات احتجاجية.
ففي ليبيا، انطلقت الثورة من الأطراف، في بنغازي والمناطق المحيطة بها، بعيدا عن العاصمة طرابلس. ولم تستجب لندائها المدن الكبرى الواقعة في غرب ليبيا، كمدينة سرت ومصراته التي بقيت على ولائها لنظام العقيد معمر القذافي. وقد تعقدت الأمور لاحقا بعد قيام حلف الناتو بالتدخل العسكري في ليبيا، تحت ذريعة حماية المدنيين، وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي الصادر بهذا الشأن. ولا يبدو في الأفق حتى هذه اللحظة ما يشي بقرب انتهاء الأزمة وعودة الوحدة الليبية، بل العكس هو الصحيح. فليبيا أصبحت عمليا مفتتة، والأكثر احتمالا أن تتحول إلى أربعة أقسام. ولن يكون مفاجئا تحولها في الأعوام القادمة، إلى صومال أخرى، يقتات ملوك الحرب فيها على ما تجود به أريحية قوى الهيمنة، ولتستمر ماكنة الحرب الأهلية إلى ما لا نهاية. ومن وجهة نظرنا فإن الحل الوحيد المتاح للخروج من الأزمة هو لجوء مختلف الغرماء لطاولة الحوار، وهو أمر مستبعد، بسبب تعقيدات الموقف، والتدخلات الخارجية، التي لا تجد في استقرار ليبيا ما يتسق مع مصالحها.
لا يختلف الأمر كثيرا مع الثورة في اليمن عنه في ليبيا. هنا الانشطار أفقيا، ولا يقتصر على منطقة دون غيرها. فرغم مضي أكثر من خمسة أشهر على اندلاع الحركات الاحتجاجية المطالبة بإسقاط النظام، فإن الأوضاع لا تزال تراوح مكانها. وفي هذا البلد تتداخل الولاءات القبلية والعشائرية والمذهبية لتجعل الموقف مراوحا في مكانه. والواقع أن حالة الاحتراب في اليمن لم تبدأ بالثورة بل سبقتها بوقت طويل. فهناك الحراك الجنوبي، الذي يطالب بانفصال الجنوب، وعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل إعلان الوحدة بين شطري اليمن في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم. وهناك الحوثيون المتحصنون بالجبال في منطقة صعدة. وهناك تنظيم القاعدة، يضاف إلى ذلك قوى المعارضة السياسية المدنية المرتبطة فيما أصبح معروفا باللقاء المشترك، ولكل من هذه الحركات أجنداتها وأهدافها الخاصة. والأزمة مرشحة للمزيد من التصعيد في الأيام القادمة. وليس بالإمكان تصور عودة الاستقرار، وضمان وحدة اليمن بمجرد تنحي الرئيس على عبدالله صالح عن الحكم، إذا لم تتم معالجة حالة أسباب الاحتقان والغضب بشكل جذري، بما يؤمن الحرية والكرامة والحفاظ على الهوية الوطنية لشعب اليمن.
في الأزمة السورية، مضى حتى الآن أكثر من أربعة أشهر على انطلاق الحركة الاحتجاجية. وقد تأكد عجز كل الأطراف المتصارعة على حسم الصراع لصالحها. فالحكومة السورية، عجزت بوسائلها الأمنية والسياسية عن إنهاء حركة الاحتجاجات. ولم تفلح الخطوات الإصلاحية التي أعلنت عنها في تحقيق أهدافها بسبب تراكمات الماضي. لقد صدرت مجموعة من القرارات الرئاسية، التي تضمنت إجازة التعددية الحزبية، وحق التظاهر السلمي، وضمان حرية التعبير. وأعلن عن انعقاد اجتماع تشاوري، تمهيدا لعقد مؤتمر وطني، يناقش تعديل الدستور أو إلغائه، وبشكل خاص المواد التي تؤكد على تفرد حزب البعث بالهيمنة على السلطة والمجتمع في القطر السوري. لكن هذه القرارات جاءت بصيغة الجرعات البطيئة، التي لا تتناسب مع زخم حركة الاحتجاج، مما أدى إلى تردد أحزاب المعارضة في قبولها، خاصة وأن الإعلان عنها تزامن مع معالجات أمنية واسعة للأزمة.
من جهة أخرى، لم تتمكن الحركات الاحتجاجية، من حسم الموقف لصالحها، لأسباب موضوعية، أهمها أن الحركة الاحتجاجية تلفعت برداء إسلامي، منذ انطلاقتها من مدينة درعا. وقد طبع ذلك حركة الاحتجاجات في المدن الأخرى. هذا الرداء، شكل نقطة ضعف في الحركة، حيث غيب المنادون بهذه الشعارات حقيقة وجود لوحة دينية ومذهبية واسعة بالمجتمع السوري. فهناك المسيحيون، والمسلمون العلويون والإسماعيليون والدروز والشيعة. وجميع هؤلاء يخشون من سيطرة الإسلام السياسي على السلطة، رغم أن كثيرا منهم عمل طويلا في صفوف المعارضة السورية.
يضاف إلى ذلك، حقيقة أخرى تتعلق ببنية الجيش العربي السوري. فهذا الجيش في معظمه يتكون من عناصر قدمت من الأرياف، وتشكل الأقليات الدينية عموده الفقري. لقد رفض تجار دمشق وعلية القوم في فيما مضى، التحاق أبنائهم بالجيش العثماني والفرنسي لاحقا. وحتى بعد الاستقلال بقيت نظرة العوائل الارستقراطية السورية سلبية تجاه التحاق أبنائهم بمؤسسة الجيش. وقد تغلبت المؤسسة العسكرية على ذلك، بتجنيد شباب من الأقليات المذهبية في الأرياف. وبديهي أن يكون موقف هؤلاء الشباب القادمين من الريف والمنتمين للأقليات سلبيا من الشعارات التي يطرحها الإسلام السياسي، وتحديدا حركة الإخوان المسلمين، التي تتصدر قيادة معظم الحركات الاحتجاجية. والنتيجة أن المؤسسة العسكرية ظلت متماسكة، ولم يصدر عنها ما يشي بتعاطفها مع الحراك الشعبي الذي يجري من حولها.
في الأيام الأخيرة، تصاعد استخدام النظام للحل الأمني في عدد من المدن السورية. ودخل الجيش حماه ودير الزور وإدلب، مؤكدا أن ذلك يتم في إطار ملاحقة مخربين وإعادة الأمن. لكن شلال الدم لم يستثن أحدا. فقد ذهب ضحيته الكثير من المدنيين، وضباط في الجيش والأجهزة الأمنية. ويلاحظ تصاعد المطالبات الدولية، بوقف أعمال العنف في سوريا. وقد عبر عن ذلك صدور بيان رئاسي عن مجلس الأمن الدولي، وتصريحات للرئيس الأمريكي، باراك أوباما بمضاعفة إجراءات عزل النظام السوري عن المحيط الدولي، وتصريحات أخرى، فرنسية وألمانية مماثلة. وعلى الصعيد الإقليمي، طالب مجلس التعاون الخليجي بوقف أعمال العنف، وعودة الاستقرار لسورية، البلد العربي الشقيق. ومن جهة أخرى، صعدت تركيا لغتها الهجومية على القيادة السورية، مهددة باتخاذ خطوات عملية لوقف العنف، وكلف وزير خارجيتها لنقل رسالة من رئيس الحكومة أوردوغان للرئيس السوري، بشار الأسد.
هناك خشية حقيقية من استعادة السيناريو الليبي على الأرض السورية. ولن يفشل ذلك سوى خطوات عملية تقدم عليها الحكومة السورية والمعارضة على السواء، لتجنيب البلاد حالة الفوضى، والحفاظ على وحدة البلاد. وحرمان القوى الخارجية المتربصة بالأمة من تنفيذ مخططاتها.
وحتى تونس ومصر، حيث تمكنت الحركات الاحتجاجية من إجبار رئيسيها على التنحي عن الحكم، لم تحدث سوى بعض التغيرات الهامشية، مع وعود بمحاكمة الفاسدين، وتحقيق لانتقال سلمي نحو الديمقراطية. لم تمس هذه التغيرات جذريا هيكلية النظامين السياسية، ولم تتسبب في انتقال حاسم في مراكز القوى الاجتماعية. وقد كان العامل الحاسم في النتائج التي انتهت إليها الثورة هي انحياز مؤسستي الجيش للحركات الاحتجاجية.
ذلك لم يحدث في بقية البلدان التي تفاعلت مع موسم الربيع العربي. فقد تأكد عجز المعارضات السياسية والحركات الاحتجاجية عن حسم الموقف لصالحها. ورغم مبادرات الإصلاح المتتالية التي قدمتها الأنظمة في هذه البلدان، بغية الحفاظ على مراكزها، مع تحقيق بعض التنازلات بقيت حركات الاحتجاج متمسكة بمطلبها المتمثل في إسقاط النظام، وبرفضها فكرة الحوار مع حكوماتها. وقد غيبت بمواقفها هذه الفرصة في تحقيق بعض من أهدافها، باتجاه الإصلاح السياسي بمختلف تجلياته.
لماذا عجزت الحركات الاحتجاجية عن تحقيق هدفها المركزي في إسقاط النظام؟ ولماذا تراجعت قوة دفعها؟ وأين نضع هذه الأسئلة في سياق العلوم السياسية والاجتماعية؟ وهل من مخرج للأزمة الراهنة التي تمر بها البلدان العربية؟ أسئلة ستكون محور حديثنا القادم بإذن الله تعالى.