في ذكرى سقوط بغداد
أحد عشر عاما عجاف، مرت على العراق، منذ سقطت عاصمة العباسيين، في التاسع من أبريل عام 2003، إثر حرب شنتها إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش الابن، وشاركت فيها دول أخرى، أدت إلى احتلال أرض السواد. وكانت تلك الحرب، فاتحة المشروع الأمريكي الكوني، لإعادة صياغة الخارطة الجيوسياسية لما هو معروف بالشرق الأوسط.
كان مشروع التفتيت، الذي وصف بالفوضى الخلاقة، واعتبرت الحرب على العراق، محطته الأولى، قد تلفع بذرائع ثلاث لتبرير عدوانه. لكن تلك الذرائع تهاوت جميعا، بعد أن عجز المحتل الأمريكي، عن إثبات أي منها. فقد فشل قوة الاحتلال في إثبات وجود أسلحة دمار شامل، في الترسانة العراقية، ولم يتمكن الأمريكيون من تقديم الدليل على امتلاك العرق، لأي أسلحة كيماوية، محرم استخدامها دوليا. كما فشلت إدارة الرئيس بوش، من إثبات وجود أي علاقة للنظام العراقي، الذي جرى إسقاطه، بتنظيم القاعدة، بما يعني بطلان الإدعاء بأن احتلال العراق، قد تم في سياق الحرب المعلنة على الإرهاب، والتي أعلنت عنها الإدارة الأميركية بعد حوادث 11 سبتمبر عام 2001.
وكان فشل إدارة الرئيس بوش، على تقديم أي دليل يدعم الذرائع التي ساقتها لتبرير احتلال العراق، قد قادها، للحديث عن سبب آخر للحرب، هو القضاء على نظام ديكتاتوري ومستبد، يمثل بيئة مناسبة لانتشار الإرهاب. وأن احتلال العرق، سيؤدي لإشاعة الديمقراطية، ونشوء عراق جديد، منسجم مع تطلعات شعبه، ومتماه مع عصره.
أكدت الأيام اللاحقة للاحتلال، أن لحطة الحقيقة، التي تحدث عنها جورج بوش، وهو يعلن قرار الحرب، لم تكن سوى وهما. فالعراقيون بمختلف شرائحهم، لم يصدقوا فرية الديمقراطية الجديدة، التي وعد المحتل بتحقيقها، في بلادهم. وبدءوا قبل انبلاج صباح اليوم التالي للاحتلال مقاومة باسلة، كانت هي الأسرع في انطلاقتها، بين حركات التحرر الوطنية في العالم. وكان من نتائجها إجبار المحتل على الرحيل من أرض السواد، مكللا بالخيبة والخذلان.
لم يتحقق بعد أحد عشر عاما، على سقوط بغداد أي من الأهداف المعلنة للحرب. فالعالم لم يعد الآن أكثر أمنا، مما كان عليه قبل احتلال العراق، والديمقراطية والعراق الجديد اللذان وعد العراقيون بهما، تحولا إلى محاصصات طائفية، وقسمة في السياسة والاقتصاد، ونهب لثروات العراقيين، وهدر لكرامتهم.
نما الإرهاب القاعدي، بكل تشعباته في بلاد النهرين، حيث لم يكن له موضع من قبل. أصبح العراق، من أكثر المناطق حضورا وكثافة للإرهاب، ولم يعد وجود تنظيمات القاعدة يمثل خطرا على الأمن في العراق وحده، بل أصبح تهديدا ماثلا ومحققا للأمن الإقليمي والقومي، وخطرا على السلم العالمي بأسره.
ولا يكاد يمر يوم واحد على العراق، دون حصد خسائر بالأرواح والممتلكات، نتيجة للهجمات الانتحارية وتفجير السيارات المفخخة، بالأسواق والأماكن العامة، وقد غدت هذه الظاهرة، مألوفة وجزءا من الحياة العامة للعراقيين، منذ أسقطت الدولة الوطنية، التي استمد منها العراق، حضوره في التاريخ المعاصر.
لقد توسعت دائرة الإرهاب بالمنطقة، وامتدت نيرانها للبلدان المجاورة، حيث شملت حتى هذه اللحظة، اليمن وليبيا وسورية ومصر ولبنان. وقد أسهمت العملية السياسية التي هندس لها الاحتلال على أساس القسمة بين الطوائف والأقليات، بشكل رئيسي في التسعير الطائفي، الذي انتشر عم العراق والبلدان العربية المجاورة، حين دشن عملية سياسية.
الإرهاب الذي أعلنت إدارة الرئيس جورج بوش، أنه هو المستهدف في احتلال العراق، تفرخ بأرض السواد، ولم يعد مقتصرا على منطقة أو طائفة دون أخرى. والميليشيا الإرهابية التابعة للنظام، ممثلة في ميليشيات حزب الدعوة والمجلس الأعلى، والتيار الصدري تمارس سطوتها، بمسميات مختلفة، وتشاطر نظيرتها في تنظيم القاعدة، ممثلا في تنظيم داعش، في القتل على الهوية، وتهجير المواطنين من مواطنهم، ومواضع أقدامهم، حيث كل التنظيمات الإرهابية دون تفريق، تمارس القتل وتسهم بتدمير تاريخ ومورث العراق.
العراق الجديد، والنموذج المرتقب للديمقراطية بمنطقة الشرق الأوسط، الذي وعدت ببزوغه إدارة الرئيس بوش، تحول إلى مقبرة وليل كالح، وساحة للاحتراب، والانتقام والكيد من التاريخ. وغدا مرتعا للنهب والفساد وسرقة الثروة. والسؤال الطبيعي والمنطقي، هو كيف تستقيم فكرة الدولة المدنية، التي بشر بها المحتل مع بعث الهويات الجزئية السحيقة. وكيف تكون القسمة بين الطوائف مشروعا لدولة مدينة، يتم فيها الفصل بين السلطات والتداول السلمي للحكم، في حين أنها، بالشكل الذي تأسست بموجبه، وضعت المقدمات لحروب أهلية طاحنة، لن يكون بالإمكان وضع حد لها، إلا بتجاوز مشاريع التفتيت، وتغليب الهوية الجامعة.
لن يخرج العراق من تركة الاحتلال، إلا بإلغاء عملية المحاصصات السياسية، فهي في نتائجها أشد تركته فتكا وإيذاء، وعودة العراق، بهويته العربية، وطنا موحدا لكل العراقيين. مطلوب عملية سياسية، تكون مقدماتها تحقيق المصالحة الوطنية، وإعادة الاعتبار للهوية التي صنعت تاريخ العراق المجيد، وصياغة برنامج وطني يخرج العراق من النفق، وقيام حكومة انتقالية تشارك فيها مختلف القوى الوطنية، وتشمل مكونات النسيج العراقي كافة. ويكون من مهامها الانتقال بأرض السواد من الحالة السياسية القائمة، إلى الدولة المدنية، حيث الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وتمكين مؤسسات المجتمع المدني ومختلف التيارات الفكرية من المساهمة في بناء العراق، والإعلان عن دستور جديد، يعيد الاعتبار للهوية الوطنية، وينأى عن مشاريع القسمة والتفتيت، ويرفض الهيكلية الطائفية.
وسيكون من المهم تشكيل لجنة مستقلة لصياغة دستور جديد، يجري اختيارها من فقهاء ضليعين بكتابة هذا النوع من المواثيق، ركنه الأساس التسليم بالندية والتكافؤ والمساواة في الحقوق بين مختلف الطوائف والأقليات القومية، اعتماداً على سيادة وتغليب مفهوم المواطنة. وتحقيق انتخابات نيابية، برقابة دولية لضمان نزاهتها، وأن تكون الخطوات السياسية اللاحقة منسجمة مع روح الدستور ونصوصه، بعيداً عن اعتماد الهويات الجزئية، في تحديد الدوائر والمنافع. وليعود للعراق دوره التاريخي المعهود منذ آلاف السنين، في صناعة تاريخ الأمة المجيد.