في ذكرى الوعد المشؤوم تراجع التأييد للمشروع الصهيوني

0 437

 

تؤكد القراءة الدقيقة، لمجريات الصراع مع الصهاينة، أن العرب لم يمتلكوا، منذ البداية مشروعا استراتيجيا عمليا وواضحا، يلحق الهزيمة بالمشروع الصهيوني، وأن جل ما قاموا به كانت استجابات انفعالية، وأسيرة للحظة، لمواجهة تحديات متحققة على أرض الواقع.

 

ولذلك غابت في تلك المواجهات التخطيط والإرادة والقدرة على الفعل. فكانت النتيجة هزائم متلاحقة للجيوش العربية، وتقدماً مطردا للمشروع الصهيوني على طريق تحقيق شعاره “أرضكم يا بني صهيون من النيل إلى الفرات”.

وعلى الرغم من أن القضية الفلسطينية ما زالت حية وراسخة في الضمير العربي، ورغم البذل السخي والمتواصل للشعب الفلسطيني، فإن العرب اليوم هم أبعد ما يكونون عن الاقتراب من هدف التحرير، خاصة بعد أن أعلن المعنيون بشكل مباشر بإدارة الصراع، أن خيارهم الإستراتيجي هو السلام وليس الأمن، وبعد أن فتحت الأبواب مشرعة للكيان الصهيوني، للتسلل إلى العمق العربي وأطرافه، وتسجيل إصابات قوية، نتج عنها الاعتراف من قبل حكومات عربية بمشروعية اغتصابه لأرض فلسطين، وحيث يتوسع الكيان الغاصب في فتح كثير من النوافذ والأبواب، في عدد لا يستهان به من العواصم العربية.

التطورات على الساحة الدولية، تشي بتناقض كبير، بين غياب التوازن، لصالح الصهاينة، في هذا الصراع، وبين تغير المزاج السياسي، لشعوب العالم تجاه غطرسة الاحتلال الصهيوني، لأراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. فهناك تحول ملحوظ في القارة الأوروبية، والقارتين الأمريكيتين، يطالب بوضع حد لصلب “إسرائيل”، والضغط باتجاه تطبيق حق تقرير المصير، للفلسطينيين في الأراضي التي تم احتلالها من قبل الصهاينة في حرب يونيو عام 1967.

إن هذه التطور الإيجابي، يفرض علينا إعادة تشخيص طبيعة الصراع مع هذا الكيان، والارتقاء بهذا التشخيص إلى مستوى أكثر حضارية وعلمية ووعيا، مستثمرا الوعي الجديد لشعوب العالم، لطبيعة المشروع الصهيوني. ولا بد أن يهدف هذا التشخيص إلى تحجيم وإضعاف القوى التي يتكئ عليها هذا المشروع. و تحديد الأهداف وصياغة الاستراتيجيات على ضوء هذا التشخيص.

لا بد من إن يرتقي مشروع المواجهة، مع الصهاينة، ليتحول إلى مشروع حضاري، يضع في سلم أولوياته التمييز بين اليهودية والصهيونية، وهذا التمييز يشكل خطوة عملية ورئيسية في إعادة النظر إلى طبيعة الصراع، وتحديد الممكنات. وفي هذا السياق، يجدر التنويه إلى الجهة التي أصدرت وعد بلفور، والقوى التي اضطلعت وشاركت في تنفيذه، هي قوى أوروبية. وأن يوضع الصراع العربي- الصهيوني، في سياق الصراع من أجل اكتساب الجغرافيا.

لقد كان أول من تنبه إلى أهمية موقع فلسطين، هو القائد الفرنسي ابليو،ن حين زحفت جيوشه على مصر، وعند وصوله إلى حدود فلسطين قادما من شبه جزيرة سيناء. ولا شك أن قيام محمد علي باشا باحتلال بلاد الشام وتحقيق انفصال مصر عن السلطنة العثمانية قد نبه الأوربيين من جديد إلى أهمية الاستيلاء على المنطقة التي تشكل نقطة الوصل بين المشرق العربي ومغربه، وتربط القارة الإفريقية بالقارة الآسيوية، وكان ذلك هو أحد الوسائل المانعة لالتقاء المشرق العربي ومغربه، بما يشكل مدخلا لازما لقيام إمبراطورية عربية قوية ومتينة، وذلك ما لا يمكن للغرب التغاضي عنه.

ومن هنا كان المشروع الصهيوني في جوهره مشروعا استيطانيا أوروبيا، مماثلا للمشروع الذي نفذه الأوروبيون في جنوب إفريقيا، وتماما كمحاولات الاستعمار الفرنسي فرنسة الجزائر عن طريق تشجيع المواطنين الفرنسيين على الهجرة وبناء المستوطنات فيها، والعبث بهويتها وتاريخها ومنظومة دفاعاتها الثقافية..

وعلى الرغم مما يبدو في هذا الطرح من غرابة، فإن واقع الصراعات الإثنية والاجتماعية اخل المجتمع اليهودي “الإسرائيلي” تؤكد على إمكانية الأخذ بهذا التشخيص. فلم يعد سراً الصراعات بين الإشكنازيين والسفارديين، وهي صراعات تجسد حقيقة النظرة العنصرية والفوقية للمستوطنين الأوروبيين تجاه اليهود من الأجناس والقوميات الأخرى. ولذلك يصبح مهما التمييز بين اليهود الذين غرر بهم ودفعوا دفعا إلى الهجرة لأرض فلسطين، على حساب سكانها الأصليين، وبين رواد الحركة الصهيونية الذين اجتمعوا في بازل ورسموا الخطط والإستراتيجيات، ووضعوا رؤوس الأموال وأقاموا التحالفات الدولية، وشجعوا اليهود للهجرة لأرض فلسطين على طريق الإعداد لاغتصابها في خطوات لاحقة.

ولعل من الأهمية في هذا التمييز أن يعاد الاعتبار لمفهوم المواطنة لليهود العرب، وأن يجري العمل على إلحاقهم بالقافلة العربية، فقد ولدوا على هذه الأرض، وعاشوا فيها مئات السنين، وتشبعوا بعاداتها وثقافاتها، ولذلك فليس هناك من الأسباب ما يجعل من المنطقي نفيهم واستبعادهم. بل على النقيض من ذلك تماما، فمثل هذا النفي هو الذي ساهم في ترسيخ انتمائهم للهوية الصهيونية، ووضعهم في الخندق المضاد للتطلعات والأماني القومية للعرب جميعا.

لقد رفض كثير من اليهود المصريين الهجرة إلى فلسطين، ورحل كثير منهم عن مصر، إلى الأرجنتين، عند اقتراب القوات النازية من العملين. ولا يزال أبناؤهم يتعلمون العربية ويتكلمون بها حتى يومنا هذا. وأثناء حرب لبنان عام 1982، رفض كثير من الجنود من أصول مغربية المشاركة في الحرب على الفلسطينيين مما عرَّض بعضهم إلى الاعتقال والملاحقة. وكان لليهود العراقيين المقيمين في الكيان العبري موقف واضح رافض للحصار الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1990 عليه.

في ذكرى وعد بلفور المشؤوم تتغير صورة مشهد الكيان الصهيوني في المجتمع الدولي، ويبرز على حقيقته، كمشروع احتلالي عنصري، وينبغي أن يصاحب ذلك وعي عربي، باقتناص لحظة التغير هذه، بما يخدم التطلعات الوطنية للشعب الفلسطيني المظلوم.

makki@alwatan.com.sa

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

أربعة عشر − 14 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي