في ذكرى التقسيم: نحو صياغة جديدة للعلاقات الفلسطينية- الفلسطينية
كانت مقدمة الصراع العربي- الصهيوني قد بدأت مع وعد بلفور في 3 نوفمبر عام 1917، حين منحت الحكومة البريطانية، على لسان وزير خارجيتها، أرثور بلفور وعدا أشارت فيه إلى أنها تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد بدأ التنفيذ الفعلي للوعد المذكور فور الإعلان عنه باستصدار قوانين تسهل هجرة اليهود من جميع أنحاء العالم إلى فلسطين. وكلما ازدادت أعداد المهاجرين، كلما تفاقمت الأزمة بين السكان الأصليين والمهاجرين الجدد. وبنهاية الثلاثينات من القرن المنصرم تصاعد التوتر بين السكان والمهاجرين إلى عنف وانفجارات.
ومع مضي الوقت، تمكن المهاجرون الصهاينة من تثبيت أقدامهم بحيازة مواقع اقتصادية هامة، بدعم من الصندوق القومي اليهودي وبعض المؤسسات اليهودية الأخرى. ومع ذلك فإن الأراضي الفلسطينية التي أصبحت تحت السيطرة اليهودية لم تتجاوز الـ 5% حتى نهاية عام 1939 من الأراضي الكلية، و12% من الأراضي الصالحة للزراعة.
كان انطلاق الحرب العالمية الثانية، والنزعات النازية المعادية للسامية، قد أسهما في مضاعفة الهجرة إلى فلسطين. وقد استثمر الصهاينة مناخ التعاطف الدولي مع مأساتهم، وانخراطهم في جيوش الحلفاء لتعضيد برنامجهم الاستيطاني في فلسطين. وكانت تلك الحقبة قد شهدت تصاعد الصراع بشكل حاد بين الفلسطينيين والمستوطنين.
لم يكن التوازن في الصراع لصالح الفلسطينيين، حيث لم يفتقروا، في صراعهم مع الصهاينة، إلى التنظيم والقيادة المقتدرة فحسب، ولكنهم كانوا ممزقين إلى عشائر ومجاميع صغيرة، وبالتالي إلى وحدة العمل مما غيب إمكانية تحقيق الهدف الفلسطيني في الاستقلال ومنع الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وكانت نتيجة ذلك أن كثيرا من الاحتجاجات والانتفاضات الفلسطينية ضد البريطانيين وحركة الهجرة اليهودية في نهاية الثلاثينات قد انتهت بأشكال مأساوية.
وكانت الخطوة الرئيسية لحسم الصراع لصالح الصهاينة قد تحققت في نهاية الحرب العالمية الثانية، حين قاد الإرهاق الذي عانت منه الحكومة البريطانية خلال فترة الحرب، والأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها بعد الحرب مباشرة، إلى قبولها بفكرة الرحيل عن فلسطين. وكان العالم آنئذ، قد بدأت تتنامى إليه أخبار الإبادة التي تعرض لها اليهود الأوروبيون في معسكرات الاعتقال على يد النازيين. أدت هذه العوامل مجتمعة، دون شك، إلى خلق مناح متعاطف مع قيام دولة يهودية بدلا عن وطن قومي يدار من قبل البريطانيين، كما اقترح وعد بلفور من قبل.
في عام 1947، أبدت بريطانيا رغبتها في التخلي عن انتدابها لفلسطين، وطلبت من الأمم المتحدة معالجة الصراع الصهيوني- العربي في فلسطين. وفي 29 نوفمبر عام 1949، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 181 المتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية. وتبنى القرار تقسيم فلسطين إلى ثلاثة أقسام: شطران يقسمان بالتساوي بين الفلسطينيين الذين شكلوا آنذاك 70% من التعداد الكلي للسكان، واليهود الذين لم يشكلوا آنئذ أكثر من 30% من سكان فلسطين، غالبيتهم لا يحملون جنسيات أو جوازات سفر فلسطينية. أما الشطر الأخير، فيضم مدينة القدس وستجري إدارته بنظام دولي. وقد جاء نص القرار واضحا: “دولتان مستقلتان عربية ويهودية ونظام دولي خاص بمدينة القدس سيبرز إلى الوجود في فلسطين بعد شهرين من إتمام مغادرة القوات المسلحة لسلطة الانتداب”.
لكن اليهود أعلنوا من جانب واحد في 14 مايو عام 1948، قيام دولة إسرائيل، ورفضت الحكومات العربية الاعتراف بهذه الدولة. واندلعت الحرب بين العرب والدولة الصهيونية وانتهت بهزيمة الجيوش العربية. وكانت نكبة واجهها الفلسطينيون والعرب جميعا. وكان الأسوأ في تلك الحرب تشرد ما يقارب من 775000 من الشعب الفلسطيني إلى الأقطار العربية المجاورة في الأردن وسوريا ولبنان ومصر. وبقيت أقلية من الفلسطينيين تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي المباشر.
وكانت النتيجة الطبيعية أن الحلم الصهيوني في اغتصاب فلسطين وإقامة وطن قومي لليهود على أرضها قد تحقق بقيام دولة خاصة بهم، بينما لم يتمكن الفلسطينيون من تحقيق حلمهم في تحرير فلسطين وإقامة دولتهم المستقلة فوق ترابها. وانتهى مع هذه النكبة الفصل الأول في مأساة الشعب العربي الفلسطيني، لتتبعه فصول أخرى أكثر قسوة ومعاناة، أشد مرارة.
ومنذ النكبة أصبح الفلسطينيون موزعين بالوطن العربي، يملؤهم إحساس بغياب الاستراتيجية العربية العملية لتحرير فلسطين. وقد تعقد الموقف بسبب التركيبة السياسية السائدة في الوطن العربي في حقبة الستينيات، حيث كان الشارع العربي في المناطق التي يتواجد فيها الفلسطينيون بكثافة يتوزع في انتماءاته السياسية إلى مجموعة من الاتجاهات المختلفة، دينية ومحافظة وقومية ويسارية وليبرالية… وكانت امتدادات هذه الاتجاهات تخترق بعمق الحركة الوطنية الفلسطينية وتعت من سيرها اللاهث نحو هدف التحرير.
وعندما تأسست منظمة التحرير الفلسطينية، عام 1964، ورغم الإشارة إلى أن أعضاء المؤتمر التأسيسي الفلسطيني “المجلس الوطني” لم يمثلوا أحزابا سياسية وإنما مثلوا أنفسهم، فإن حضور التيارات السياسية السائدة في قلب المؤتمر كان قويا. وبالمثل، كان حضور النظام العربي الرسمي قويا هو الآخر في المؤسسات الفلسطينية المختلفة. بل إن منظمة التحرير نفسها هي نتاج قرار لقمة عربية عقدت بالقاهرة لمناقشة المشروع الإسرائيلي لتحويل مياه نهر الأردن للأراضي المحتلة، ولاتخاذ الخطوات الضرورية للحيلولة دون تنفيذ هذا المشروع.
ففي ذلك المؤتمر توصل الزعماء العرب: إلى ضرورة تشكيل كيان سياسي يمثل الفلسطينيين حيثما وجدوا. إن ذلك يوضح بشكل لا لبس فيه أن تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، لم يكن قرار فلسطينيا مستقلا، بل تنفيذا لقرار عربي، دون أن ينفي ذلك أن القرار لقي ترحيبا واسعا بين الأوساط الفلسطينية. والحقيقة أن مؤتمر القمة العربي لم يكتف بتأسيس هذا الكيان الفلسطيني، بل حدد له رئيسه، حين أصدر قرارا بتعيين المرحوم أحمد الشقيري رئيسا للكيان الوليد. وقام الشقيري باختيار العناصر التي شكلت أول مجلس وطني فلسطيني في تاريخ المنظمة، وأعلن رسميا قيام منظمة التحرير الفلسطينية بهدف “تحرير كامل التراب الفلسطيني” عن طريق “تبني استراتيجية الكفاح المسلح”. وعرف المجلس الفلسطيني التأسيسي، الفلسطيني بأنه “العربي الفلسطيني المقيم في فلسطين قبل عام 1947، أو اللاجئ الفلسطيني المقيم في فلسطين قبل عام 1947”. أما اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين بعد ذلك التاريخ فقد اعتبروا مهاجرين أجانب، ينتمون إلى دين لا إلى قومية.
شكلت نكسة حزيران عام 1967، نقلة رئيسية في الكفاح الفلسطيني. فقد أسهمت حركة فتح في إبقاء جذوة الأمل بالتحرير حية ومشتعلة. وكانت نتائج معركة الكرامة عام 1968، بالأردن قد أسهمت في خلق التفاف عربي وفلسطيني واسع حول مشروع المقاومة، وكانت تلك أول معركة حقيقية، منذ النكبة بين الفلسطينيين والصهاينة، أرغمت فيها القوات الإسرائيلية على التراجع مخلفة وراءها جثث قتلاها ومعداتها المدمرة. ومهيأة الطريق لاستيلاء حركة المقاومة الفلسطينية على منظمة التحرير الفلسطينية.
وبعد سيطرة المقاومة الفلسطينية على منظمة التحرير، حدث تغيير جذري في بنيتها، وانتقلت العضوية في مجلسها الوطني، الذي كان بمثابة البرلمان الفلسطيني بالمنفى، من تفويض بالتعيين يمارسه رئيس المنظمة شخصيا، لأفراد يختارهم حسب قناعته من الجاليات الفلسطينية المتناثرة، إلى حصص لمنظمات المقاومة يعكسها الثقل السياسي والعسكري لهذه المنظمات في مسرح المقاومة، كما يعكسها علاقة هذه الفصائل بالأنظمة العربية المعنية مباشرة بالصراع مع الكيان الصهيوني. وفي هذه الحقبة شاركت في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية 8 فصائل مسلحة، هي في غالبيتها امتداد للحركات السياسية العربية، وتحمل في تكويناتها ورؤاها عقائد وبرامج تصل حد التناقض والتنافر. وبانتقالها إلى صفوف منظمة التحرير، انتقلت معها أهدافها وتوجهاتها الأيديولوجية والسياسية المختلفة والمتباعدة. وانعكس ذلك بالتالي على البرامج التي تبنتها منظمة التحرير منذ تلك اللحظة.
وكما أسهمت نتائج نكسة يونيو عام 1967، في صياغة استراتيجيات العرب والفلسطينيين تجاه صراعهم مع الصهاينة، أسهمت نتائج حرب أكتوبر عام 1973، هي الأخرى في صياغة استراتيجيات جديدة تجاه الصراع العربي- الصهيوني. لقد شكلت تلك الحرب انتقالا رئيسيا في السياسة العربية، باعتماد الحلول “السلمية” بدلا عن المواجهة المسلحة. وبالتزامن مع هذا الانتقال قرر مؤتمر القمة العربي الذي عقد بالرباط عام 1974، أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وكان ذلك القرار بمثابة تفويض لقيادة المنظمة للتفاوض سياسيا من أجل تنفيذ استراتيجية لا تعتمد على التحرير الكامل لفلسطين، بل لقيام دولة مستقلة على الأراضي التي احتلها الصهاينة في حرب يونيو عام 1967، وتحديدا بالضفة الغربية وقطاع غزة، واعتبار القدس عاصمة هذه الدولة. وكان هذا الاعتراف هو الذي مهد الطريق للتطورات اللاحقة، وللسياسات التي اعتمدها الرئيس ياسر عرفات، والتي أدت إلى توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993. وأيضا لبروز تيارات جهادية جديدة في مقدمتها حركة حماس ومنظمة الجهاد الإسلامي. وتغيير خارطة الصراع بشكل كبير.
تلك مقدمة ضرورية لوعي طبيعة المرحلة الحالية، ومفردات الصراع الدامي بين حركتي فتح وحماس، وأيضا لوعي الأسباب التي عطلت من نجاح المفاوضات الماراثونية التي تجري بينهما برعاية مصرية. ما الأسباب التي أدت إلى اندلاع المواجهة بين فتح وحماس وتعطيل المشروع الكفاحي الفلسطيني؟ ولماذا تعثرت المباحثات الماراثونية بين الأطراف الفلسطينية؟ وما الصياغات المقترحة للعلاقات الفلسطينية- الفلسطينية؟ هذه الأسئلة ستكون موضوع مناقشتنا في الحديث القادم بإذن الله.
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة كريم ياسين)
الاخ المحترم
تناولك للاحداث في عجالة كانني امام كتاب رسمي عربي يؤرخ للقضية.
لو كان به اشارات تدعيمية من الاحداث وملابساتها،لم تشر مثلا الى دور الجيوش العربية التي دخلت فلسطين للتحرير،ولم تتطرق الى ما كتب من شهادات وتحليلات عن المراحل التي اوصلتنا الى ما نحن فيه.
احب القراءة لك
وكل عام وانت والطيببن في نجد والحجاز بخير