في تداعيات كارثة القرن
د. يوسف مكي
فجر الاثنين الماضي، وحوالي الساعة الرابعة من الصباح، حدث أعنف زلزال واجهته تركيا في عصرها الحديث، اقتربت قوته من ثمانية درجات على مقياس رختر، مؤديا إلى تضرر مناطق واسعة في الجنوب التركي، قدر عدد سكانها بثلاثة عشر مليون شخص، وكانت حصة الأسد فيها من نصيب أنطاكيا، في هطاي وكهرمان مرعش. وكانت سوريا، هي المتضرر الآخر، من هذا الزلزال، حيث شملت تأثيراته الشمال السوري بأكمله، ومدنا كبرى مثل حلب وحماه واللاذيقية. وقد وصف الرئيس التركي، رجب الطيب أردوغان هذا الزلزال، بكارثة القرن.
وقد توقعت منظمة الصحة العالمية أن تفوق الخسائر البشرية، بناء على مشاهدة ما جرى بمئة ألف قتيل، وأضعاف ذلك بكثير من الجرحى، إضافة إلى تهدم مدن واقتلاعها بالجملة. كما نتج عنها تشرد قرابة خمسة مليون شخص، ممن باتوا من غير مأوى أو ملجأ. قدرت السلطات التركية قوة الزلزال، بقوة خمسمائة قنبلة ذرية.
الوضع على الجانب السوري، يبدو أسوأ بكثير منه في تركيا، رغم فداحة الخسائر التي عانى منها الجنوب التركي. فالزلزال الذي حدث في سوريا، أخذ مكانه في أماكن منكوبة سلف، أنهكتها الحرب الدامية التي مضى عليها قرابة ثلاثة عشر عاما. وحدثت أيضا وسط انقسام حاد، حيث السلطة موزعة بين الدولة السورية في المناطق التي تمكنت من استعادتها، وهي الجزء الأكبر من الأراضي السورية، وقد تضررت مناطقها من هذا الزلزال، ولكن بنسب أقل بكثير من المناطق السورية الأخرى. إلى جانب سلطة خارجة عن سيطرة الدولة، مدعومة من تركيا. وسلطة قصد المدعومة من أمريكا.
هذا الواقع أضاف تعقيدات شديدة لعملية مساعدة المنكوبين، وإنقاذ الذين دفنوا تحت ركام المباني المنهارة، وتقديم العون للذين باتوا من غير مأوى وملبس ومأكل. فالتنسيق بين هذه الجهات لإيصال المساعدات أقتضى وقتى طويلا، في وقت كان مضي أي ساعة تأخير على عملية الإنقاد، يعني الكثير من الخسائر. يضاف إلى ذلك، أن أمريكا وأوروبا ترددا كثيرا، حتى الآن في تقديم مساعدة عملية لدعم المنكوبين، تحت ذريعة خضوع البلاد لقانون قيصر، الذي فرضته الإدارة الأمريكية، وتبارى الأوروبيون بالالتزام به، والذي شدد الحصار الإقتصادي على سورية. والنتيجة أن مواجهة تداعيات الزلزال في أيامه الأولى وقعت على عبء السوريين وحدهم، وبمساعدة محدودة من حلفائهم. وحين بدأت المساعدات في التدفق، كانت الخسائر في الأرواح وأعداد الجرحى باهظة جدا, وفي الأغلب كانت النتائج ستكون مختلفة، لو أن سوريا كانت موحدة، ومحررة من قانون قيصر، الذي وضع الشعب السوري بأكمله في الأسر.
وفي كل الأحوال، ينبغي توجيه التحية والإعجاب للرجال البواسل، في تركيا وسوريا، الذين عملوا ليل نهار وبدون كلل، أو توقف لمساعدة المنكوبين، بالبلدين. فقد ضرب هؤلاء أعلى مثل في التضحية والفداء، وقدم كثير منهم أرواحهم، وهم يقتحمون المباني المنهارة في محاولة لإنقاء الضحايا، وباتوا في عداد الشهداء الأبرار. كما ينبغي تسجيل الثناء على الدول العربية التي بادرت، من غير منة، إلى مساعدة الإخوة المنكوبين في سوريا وتركيا، وتضميد جراحات المصابين والمنكوبين.
لقد كشف الزلزال الأخير، عن حقائق هامة، اعترفت بها الجهات المسؤولة في البلدين. فهذا الزلزال، رغم قوته، ما كان له أن يؤدى إلى هذا الحجم من الخسائر لولا استهتار مقاولي البناء بأرواح الناس، وعدم الإيفاء بالشروط اللازمة لسلامة المباني. في هذا السياق، كشفت الإدارة التركية، عن إيقاف ثمانية وأربعين، شخصا ممن اتهموا في التسبب بالإنهيار السريع للمباني، إثر وقوع الزلزال. وينتظر المصابون وعوائلهم، خضوع المقصرين والمتسبيين في هذه النتائج الكارثية والمروعة، للمسائلة والعقاب، في عضون الأيام القادمة.
كما كشف الزلزال، حسب توصيف الكاتب البريطاني، ديفيد هيرست عن وجه الحقيقي للغرب، حيث يتم تقديم الكثير من الدعم في مشاريع التدمير والحروب، بما لا يكافيء بأي شكل من الأشكال، الاهتمام بالتعمير. لقد وفر الزلزال، لأدعياء الديمقراطية وحقوق الإنسان، فرصة ليظهروا للعالم أنهم قادرين على إعادة البناء مثل قدرتهم على التدمير. وللأسف فقد بدأت أخبار المسآة تختفي، بعد ثلاثة أيام من وقوعها، ولا تزال عمليات الانقاذ وانتشال جثث الموتى من العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام الغربي. لقد بلغ الاستهتار مداه، لدى بعض العنصريين، بنشر مجلة شارلي إيبدو الفرنسية بعد يوم واحد من وقوع الكارثة رسما كاريكاتيريا يظهر مبنى مدمرا وسيارة مدمرة وكومة من الأنقاض مع التعليق: “لا داعي لإرسال دبابات”، وذلك بكل تأكيد، هو أبعد من مجرد رسم كاريكاتيري؛ إنه “سوء ذوق”، مغرق في كراهيته وعنصريته.
التعليقات مغلقة.