في تأثيرات الحرب الباردة على نشأة العلوم السياسية
انتهت الحرب العالمية الثانية، ببروز قطبين رئيسيين، يتحكمان في مجرى السياسة الدولية، هما الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي. وكانت مؤشرات الصراع بينهما قد بدأت قبل وقف طلقات البنادق. بل إن هناك من يشير إلى أن الهدف من استخدام السلاح النووي ضد اليابان، في هيروشيما ونجازاكي، كان توجيه رسالة أمريكية إلى الاتحاد السوفييتي، بأن التفوق في أي مواجهة عسكرية مستقبلا بين المعسكرين الشرقي والغربي، بات محسوما لصالح الغرب، بسبب امتلاك أمريكا لسلاح الرعب. وما يؤكد صحة هذه الفرضية، أن ألمانيا وإيطاليا قد تمت هزيمتهما في الحرب، وأن اليابان، أعلنت استعدادها لوقت إطلاق النار، بحيث لم يعد هناك من مبرر عملياتي، لاستخدام القنبلة النووية.
اتسمت الحرب الباردة، بصراع عقائدي شرس بين أمريكا والسوفييت. وبسبب غياب المنهج الأكاديمي السياسي المقارن بالجامعات الأمريكية، كان التفوق في هذا المجال لصالح السوفييت. ولذلك كان على الإدارة الأمريكية التحرك سريعا لملء الفراغ الفكري، لتحقيق قدر من التكافؤ في المجال الفكري مع الغريم السوفييتي.
كان ضمن اللاجئين من مواطني أوروبا الشرقية، الذين وصلوا لأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، والاكتساح الروسي لبلدانهم، عدد من الأكاديميين والمفكرين السياسيين، وتلك فرصة لا تعوض، لاستثمارها من قبل الأمريكيين لملء الفراغ، بالجامعات الأمريكية في مجال الفكر السياسي المقارن. وتعاونت مؤسسات ثلاث في هذا المجال، هي وكالة المخابرات، والبنتاغون ووزارة الخارجية. وفي تلك الحقبة لمع نجم الأخوين، وزير الخارجية الشهير، جون فاستر دالاس، ورئيس وكالة المخابرات الناشئة آنذاك آلان دلاس. اضطلع الأخوان بدور بارزر، في المؤتمر الذي عقد في واشنطن بالخمسينيات من القرن الماضي، لمناقشة تأسيس علم السياسية المقارنة. ودعي لذلك المؤتمر، والت روستو، الذي تسلم منصب مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، في عهدي كنيدي وجونسون، وأسسس نظرية المراحل stage theory، وصامويل هانتجون، مؤسس نظرية التنمية من الأعلى development from above، وسدني فيربا التي أسست نظرية الثقافة culture theory ، وألموند باول، موسس نظرية النظام system theory وقد تبنى المؤتمر هذه النظريات، وأضيف لها نطرية النخبة، لموسكا elite theory. , كما شارك في ذلك المؤتمر نخب فكرية أخرى.
إن قراءة تلك النظريات لا يمكن عزلها عن الظرف السياسي الذي مر به العالم، والناتج عن انشطاره إلى معسكرين ونظامين اقتصاديين: رأسمالي وتقوده أمريكا، واشتراكي ويقوده السوفييت. فنظرية المراحل التي أسسها والت روستو، على سبيل المثال، جاءت لتبشر بالفكرة الرأسمالية، وعمادها أن جميع الشعوب، ستقبل في نهاية المطاف بالديمقراطية، بالطريقة التي تمارس بالغرب. وأن المستوى الاقتصادي لن يكون عائقا للمجتمعات، بما فيها مجتمعات الدول النامية، من اللحاق بالأنظمة الديمقراطية. سيكون دور الدول الصناعية تقديم المنتجات المختلفة، وسيتقصر دور الدول النامية على تقديم المواد الخام، والقوى العاملة.
إما نظرية سدني فيربا، فهي أقرب إلى فكر العالم السوسيولوجي إميل دورخايم، من حيث تقسيم المجتمعات الإنسانية، بشكل حاد إلى صناعي وزراعي، وعلماني وغيبي، ودينامكي وساكن، ومتقدم ومتخلف. ورغم ما تدعيه نظرية الثقافة من اعتمادها على الفرضيات العلمية، لكنها عنصرية في جوهرها، كونها تصل في نهاية المطاف، إلى دعوة شعوب العالم الثالث، إلى التسليم بقدرها، والقبول بواقعها، والالتحاق بالعالم المتقدم، ليس من خلال تغيير واقع الحال، وإنما بالحفاظ على هويتها، بحيث يقتصر دورها في تقديم المواد الخام، والقبول بأن تكون مجرد أسواق، لمنتجات الدول الصناعية المتقدمة.
وبالمثل، بات لنظرية هانتجتون “التمنية من الأعلى، قبولا أكبر، في الحقل السياسي الأمريكي، بعد اندلاع حرب فيتنام، التي بدأت بتأييد الحكومة الأمريكية، في عهد الرئيس جون كندي، لحكومة الدكتاتور فان ديام. في ذلك الوقت، غادرت أمريكا دعوتها التقليدية التي بدأت بها مباشرة، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لاشاعة الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، إلى دعم الأنظمة الديكتاتورية. وكانت نظرية هانتنجتون سلاحا فكريا فعالا في هذا السياق، حيث تقول نظريته بأن الأنظمة الديمقراطية غير قادرة على تحقيق التنمية في دول العالم الثالث. وأن الديكتاتورية هي السبيل الوحيد لتنمية البلدان المتخلفة، حيث تجري في صيغة مراسيم وبأوامر تفرض من الأعلى، ومن دون ذلك يتواصل التخلف. وذلك يعني أن التدخل العسكري الأمريكي، في فيتنام، هو خطوة إيجابية، على طريق نهوض الهند الصينية، والتحاق اقتصاداتها بالعالم المتقدم.
والأمر لا يختلف عن ذلك مع بقية النظريات الأخرى، وهكذا يبدو التلاحم واضح وجلي بين الحرب الباردة ونشأة العلوم السياسية المقارنة.
د. يوسف مكي