في انتظار عالم متعدد الإقطاب

0 252

انتهينا في الحديث السابق إلى طرح عدد من الأسئلة، وعدنا بالإجابة عليها في هذا الحديث. ماذا بعد عودة القيصر السريعة إلى مسرح الصراع الدولي؟ هل سنكون أمام عالم بثنائية قطبية، أم إننا نقترب من عالم متعدد الأقطاب؟ والأهم من ذلك بكثير، ما تأثير ذلك علينا نحن العرب؟ وكيف نتهيأ له؟ وأسئلة أخرى ملحة.

 

وابتداء، يجدر الإنتباه إلى أن قراءة التاريخ تؤكد أن انبثاق أي نظام دولي جديد يرتبط في العادة بحوادث مفصلية، تحمل في رحمها ملامحه، والقوى الصاعدة الفاعلة فيه، وتهيء للإنتقال بشكل حاسم من وضع عالمي إلى آخر. كانت أوضح تعابير الإنتقال من نظام دولي إلى آخر قد تمثلت في سقوط امبراطوريات وصعود أخرى. هكذا كان التاريخ الإنساني دائما وأبدا…

 

كان السقوط المروع للإتحاد السوفييتي، وتربع الإدارة الأمريكية على عرش الهيمنة العالمية اسثثناء في التاريخ.. كان السقوط سلميا ولكنه مدويا بأكثر مما تفعله الحروب. تفككت الدولة السوفييتية بفعل عفن البيروقراطية، والإنهيار الإقتصادي، وعجز مؤسساتها عن معالجة تفاقم أوضاع البلاد المتردية. ولعل وعي الرئيس الأمريكي، جورج بوش الأب بطبيعة هذا الإستثناء، هو ما دفعه إلى جعل الحرب على العراق عام 1990م، نقطة مفصلية، حسم فيها بشكل قاطع انتهاء حقبة الثنائية القطبية، ونصب نفسه قطبا عالميا أوحدا.

 

النقطة الأخرى، التي ينبغي ملاحظتها، ونحن بصدد رسم سيناريو لما بعد انتهاء الأحادية القطبية، هي أن الطابع الآيديولوجي، واختلاف المذاهب الإقتصادية قد حكم الصراع بين العملاقين أثناء الحرب الباردة. هذا الطابع الآيديولوجي لن يكون له مكان في السيناريو الجديد، فكل القوى الصاعدة اقتصاديا، والمهيأة للتنافس مع الأمريكيين في النظام العالمي الجديد، بما في ذلك الصين، تلتزم بشكل أو بآخر باقتصاد السوق المفتوح.

 

وكما كانت الحرب الأمريكية على العراق عام 1990، هي النقطة المفصلية في الإعلان عن الأحادية القطبية، فإن هزيمة المشروع الأمريكي في العراق ستكون هي الأخرى نقطة مفصلية، في الإعلان عن انتهاء التفرد الأمريكي على صناعة القرار الأممي، وقيام عالم متعدد الأقطاب.

 

من هي القوى الدولية المهيأة لمنافسة القطب الأوحد، وخلق عالم متعدد الأقطاب؟

 

أشرنا في الحديث السابق، إلى بروز نزعات استقلالية أوروبية، متمثلة في فرنسا وألمانيا وبلجيكا، وإذا ما وضعنا في الحسبان النفوذ الإقتصادي القوي لليورو، والنمو الإقتصادي المتسارع لفرنسا وألمانيا، فإننا أمام احتمال بروز قطب أوروبي غربي منافس للحلفاء الأمريكيين.

 

في أقصى الشرق، تسجل الصين قفزات نوعية في أدائها الإقتصادي، وتطور من أدائها العسكري، وتنشط بقوة في غزو الفضاء، وتتحدى الإدارة الأمريكية في عدد من المحاور. يتنبأ الإقتصاديون بأن تتكافأ قوتها الإقتصادية بالإقتصاد الأمريكي بنهاية عام 2024م، أو 2025 على أكثر تقدير. ذلك يعني دون شك أن الصين في طريقها لأن تكون قطبا دوليا، منافسا للأمريكيين.

 

ومن جهة أخرى، تندفع الهند بقوة، نحو بناء قوتها الإقتصادية والعسكرية. وإذا كان السلاح النووي في الماضي هو البوصلة التي يحدد من خلالها موقع الدولة في سياق معادلة الصراع الدولي، فإن الهند قد دخلت هذا النادي من أوسع أبوابه. وكانت حوادث سبتمبر عام 2001م بالولايات المتحدة الأمريكية، وانشغال باكستان، غريم الهند، بمستنقع الحرب الأمريكية على طالبان، وبالتالي تفتت جبهتها الداخلية، قد مكن الحكومة الهندية من إعادة ترتيب أوراقها، واستثمار الأحداث التي تجري من حولها بجدارة لدخول المسرح الدولي بقوة.

 

هذا وكنا قد تناولنا بشيء من التفصيل، في حديثنا السابق، الظهور السريع والمفاجيء لروسيا الإتحادية على مسرح الصراع الدولي.

 

وإذا، فإن هناك ثلاث قوى آسيوية: روسيا والصين والهند مرشحة لأن تكون مراكز استقطاب دولية. وتشير بعض التقارير إلى أن هذه الدول تسعى إلى تشكيل تحالف بينها، ينتج عنه بروزها ككتلة دولية واحدة، منافسة للتفرد الأمريكي. وقد أعلنت ماليزيا عن رغبتها في الإنضمام إلى هذه الكتلة في حالة بروزها.

 

لكن هناك جملة من الإعتبارات تجعلنا نضع علامات استفهام كبيرة حول إمكانية نشوء هذه الكتلة الآسيوية. فالصين كانت على خلاف، لفترة طويلة مع الإتحاد السوفييتي. ورغم أن الخلاف بدا عقائديا على السطح، لكنه في حقيقته، كان تنافسا بين عملاقين على قيادة الحركة الشيوعية. وقد تطور لاحقا ليصبح صراعا حدوديا، وتنافسا عسكريا.. وجرى استثماره من قبل الأمريكيين في حربهم الباردة ضد السوفييت. ومن جهة أخرى، تحالف السوفييت مع الهند، وتحالف الصينيون مع باكستان غريمة الهند، ولم تحل علاقات باكستان الإستراتيجية مع الغرب، وتحالفها الطويل مع البريطانيين دون استمرار التحالف الصيني معها. وبعد سقوط الإتحاد السوفييتي، وبشكل خاص، بعد إعلان الإدارة الأمريكية حربها على الإرهاب في العالم، تحسنت بشكل ملحوظ العلاقة بين الهند والولايات المتحدة الأمريكية. وقد استثمرت الهند هذه العلاقة، فأعلنت عن إطلاق تجاربها النووية، وتكللت تلك التجارب بالنجاح. وبعد فترة وجيزة، أعلنت باكستان هي الأخرى، عن قيامها بتجارب نووية، وعن نجاح تلك التجارب. ورغم فرض عقوبات على البلدين، من قبل مجلس الأمن الدولي، بسبب تلك الخطوات، لكن “المجتمع الدولي” سرعان ما غض الطرف عنهما. وكان تعاونهما مع الإدارة الأمريكية في الحرب العالمية على الإرهاب هو الذي سوغ التهاون بحقهما، وأحال القرارات الأممية بفرض العقوبات عليهما إلى حبر على ورق. وأصبح دخولهما النادي النووي أمرا واقعا.

 

كيف سيتجاوز الروس خلافاتهم مع الصين؟، وكيف يمكن عقد تحالف صيني هندي؟ وهل سينفك التحالف الصيني الباكستاني لصالح قيام قطب دولي منافس للقطبين الأمريكي والأوروبي؟ تلك أسئلة تبدو الأجوبة عليها مبكرة جدا، حسبنا أن نستعير كلام رئيس الوزراء البريطاني الراحل، ونستون تشرشل: “في السياسة ليس هناك صداقات دائمة، بل مصالح مشتركة” بمعنى آخر، السياسة ليست ساكنة، بل تتحرك وفقا للمصالح، وربما اقتضت تحول خصوم الأمس إلى حلفاء اليوم، ما دام ذلك هو السبيل لمواجهة التفرد الأمريكي بالهيمنة على صناعة القرار الأممي. وإذا فإننا أمام رمال متحركة، واحتمالات تحولات كبرى في الخارطة السياسية الدولية.

 

والنتيجة أننا أمام احتمال بروز عالم متعدد الأقطاب، يشمل على الأقل ثلاثة محاور، في حالة قيام كتلة آسيوية تضم روسيا والصين والهند وماليزيا. وفي حالة فشل أقطاب آسيا في إشادة حلف يجمعهم فإننا أمام احتمال تحالف هندي روسي، وآخر ماليزي صيني، بما يؤدي إلى وجود نظام عالمي جديد يشمل أربعة أقطاب فاعلة.

 

بالنسبة لليابان، لا يستبعد مع بروز النظام العالمي الجديد أن تبرز النزعة العسكرية، وأن تلتحق اليابان بأحد محاور الصراع، والأقرب أن تكون حليفة للهند وروسيا، وليس مع الصين وماليزيا، وذلك بسبب مورثات عدائية تاريخية ربما تمنع قيام تحالف ياباني- صيني.

 

ستتغير حتما هيكلية منظمة التجارة العالمية، وفقا للمتغيرات الدولية المرتقبة. وينتظر أن تقف الولايات المتحدة، التي كانت ترعى باستمرار شعار حرية السوق، في وجه هذه الحرية، لأن لتحققها معنى واحدا هو انفلات التنين الآسيوي وهيمنته على تجارة العالم، وهزيمة اليانكي وتراجع دوره الإقتصادي في الساحة الدولية. وسوف يكون الإقتصاد ونزع التسلح من أهم محاور الصراع في الحرب الباردة القادمة.

 

بالنسبة لنا نحن العرب، لقد دفعنا أثمانا باهضة جراء نهاية الحرب الباردة، وعلينا أن نتهيأ للمرحلة القادمة، وتوفير مستلزماتها. لا بد من تقوية النظام العربي، والعودة لمؤسسات جامعة الدول العربية، والتركيز على معاهدة الدفاع العربي المشترك، والأمن القومي العربي الجماعي، والسير بخطى حثيثة من أجل بناء التنمية المستقلة. وعلى الصعيد السياسي، مطلوب إعادة الإعتبار لكتلة عدم الإنحياز، والإستفادة من تعدد الأقطاب لترصين السياسة الدولية. علينا أن ننأى بأنفسنا عن الإنضمام لأي من الكتل الكبرى، وأن نسعى إلى تعزيز التضامن والتفاعل مع دول العالم الثالث، وأن نتعايش بإيجابية، وبجرأة ودون تردد مع المنجزات العلمية والإقتصادية لهذا العصر، وذلك هو السبيل لكي نأخذ مكاننا اللائق في عالم لا يحترم سوى لغة المعرفة والقوة، فعسى أن نتهيأ للتحولات التي تجرى من حولنا، قبل حلول موسمها، وقبل أن يفوت الأوان..

 

cdabcd

 

yousifsite2020@gmail.com

 

اضف تعليق

اسمك بريدك الالكتروني

 

تعليقك:

تعليقات

 

* تعليق #1 (ارسل بواسطة عمر أسعد)

 

سيدى نحن نأينا بأنفسنا عن العالم ومايجرى فيه نحن الآن

نعيش فى فترة مرت بها الأمم التى ذكرت والتى تريد اللحاق بها منذ مئات السنين . نحن ليس لنا اهتمام فى العلم,الاقتصاد,الثقافة,حتى ألآ خلاق نحن شعب الله المختار

يرسل الينا البترودالار لكى نحرقها بأعواد الثقاب المستوردة أيضا.هذا متعلمناه وهذا مانعمل على تعليمه للأ

جيال الحاضرة ولأتية ان أراد لنا الله البقاء كشعوب وأمة

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

13 + 11 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي