في الوطنية والإصلاح
حيثما يممنا أبصارنا في الوطن العربي الكبير، تطالعنا عواصف التغيير المطالبة بالإصلاح السياسي، يقودها جيل جديد، واجه الحرمان والكبت وقرر كسر قيوده. وليس على المؤمنين بحق الشعوب في تقرير مصائرهاا، سوى مساندة مطالب الإصلاح، وتأييد رافعي راياتها.
ولا شك أن الدعوات السلمية لمطلب الإصلاح هي شرط جوهري، ليس فقط للحفاظ على الطابع الحضاري لمسيرتها، ولكن وذلك أيضا، وهذا هو الأهم، للحفاظ على كيانية الدولة، والحيلولة دون تمزقها وتفتتها. لقد عبر الشعب العربي في تونس ومصر، مخاطر التفتيت، بسبب النهج الحضاري الذي طبع مسيرة الاصلاح، وأيضا نتيجة للانضباط العالي والالتزام الوطني، للجيش في البلدين وانحيازهما للشعب. فكانت النتيجة هي الاحتفاظ بكيانية الدولة سليمة معافاة، وما يلوح أنه العبور |لى شاطيء الأمان.
في هذا السياق، ينبغي التأكيد على أن الاختلاف في الرأي هو من نواميس الطبيعة وسنن الكون. إن ذلك يعني القبول بحرية الرأي والرأي الآخر. فنحن في النهاية بشر لنا أهواءنا ورغباتنا المختلفة توجهاتنا السياسية المتعددة، ولسنا نماذج مستنسخة، أو صدى لبعضنا البعض. بما يعني أنه ينبغي النظر إلى الاختلاف في الرأي كظاهرة صحية وطبيعية ومألوفة.
إن الأقرار بذلك بداعة، يعنى التسليم بأن من حق كل فرد العمل على أن تأخذ قناعاته ورآه ومصالحه حيزا مناسبا في المجتمع الذي يعيش فيه ضمن الرؤى والمواقف والمصالح الأخرى. إن غياب التسليم بالاختلاف من شأنه أن يؤدي إلى الصدام في المجتمع الواحد. ولن ينتفي ذلك إلا بوضع ضوابط ومصدات تحول دون وقوعه، أساسها الاعتراف بالحقوق والتكافؤ.
كيف يتحقق ذلك؟! سؤال تاريخي، ظل هاجس الفلاسفة والمفكرين، منذ أرسطو طاليس في اليونان، في كتابه “السياسة” وقوانين حمورابي، وتواصل لقرون طويلة. ولعل كثير من الأساطير والملاحم في الحضارة اليونانية، وحضارات ما بين النهرين، وبضمنها ملحمة جلجامش قد حاولت أن تجيب على السؤال، وربما تمكنت من الإجابة عليه في حينه، وربما أيضا كانت إجابتها صحيحة آنذاك، ولكن رحلة البحث المضنية عن جواب نهائي ظلت مستمرة، لم تصل بعد إلى الجواب النهائي، وكانت في ذلك أسيرة لحراك تاريخي متواصل يشير إلى عدمية البحث عن جواب نهائي، ولسوف تبقى الرحلة مستمرة في دورات متعاقبة، لا تنقطع، طالما استمر بقاء النوع الإنساني.
وفي التراث السياسي الكلاسيكي الحديث، لخص ماكس فيبير في كتابه الأخلاق البروتستانتية تلك المراحل، مبتدءا بمرحلة القبيلة، حيث يعتمد النظام السياسي على شبكة معقدة من التقاليد البدائية، ويحكم فيها شيخ القبيلة. والكاريزما وفيها يتعلق الجمهور بجاذبية القائد ويسلمه الراية مانحا إياه ثقته. وفي التراث الإسلامي شيء قريب من ذلك عرف بـ “المستبد العادل”. والعقلانية القانونية. وتعتمد على التخصص في مختلف المجالات وتوسع الأجهزة البيروقراطية وتقسيم الوظائف وسيادة نظام يقوم على التعددية والمؤسساتية والمجتمع المدني. والتشخيص هذا صحيح إلى حد كبير.
والخلاصة في ذلك، أن أي نظام سياسي إذا ما تم وضعه في إطاره التاريخي، يبدو منطقيا وعمليا وسليما. لكن ذلك لا يعني أن الأنظمة التي سادت في التاريخ، قد حظيت بإجماع وتأييد مطلق من قبل شعوبها، وإلا فلماذا يسجل لنا التاريخ في أسفاره قصص الكثير من الحروب المحلية وثورات الغصب والجوع وحالات التمرد…
لا بأس إذن من التسليم بأن وجود معارضة سياسية لأي نظام قائم هو قانون طبيعي، من المستحيل تجنبه، وأن ذلك وضع صحي وإيجابي، إذا ما تم التعامل معه، من قبل مختلف الأطراف، بطرق حضارية ومشروعة، تستلهم من ثوابت الأمة دليلا وموجها لحركتها. وهنا بيت القصيد ومربط الفرس، وهذا هو بالدقة ما نعنيه حين نؤكد على أهمية الالتزام بمنظومة القيم الوطنية والأخلاقية.
فليس من المنطقي، على سبيل المثال، أن تستعدي المعارضة الوطنية القوى الأجنبية وتشجعها على التدخل في شؤون أوطانها، أيا تكن الشعارات واليافطات المرفوعة، أو أن تأتي إلى الحكم على ظهور دبابات تلك القوى. وبالمثل، لا يجوز للحاكم أن يتقوى بالأجنبي على أبناء شعبه. لا بد من تنظيم للعلاقة بين مختلف الأطراف، وأن يتم حسم الخلافات بين الحاكم والمحكوم بلغة التفاهم والحوار، وتؤمن حقوق الجميع. وفي ظل الخلافات المستعمرة. فإن من المنطقي أن ينبنى التفاهم والتوافق على أساس من المساومات والتسليم بالواجبات والمستحقات، لكل الأطراف بما يضمن سلامة الوطن ويؤمن استقراره ورخاءه.
ومن جهة أخرى، وفي سياق الحديث عن المعارضة السياسية، ليس من المقبول أبدا، أن يلجأ أي طرف من مختلف الفرقاء لاستخدام العنف وتفجير الأوضاع وتهديد الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية، وأن يكون هدفه مرتكزا فقط على تحقيق الإرباك داخل المجتمع وترويج فكر الانغلاق والتحجر، وتغيب المناهج والأهداف.
إن مبدأ الغاية تبرر الوسيلة هو أمر مرفوض أخلاقيا ودينيا، أما إذا انعدمت الغاية النبيلة من الأساس، فإن هذا العمل يصبح كبيرة الكبائر، ويجب إدانته ورفضه من قبل الجميع، وتصبح تلك الإدانة والرفض مطالب أخلاقية حين يكون جل الضحايا من المدنيين الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل، من قريب أو بعيد بمشروع العنف وأسبابه. والإدانة هنا يتحملها من يقدم على عملية القتل والإبادة أيا يكن موقفه في هرم السلطة، أو في خندق المعارضة.
ولا شك في أن سمة العصر في هذه المرحلة هي القبول بالتعددية السياسية واحترام الرأي والرأي الآخر، وعلى هذا الأساس ينبغي التمييز بين الموقف من السياسات الخارجية المتسمة بالعداء، تجاه قضايانا المصيرية، وبين مطالب الإصلاح.
إن المنطقة العربية بأسرها تمور بحراك شعبي واسع، يمتد من الخليج إلى المحيط، يطالب بالتسريع بالإصلاح، وتسهم فيه بشكل واضح النخب الفكرية والثقافية وبعض القيادات السياسية، ويجد صدى واسعا على مستوى جميع الشرائح الاجتماعية. إن هناك شعور عام بأن الوقت قد حان لإحداث تغيرات رئيسية وجوهرية، في البنية السياسية والهياكل الاجتماعية، على طريق الإصلاح وتوسيع دائرة المشاركة السياسية، وتوسيع داشرة مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية. والأهم الآن في ظل الأوضاع المتفجرة في معمظم البلدان العربية، ليس فقط تحقيق مطالب الإصلاح، ولكن الاحتفاظ بكيانية الدولة، فذلك وحده الذي يؤمن بلدان المنطقة من التفتيت، ويجنب الأمن القومي العربي المخاطر.