مـدخـل:
أصبح الفكر الإقتصادي في السنوات الأخيرة مدخلا رئيسيا لبحث موضوع الوحدة العربية. وربما يعود ذلك إلى كون الوحدة الإقتصادية تتضمن منافع وفوائد للأقطار العربية المختلفة. وبالتالي يمكن إبراز أهمية الوحدة العربية وترويج صيغتها الشاملة عبر التوجه الإقتصادي.
ولعل في ذلك جوابا على الذين يعارضون فكرة الوحدة السياسية، باعتبار أنها ستتسبب في حدوث أضرار معينة لمؤسسات وقطاعات اقتصادية ذات شأن في الأقطار ذات العلاقة.[1]
ومن جانب آخر، يمكن القول أن التركيز على الإقتصاد في موضوع الوحدة قد جاء بهدف الرد على وصم الدعوة للوحدة بأنها منطلقة من اعتبارات عاطفية محضة، فكان أن تم ربطها بالإقتصاد لإضفاء الطابع العلمي عليها. فالإقتصاد، كأحد العلوم الإجتماعية، هو الأكثر دقة بين مختلف العلوم، ويستطيع أن يتوصل إلى استنتاجات من خلال بناء نماذج وتحليل فكري متقن، وبالتالي، فإن بالإمكان التوصل من خلاله إلى طرح معادلات وأرقام، توصل إلى قناعة أكيدة بأهمية تحقيق الوحدة العربية. ويصبح، من خلالها، الإيمان بالوحدة، ليس مجرد علاقة توق معنوي إلى تاريخ وثقافة وتواصل، بل ضرورة حضارية للعرب، إذا ما رغبوا في أن يأخذوا مكانهم بجدارة في مسيرة التطور الإنساني الصاعدة.[2]
والواقع أن المحور المهم في الوحدة الإقتصادية العربية، هو علاقتها بالتنمية. إذ أن تحقيق التكامل الإقتصادي والوصول به حد الإندماج، إنما يهدف إلى تحقيق قدر أعلى من التطور والكفاءة الإنتاجية، والنهوض بالمجتمع العربي في كافة المجالات وعلى جميع الأصعدة، وذلك هو جوهر التنمية.
والحقيقة، أن موضوع التنمية، قد حظي باهتمام عالمي بالغ في العصر الحديث في كل المجتمعات، ليس فقط من قبل الإقتصاديين، بل والباحثين والمختصين في مختلف العلوم الإنسانية، من اقتصاد وسياسة واجتماع وثقافة وفكر. وبالقدر الذي حظي به هذا الموضوع من الإهتمام، فإن التعريفات والتفسيرات والتأويلات والقياسات التي استخدمت لجهة تحديد هذا المفهوم، عكست اختلافات شاسعة بين المهتمين به، حول المعايير التي يجب أن تحكم وتوجه العمليات التنموية. ويبرز بشكل خاص، الخلاف بين مدرستي الإقتصاد الحر، التي تعتمد على المبادرات الفردية وتحرير الإقتصاد من كل القيود، والمدرسة التي تؤمن بضرورة الإعتماد على التخطيط في كافة المستويات، وتحقيق الملكية العامة لوسائل الإنتاج.
فقد ربطت مدرسة الإقتصاد الحر نجاح الخطط التنموية بمدى تضييق الفجوة القائمة بين مستويات المعيشة في دول الغرب الرأسمالي الصناعي والمستوى السائد في بلدان العالم الثالث، وبالتالي فإن التنمية، من وجهة النظر هذه، تتحقق بالتوسع في استكمال البنية التحتية، وتوفير الخدمات التعليمية والصحية وسيادة اقتصاد السلع الإستهلاكية وخدمات الرفاه، والإقتراب من نمط الحياة في البلدان الرأسمالية الصناعية، وما يتطلبه تحقيق ذلك من ارتفاع في مستوى الدخل القومي.[3] أما المدرسة الإشتراكية فقد ربطت عملية التنمية بمجمل عملية التطور في البناء الوطني، كالتصنيع والزراعة والثقافة والإدارة والتقدم التقني وتقليص الإعتماد على الغير أو الخارج وقيام علاقات متكافئة ومتوازنة مع الآخرين.[4] وقد اعتبرت تحقيق ذلك مرهون بإحداث تبدلات رئيسية وهامة في المجالات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية.
وسوف نتعرض لآراء هذه المدارس بشىء من التفصيل لا حقا، في سياق المناقشة لتطور مفهوم التنمية. ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن هدف التنمية هو إجراء تحولات رئيسية في الهياكل الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والثقافية، والعمل على تنويع وتطوير الإنتاج الوطني بما يؤدي إلى ارتفاع مطرد في المستوى المعيشي لكل أفراد المجتمع. ويجب أن تنطلق العملية التنموية من إمكانيات الوطن وطاقاته والثروات والموارد الكامنة فيه، وأن تسعى إلى تحرير الوطن والمواطن، بتخليص البلاد من بوتقة التبعية للخارج، وإزالة العوائق التي تقف أمام المشاركة الفاعلة للأفراد والجماعات في كافة الأنشطة التي تدفع بعملية التطور في كافة المجالات. وإذن فهي السعي لتحقيق النهضة الحضارية الشاملة.
ويعتبر تحقيق التنمية أحد التحديات الرئيسية التي تواجه الأمة العربية الآن، لأنه السبيل الوحيد للتغلب على تركة التخلف الثقلية التي خلفها الاستعمار بعد رحيله، وتكنيس الآثار التخريبية المدمرة التي خلقها أثناء وجوده، ولأن أى حديث عن الحرية والاستقلال مجرد لغو لا أساس له حين لايكون هناك مستقبل ونهوض. فبدون تحقيق التنمية، ليس هناك مناص، من السقوط في شرك الخضوع والتبعية للهيمنة الأجنبية.
يهدف هذا الحديث لمناقشة علاقة تحقيق التنمية بمشروع الوحدة العربية. ويفند الأطروحة القائلة بإمكانية الدول الصغرى، والوحدات القطرية في الإضطلاع بمهام التغيير الاجتماعي ورسم وتنفيذ خطط التنمية اللازمة لمواجهة تحديات العصر، والحفاظ على الحرية والاستقلال. مؤكدا على استحالة تحقيق ذلك خارج إطار مشروع النهضة القومية وتحقيق الوحدة.
وقبل المباشرة في مناقشة الموضوع، سنمهد بتقديم خلفية تاريخية لتطور مفهوم التنمية وإستقراء مناهج التنمية الاقتصادية التي سادت في عالمنا المعاصر. وسوف نشير إلى بعض المعالجات النظرية التي قدمها عدد من المفكرين والمهتمين بقضايا التنمية الاقتصادية في العالم الثالث، وربط ذلك بالواقع العربي في هذه المرحلة، بهدف استخلاص اطار نظري يساعد على توضيح أدق للعلاقة بين هدفي التنمية والوحدة العربية.
تطور مفهوم التنمية
يمكن البحث عن الجذور الأولى لمفهوم التنمية في المحاولات المبكرة التي قام بها الانسان الأول لمعرفة التغيرات التي تجرى من حوله. لقد ارتبطت تلك الجذور بالمشاهدة الحية والتأمل في التغيرات التي تحدث في الموجودات كفصول السنة والنبات والانسان والحيوان، حيث أوحت بأن هذا الكون في حركة مستمرة وتغير دائم. وكانت نتيجة تلك المشاهدات والتأملات بروز جدل فلسفي متواصل حول ماهية الأشياء وطبيعة المتغيرات التي تحدث فيها.
وكان لفلاسفة اليونان فضل السبق في اثارة هذا الجدل. ومن بين هؤلاء الفلاسفة كان هرقليطس[5] الذي اهتم في جانب كبير من فلسفته بقضايا التغيير، مشيرا الى أن الكون في حركة وتغير دائم، وأن كل شيء مؤلف من متضادات ومتقابلات ولهذا فإنه خاضع للتوتر الداخلي، أي للصراع. وقد عرفت عنه مقولته الشهيرة “لاتستطيع أن تنزل في نفس النهر مرتين”.[6] وهو بذلك يرفض أطروحة الفيلسوف اليوناني برمينس القائلة بأن كل شيء قد تكون، ولامجال للتغير، كما يتعارض مع فلسفة أفلاطون في اعتباره التغيير أمرا ظاهريا، وأن الحقيقة لا يمكن معرفتها إلا من خلال الشكل أو الفكرة، وهما شيئان غير قابلان للتغيير لأن بهما وحدهما نستطيع أن نميز الجديد والحقيقي عن غيره.[7]
أما أرسطو فقد ناقش موضوع التغيير من جانب آخر، في كتابه طبيعة الدولةThe Nature of State فقال بوجود نظام في الكائن العضوى يمكن انتقاله من مرحلة إلى اخرى، تبدأ بالولادة فالنمو، فالنضج وأخيرا الإضمحلال، وكل مرحلة من مراحل النمو هذه تختزن في باطنها حافز نشؤ المرحلة التي تليها.[8]
وفي القرن الرابع عشر الميلادى برز الفيلسوف العربي عبد الرحمن بن خلدون ليعطي مفهوم التغيير الاجتماعي بعدا أكثر شمولية وعمقا، مؤكدا على أن الظاهرة الاجتماعية لاتنشأ من فراغ، فلكي نفهم الظاهرة يجب علينا أن نعي البيئة الاجتماعية التي نشأت فيها، ولذلك عزا سلوك الناس وطريقة حياتهم الى نوعية الوظائف التي يشغلونها في المجتمع، والتي تلبى عن طريقها حاجاتهم الأساسية، فتلك الوظائف وتلك الحاجات، هي مبعث التحالفات والتعاون بين فئات المجتمع. وقد أوضح ذلك بدقة بقوله
واعلم ان اختلاف الأجيال في أحوالهم انما هو اختلاف نحلهم من المعاش، فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضرورى منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي .فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة، ومنهم من ينتحل القيام على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها. وهؤلاء القائمون على الفلح والحيوان تجعوهم الضرورة، ولا بد، إلى البدو لإنه متسع لما لا يتسع له الحواضر من المزارع والفدن والمسارح للحيوان وغير ذلك، فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمرا ضروريا لهم. وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والسكن والدفاءة إنما هو بالمقدار الذى يحفظ الحياة ويحصل بلغة العيش من غير مزيد للعجز عما وراء ذلك، ثم اذا اتسعت أموال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم مافوق الحاجة من الغنى والرفه دعاهم ذلك الى السكون والدعة.[9]
يتضح من خلال هذه الجمل البسيطة والعميقة في آن واحد استخدام ابن خلدون المبكر للمنهج العلمي في التحليل والاستنتاج، فالطريقة التي يحياها الناس، هي انعكاس للوظائف الاجتماعية التي يمارسونها، ووظيفة كسب القوت تحدد الموقع الاجتماعي للفرد.
أما الدولة فإنها تمر بدورات تاريخية وبمراحل، تشبه الى حد كبير الدورة العضوية للكائن الحي. فكما أن الكائن الحي يمر بمراحل الطفولة والشباب والشيخوخة، فكذلك الدولة تمر في مراحلها المختلفة بهذه الدورات. وابن خلدون لايكتفي في تحليله هذا بالوصول إلى هذه النتائج وتقديمها لنا في مصنف نظري بحت، بل يحاول بأسلوب نفاذ ورؤية ثاقبة سبر غور المجتمع وقراءة التاريخ عبر مراحله المختلفة ودراسة القوانين التي تتحكم في حركته، واخضاع هذه القوانين للبحث العلمي والمعطيات الاجتماعية والتاريخية في عصره، ومن ثم استخلاص النتائج وتقديمها في إطار نظرى عام كأداة من أدوات التحليل ودراسة التاريخ.
لم يحدث بعد رحيل ابن خلدون حتى البدايات الأولى لعصر النهضة والبعث في أوروبا أي تطور علمي يستحق الذكر فيما يتعلق بمفهوم التغيير الاجتماعي. الا أن التطورات والثورات الفكرية والدينية والاجتماعية والسياسية اللاحقة التي ارتبطت بذلك العصر أدت إلى حدوث تغيرات جذرية وتطورات واسعة في مجال العلوم الانسانية ومفاهيم التغيير الإجتماعي، فمن خلال الاكتشافات العلمية والجغرافية والثورات الاجتماعية، والجدل الفلسفي الذى بلغ ذورته في القرن الثامن عشر انبثقت نظريات التطور والتنمية والتقدم، وبرزت فلسفات جديدة شاملة للحياة والكون.
ولأن نظريات التنمية والتطور الحديثة التي تسود عالمنا اليوم ارتبطت، إلى حد كبير، بالنظريات والتصورات التي انبثقت عن تلك المرحلة، فإن من المهم المرور على أبرز الحوادث والتطورات والأفكار التي ارتبطت بعصر النهضة، والتي أدت نتائجها الى تجذر مفهوم التغيير الاجتماعي وتطوره.
وعلى الرغم من أن أحدا لايستطيع أن يحدد بالدقة نهاية عصور الظلمة أو بداية عصر الانبعاث في أوروبا، الا أنه يمكن القول أنه بفعل التراكم التاريخي واشعاعات الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، فإن أوروبا، مع بداية القرن الثالث عشر كانت تتململ في بطء في محاولة للاستيقاظ من نوم عميق. فقد سجلت لنا كتب التاريخ أن الامبراطور فريدرك الثاني أقام سوقا للأدب والعلم والفلسفة في بلاطه بجزيرة صقلية قبل هذا القرن، وأنه كان يدعو إلى هذا السوق المشاهير من الفلاسفة العرب. وقد أسس مدرستين إحداهما للعلوم في نابولي، والثانية للطب في ساليرنو، ثم انبثق عن هاتين المدرستين جامعة في باريس جعلت من هذه المدينة قبلة طلاب العلم في أوروبا، ومن ثم انشق بعض الطلاب الإنجليز عن هذه الجامعة، فعادوا الى بلادهم وأنشأوا جامعة خاصة بهم هي جامعة أكسفورد الشهيرة.
وفي القرن الثالث عشر شهدت أوروبا تطورات ملحوظة في مجال الأدب والفلسفة. فقد برز الفيلسوف الانجليزى روجرز باكون الذى أنكر العقيدة القائلة بأن الأشياء وجدت كما هي قائمة، موضحا أن للظواهر الطبيعية أسبابا يجب التفتيش عنها، فاتهم بالزندقة فاعتقلته السلطات الدينية السائدة آنذاك. وفي نفس الحقبة نشر دانتي ملحمته الشهيرة الكوميديا الإلهية.
وعلى الصعيد السياسي، شهدت انجلترا ثورة شعبية على نظام الحكم الاقطاعي، وأرغم الملك يوحنا في 1215م على توقيع الوثيقة العظمى التي اعترف بموجبها ببعض الحقوق للشعب. وفي العام نفسه، تم تشكيل مجلس ليشرف على الخزينة الملكية، فكان ذلك فاتحة عهد في بروز الأنظمة الدستورية البرلمانية التي تسود العالم الآن.
كما شهد القرن نفسه قيام الرحالة البندقي (الفينيسي) ماركو بولو برحلة حول الأرض بغية الوصول إلى الصين. وقد دامت تلك الرحلة عشرين عاما زار خلالها الصين ومنغوليا، وعاد بعدها إلى بلاده ليسجل ملاحظاته عن تلك الزيارة. وقد فتحت تلك الرحلة المجال للتنافس على البحار بين البرتغال وأسبانيا في محاولات لاكتشاف أجزاء وثروات أخرى من هذا العالم. ففي عام 1492م، اتجه كريستوفر كولمبوس نحو الغرب على أمل الوصول إلى الهند، ولكنه بدلا عن ذلك اكتشف أرضا جديدة هي قارتي أمريكا، محققا بذلك انجازا كبيرا، في تاريخ البشرية أثر بشكل حاسم على التطورات اللاحقة التي حدثت فيما بعد في أوروبا والعالم أجمع.
وبعد ثمانية أعوام كان رحالة آخر هو فاسكو دا جاما يتجه عام 1498م للقيام بمغامرة اكتشاف أخرى مدعوما من حكومة البرتغال. وفي عام 1519م، كان مغامر آخر، برتغالي يتجه بدعم من حكومة أسبانيا إلى أمريكا الجنوبية، فيصل إلى البرازيل، ومن ثم يكتشف أرخبيل الفلبين.
ومن جانب آخر، كانت القارة الأوروبية تشهد حركة واسعة للإصلاح الديني قادها راهب كاثوليكي هو مارتن لوثر الذى بلغ من جرأته أن هاجم الكنيسة في بيانه الذى أصدره عام 1517م، مصورا رجالها باللصوص، داعيا الى الثورة عليهم والعودة الى تعاليم المسيح الصادقة. وكان جون كالفن في فرنسا يقود هو الآخر حركة مماثلة لحركة لوثر.
كما كان العالم الايطالي جاليلو يؤكد من جديد نظرية كوبر نيكوس في دوران الأرض حول الشمس، ويقدم على صنع أول منظار فلكي، فيتعرض للارهاب والقمع من قبل المؤسسة اللاهوتية.
وفي عام 1648م، كانت البورجوازية الصاعدة تحث خطاها في انجلترا مسارعة إلى الإنقضاض على نظام الإقطاع السائد، فتستولي على السلطة يقودها في ذلك أوليفر كرومول، معبرة بهذه الثورة عن استيائها البالغ جراء الضرائب الباهضة التي فرضتها الحكومة على الشعب. وقد شارك في تلك الثورة الأشراف والبارونات وأصحاب الأملاك والتجار الذين كانوا في المقدمة من الحركة البروتستانتية، رافضين بقوة فكرة الحق الإلهي للملك ومعززين روح الوثبة والتمرد في الشعب، فكانت نتيجة هذه الثورة إعلان الجمهورية عام 1648م، ومحاكمة الملك شارل الأول بتهمة الخيانة العظمى، واعدامه بقطع رأسه 1649م، وعلى الرغم من أن النظام الجمهوري قد أطيح به في انجلتزا بعد فترة وجيزة من ذلك التاريخ، وأعيدت الملكية إلا أن المكتسبات التي حققتها الطبقة البورجوازية لنفسها بقيت على ما هي عليه، فقد حددت السلطات الرئيسية للملك والحكومة وأصبح كلاهما خاضعين للدستور.
وفي عام 1777م، اخترع جميس وات المحرك البخاري، فاستبدلت المراكب الشراعية بالمراكب البخارية فسهلت الأسفار والتجارة عبر البحار. وتحول العلم من الميدان الروحي إلى الميدان العملي والصناعي.
وأثناء ذلك كانت حركة فكرية واجتماعية واسعة تأخد بالتكون في فرنسا. ففي منتصف القرن التاسع عشر برز باسكال وديكارت وهما فيلسوفان مثاليان ربطا الوجود بالفكرة، فقد عرف عن ديكارت عبارته الشهيرة: ” أنا افكر إذن أنا موجود”. كما جاء في الحقبة ذاتها فرانسيس باكون الذي أكد من جديد أن الأشياء والظواهر الطبيعية ليست ذات كينونة مقررة ومستقلة، بل ناتجة عن أشياء يجب البحث عنها.
وكانت الأوضاع الإجتماعية في معظم أجزاء أوروبا آنذاك لا تزال تسير على قاعدة الحق الإلهي، حيث كان الشعب ضحية لظلم الملك والسلطة الإكليركية وقوة الإقطاع، مما دفع بمفكر مثل مونتسكيو إلىالإهتمام بالبحوث الحقوقية والموضوعية التي تحدد علاقة الحاكم بالمحكوم، حيث جعل من كتابه روح القانون The Spirit of Law مرجعا هاما في أصول التشريع، كما دفع ذلك بمفكر فرنسي آخر هو جان جاك روسو إلى إصدار كتاب العقد الإجتماعي الذي نادى فيه بضرورة التغيير والثوره، مبينا أن العلاقات بين الحاكم والمحكوم يجب أن تكون على أساس تعاقد موضوعي بين المواطن والحاكم، وحين يرفض الحاكم الإستجابة إلى تحقيق هذا النوع من العلاقة بينه وبين الشعب، وحين تسود القسوة والبطش من قبل الحكام فإن الشعب مطالب بالثورة والتحطيم الكامل للنظام الاجتماعي القائم، باعتبار أنها الطريق الوحيد لتحرير الإنسان.[10]
وفي تلك الحقبة أيضا، تألق نجم أديب وفيلسوف آخر هو فولتير (1694-1788) الذي لم يكتف بالنضال بقلمه ضد السلطة الجائرة، بل ساهم بشكل مباشر في تحريض الجماهير وتعبئتها مهاجما الكنيسة ومعلنا حربا لا هوادة فيها ضد التصلب الديني، وساخرا من ممارسات الملوك والحكام مما عرضه للإعتقال مرات عديدة، وإلى مطاردة السلطة له طيلة حياته.
لقد وجدت فلسفة مونتسكيو وأفكار هيجو وتحريض فولتير في فرنسا أرضا خصبة وبيئة ملائمة للدعوة للتغيير فوضعت بذورها فيها داعية إلى التمرد والثورة، وكانت الطبقة البورجوازية الصاعدة تعززمن قوتها، وتتوسع في مؤسساتها وتنظيماتها رافعة شعار الحرية والإخاء والمساواة، مبذلة الوعود بخلق مجتمع سعيد وغد مشرق لكل البشر، حتى إذا حل الرابع عشر من تموز 1789م، انقضت الآلاف الغاضبة من الجياع والمسحوقين من أبناء الشعب الفرنسي على سجن الباستيل رمز الطغيان الملكي ومعتقل المناضلين ورجال الفكر، فكان أن انتصرت الثورة البورجوازية على الإقطاع والحكم المطلق، وقضي على الكنيسة، وأعلنت الجمهورية، وأقرت الحريات السياسية والدستور، وتم اعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري انطوانيت تحت المقصلة.
وبانتصار الثورة الفرنسية تحددت بشكل أوسع المفاهيم الليبرالية، فالأمة وحدها هي مصدر السلطات، والناس يولدون أحرارا متساوين في الحقوق والواجبات. وأقرت حقوق الأفراد في الإعتقاد الديني، وحرية الكلام والتعبير والاجتماعات والكتابة، وأن الملكية الفردية مقدسة لا يجوز انتزاعها إلا إذا قضت المصلحة العامة ذلك، ولقاء تعويր¶ات مالية.
وهكذا وصلت الطبقة البورجوازية إلى السلطة في كل من بريطانيا وفرنسا، وكانت أمريكا الشمالية قد استطاعت انتزاع استقلالها من انجلترا مكونة دولة جديدة هي الولايات المتحدة الأمريكية قبل اندلاع الثورة الفرنسية بفترة وجيزة (1776م)، مؤكدة على نفس المبادئ التي بشر بها روسو وفولتير ومونتسكيو. فقد أكدت البنود الرئيسية للدستور الأمريكي في معظمها المبادئ والأهداف التي حملتها وعبرت عنها الثورة الفرنسية فيما بعد.
وكما طرحت المتغيرات الرئيسية التي حدثت أثناء الحضارة اليونانية تساؤلات وجدل فلسفي حول كنه الوجود وتفسير الظواهر والمتغيرات التي تجري في الكون، فإن الإنتصارات العلمية، والإكتشافات الجغرافية، والثورات الاجتماعية قد ساهمت هي الأخرى مجتمعة في طرح موضوع التغيير الاجتماعي بحدة أكثر. وبطروحات متباينة ومتناقضة.
فقد وجد الفيلسوف الألماني ليبنيزLeibniz أن التقدم الانساني يتم وفق مراحل ضرورية، وأن الطبيعة لا تقفز فوق تلك المراحل أبدا، وجاء بعده إمانويل كانت معتبرا أن التاريخ الانساني يسير بثبات ولكن ببطء إلى الأمام.
وكانت المهمة الأساسية للطبقة البورجوازية الصاعدة، بعد وصولها للسلطة هي إحكام قبضتها على المجتمع الجديد الذي ربط مصيره بها، وتعميم مناهجها وعقائدها الفلسفية والاقتصادية. وجاء آدم سمث بكتابه ثروة الشعوب the wealth of nations (1723-1790) ليحدد إطار الفلسفة الإقتصادية لمنهج هذه الطبقة معتبرا أن الوسيلة الأساسية لزيادة الإنتاج تكمن في تقسيم العمل واستخدام الآلات الميكانيكية، إلا أن تحقيق درجة عليا من التخصص هي رهن باتساع السوق، وذلك لأن المقادير الكبيرة من مادة منتجة لا يمكن بيعها في مجتمع صغير أو صبغة محلية محدودة.
وجاء كتاب أصل الأنواع (1859م) لشارلز داروين ليشكل قفزة نوعية في مفهوم التطور، فقد كشفت نظرية النشوء والإرتقاء مجموعة من الحقائق أهمها أن التغيرات التي تحدث في الكائن العضوي هي جزء من الطبيعة، وانها موجهة نحو غائية محددة ومتأصلة، بمعنى أنها موجودة في رحم المرحلة السابقة عليها ومتواصلة، ومستمرة، وهي أيضا ضرورة لتحسين النوع الخاص، وأنها تحمل في ذاتها نقيضها.
وهكذا فقد أدى انتصار الثورة البورجوازية إلى حدوث تطورات هامة على صعيد العلوم والفلسفة. وقد أكدت هذه التطورات، بما لا يقبل شكا أو جدلا أن التطور الانساني إذا ما اتيح له عمل سياسي فإنه يستطيع الكشف بقوة أكبر عن القناع الذي يحجب قوانين الطبيعة، كما كشفت أيضا، أن المعرفة هي سبيل الإنسان الوحيد للتحرر من الخوف. وقد عجلت هذه الإنجازات في بلورة فكر عام اهتم بدراسة تطور المجتمعات والقوانين والعوامل التي تحكم مسيرة هذا التطور. وقد برز فلاسفة استطاعوا من خلال دراستهم العميقة للتاريخ، واستعانتهم بالمعطيات العلمية، وعلى الأخص تلك التي ارتبطت بعصرهم، ويأتي في مقدمتها اكتشاف الخلية الحية، وتولد الطاقة، ونظرية النشوء والإرتقاء، وقانون الجاذبية، أن يقدموا لنا نظريات متكاملة لا زالت حتى يومنا هذا مثار خلاف وجدل عنيفين، بل أن تلك النظريات مثلت ولا تزال، الأساس الآيديولوجي ودليل العمل للنظامين، الإشتراكي والرأسمالي، السائدين في المجتمعات المتقدمة.
رواد الفلسفة الحديثة
من الفلاسفة الذين عالجوا موضوع التغيير نشير إلى ثلاثة من عمالقة الفكر في العصر الحديث، لا زالت فلسفتهم حتى اليوم موجها لنضالات سياسية واجتماعية من أجل التطور والتغير في معظم أرجاء الكرة الأرضية، كما لا زالت تشكل ركيزة أساسية في العلوم السياسية والاجتماعية بالعصر الراهن. هؤلاء الفلاسفة هم جورج هيجل وكارل ماركس وماكس فيبير
فقد قال هيجل بالفكرة المطلقة التي تتميز بالطابع الجدلي الذي يجعلها دائما في صراع داخل ذاتها، يدفعها إلى التحرك والتغيير والانتقال الدائم من مرحلة إلى أخرى.
فقد اعتبر هيجل العقل والروح Spirit and Mind المصادر الرئيسية لأي تغير في التاريخ، وأن اتجاه الحضارت يسير دائما، وبشكل مستمر، إلى تحقيق انجازات أعلى، بتلاحم عقلي وروحي. على أن هذا التلاحم والتفاعل إلى الأعلى يمر بثلاثة مراحل هي: الفكرة (الطريحة)، وهي المرحلة الأولى من مراحل الديالكتيك الهيجلي، والنقيض والتركيب الناتج عن الفكرة ونقيضها.
ففي كل مرحلة من مراحل التاريخ الانساني تسيطر فكرة معينة تمثل المرحلة الأولى من مراحل الديالكتيك، ومن خلال تطور هذه الفكرة فإنها تخلق ما يتعارض معها، أو نقيضها حيث تتكون رؤية جديدة مناقضة كليا للرؤية السائدة من قبل، وتقوى هذه الفكرة وتتطور لتحل محل “الطريحة” وهكذا تقوم المرحلة الثانية من مراحل الديالكتيك بأخذ مكانها وتأدية دورها في مسار التاريخ الانساني. لكن التناقض السائد بين المرحلتين الأولى والثانية من مراحل الديالكتيك يبقى قائما ومتفاعلا، ومن خلال تناقضه وتفاعله تبرز مرحلة أخرى ثالثة هي ليست انتقاء لأفضل ما في الفكرة ونقيضها من عوامل، ولكنها رؤية جديدة بكل ما تحمله كلمة الجدة من معنى.. وهكذا تصبح هذه النتيجة بدورها لاحقا طريحة مفسحة المجال للتطور الانساني لكي يواصل مسيرته في دورات تاريخية متعاقبة إلى الأمام.
على أن الانتقال من مرحلة ديالكتيكية إلى أخرى في المراحل الثلاث المشار إليها لا يتم بشكل سلمي، بل يكون عادة من خلال الحروب والتمرد والثورات الاجتماعية، وهو أيضا لا يتم بتدرج وانما بتحول اجتماعي نوعي حاسم يتم من خلال العنف والغليان، على أن ذلك وحده، مع كل ما يصاحبه من مآسي وكوارث، هو السبيل لخلق حياة مثلى، يتم من خلالها كمال الروح والعقل الانساني.
أما كارل ماركس، فقد تأثر في بداية حياته بفلسفة هيجل وتفسيره للتاريخ. وفي الفترة بين 1836- 1838 أعاد النظر في إيمانه وتقييمه لهذه الفلسفة، فقد وجد أن هذه الفلسفة ستكون في وضع أفضل حين تتخلى عن الفكرة المطلقة.
وقد هاجم ماركس أيضا رؤية هيجل في أن التطور التاريخي هو نتاج حركة السير من فكرة ونقيضها إلى نتيجة تعلوها، مقررا أن الأوضاع المادية لا تنبع من الفكر ومنطقه، بل أن الفكر ومنطقه منشأهما الدماغ، فهما بذلك ينبعان من الأوضاع المادية. ولذلك فالتناقض لا يكون ابتداء بين فكرتين، وانما في واقع مادي. وعلى هذا فالتغيرات التي تحدث في الفكرة ليست إلا انعكاسا لتغيرات مادية تجري من حولها.
وفي عام 1847م ارتقت رؤية ماركس الفلسفية إلى تحليل طبيعة الإستغلال في المجتمع الصناعي، حيث رفض القول الشائع في عصره بأن مصدر الإستغلال هو إرتفاع اسعار البضائع التي يشتريها الجمهور من السوق، مشيرا إلى أن تراكم الثروة يبدأ منذ اللحظة الأولى للعملية الإنتاجية، حيث يحرم العامل من الجزء الأكبر من أجره. ومن هذه الرؤية انطلق ماركس في بناء نظريته الإقتصادية المعروفة بفائض القيمة. ومنها أيضا تحددت الخطوط العامة لنهجه الفلسفي بشكل عام.
فليست علاقات الانتاج مؤشرا على وجود النمط الاستغلالي أو عدمه في النظام الاقتصادي القائم فحسب، وإنما هي أيضا، كما يرى ماركس، مؤشرا على طبيعة المرحلة التاريخية التي يجتازها مجتمع إنساني ما. فمن خلال علاقات الانتاج عرف التاريخ الإنساني عهودا وأنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة، يحددها ماركس على التوالي بالعبودية، فالاقطاع، فالبورجوازية، والإشتراكية. والإنتقال من مرحلة تاريخية إلى أخرى هو النتيجة الطبيعية للصراع بين الطبقات، ويسير دائما إلى الأمام.
وكما في المنهج الهيجلي، كذلك في الماركسية فإن كل مرحلة تحمل في رحمها جنينية (بذور) المرحلة القادمة، ولذلك كانت وحدة نضال المتضادات الجدلية الأولى في فكر ماركس.. ولكي يحدث الإنتقال من مرحلة تاريخية إلى أخرى فلا بد من حدوث مجموعة من التراكمات التي تتعارض مبدئيا مع المرحلة القائمة. تلك هي بذور التقدم والتغيير، فثورات العبيد المتكررة أدت إلى إلغاء العبودية وسيادة نظام الاقطاع. كما أن الاكتشافات العلمية والجغرافية، والدور الذي قام به الحرفيون في المدن أدى إلى خلق طبقة رأسمالية وعمالية تسببت في القضاء على الإقطاع، وقيام الثورة البرجوازية. كذلك فإن التقدم في وسائل الإنتاج، واتساع الاسواق أدى إلى إيجاد طبقة عمالية قوية تنبأ ماركس أن يكون لها بفعل التراكم الرأسمالي وأزمات التضخم والعجز، وبفعل وحدتها ونضالاتها الدور الاساس في نقل المجتمع الرأسمالي إلى مرحلة الاشتراكية واندحار النظام القديم.
أما ماكس فيبير، فقد اتسمت المراحل المبكرة من حياته بإعجاب كبير بشخصية المستشار الألماني بسمارك وبدوره في تحقيق الوحدة الألمانية، ومع أن بسمارك أتيحت له القوة اللازمة للهيمنة السياسية على أوروبا في عصره، ولم يستطع نقل المجتمع الألماني، كما خطط، إلى حالة أكثر رخاء وحرية، فإن فيبير يجد له عذرا في ذلك تحت حجة أن أكثر البرامج دقة في التخطيط قد ينتج عنها أشياء غير متوقعة.
لقد لخص فيبير جوهر فلسفته في كتابه الشهير الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية The Protestant Ethic And The Spirit of Capitalism حيث اعتبر الطريق البروتستانتي طريق الطبقات البورجوازية، وأن حركة الأصلاح الديني اللوثرية، والتغيرات الاجتماعية والإقتصادية التي حدثت في أوروبا هي المتطلبات الضرورية لانطلاقة الرأسمالية الحديثة.
لقد أدت البروتستانتية إلى خلق نظام مدني قام على أساس فصل الدين عن الدولة، ولهذا فقد وجهت صفعة قوية للإقطاع، وفتحت الباب على مصراعيه للطبقة البورجوازية لبناء مؤسساتها وهيئاتها الخاصة، كما ساهمت في خلق وتعزيز البيئة الاجتماعية والاقتصادية لنمو هذه الطبقة.
وقد وجد فيبير في الطبقة البورجوازية ونظامها ذروة نضج التاريخ الأوروبي معتبرا مرحلة الرأسمالية الحضارة الوحيدة في عصره، وأن نظامها هو الأمثل لمستقبل الإنسانية. فالعقلانية البروتستانتية هي وحدها، إذا ما استطاعت أن تحقق الهيمنة العقلية على العالم، القادرة على تعميم المدنية والحضارة،.
كما اهتم بالطريقة الغربية التي يتم من خلالها بناء المؤسسات الحديثة وانتقال المجتمع من مرحلة إلى أخرى، وعبر عن اهتمامه بضرورة متابعة قادة المؤسسات للمتغيرات التي تجري في المجتمع، والاستمرارية في تحقيق تغيرات متتالية في القوانين والأنظمة والرموز التي تسير هذه المؤسسات لتكون قادرة على الإنسجام مع المتغيرات التي تجري من حولها.
وهكذا يمكن رد نظرية ماكس فيبير إلى عاملين رئيسيين: الأول هو العقلانية البروتستانتية وضرورة هيمنتها العقلية على العالم، أما العامل الأخر فهو التركيز على التخصص، وتقسيم العمل الوظيفي بما يضمن مستوى أعلى من الفعالية.
ولا ينسى فيبير أن يتعرض إلى حق الفرد في الهيمنة على هذا الكون. أما أفراد المجتمع فيجب أن يجمعهم نشاط مشترك وأن يرتبطوا بمصالح مادية ومعنوية. ويرى أن التضارب في المصالح وما ينتج عنها من إشكالات قد تعصف بوحدة المجتمع واستقراره يمكن أن تعالج من خلال سلطة قانونية، تستمد قوتها من نظام قانوني عقلاني. كما نظر إلى التغيير الاجتماعي على أنه تطور التاريخ، إذ لابد من أجل الإرتقاء والتقدم من حدوث تغييرات رئيسية وشاملة في أوضاع المجتمع. على أن هذه التغيرات، يجب أن تتم سلميا، وأن لا تكون على حساب استقرار ووحدة المجتمع.
فالحرية والإبداع والمسؤوليات الفردية ليست خارج مجال المجتمع، أو خارج إطار العلاقة والنشاط الاجتماعي المشترك. وإنما تأخذ مكانها عن طريق التنظيم والمؤسسات والعلاقات الشخصية، بحيث تصبح جزء من فاعلية المجتمع ونشاطه. ولذلك خالف فيبير رأي ماركس في الإعتقاد بأن الإغتراب الإنساني إنما يحدث في المجال الاقتصادي وفي علاقات الإنتاج، فقال بأنه يمكن أن يحدث في كل المجالات الاجتماعية. ولذلك أيضا، رفض فكرة الصراع الطبقي، معتقدا أن الفرد في ظل المجتمع الرأسمالي الغربي، من خلال ذكائه وطموحه وحماسه وكفائته، ومهما يكن موقعه الاجتماعي، فإنه يمكن أن يشق طريقه ويحقق رغباته، فيحتل موقعا وظيفيا واجتماعيا متقدما.
ويرى فيبير أن مشروعية الحكم عبر التاريخ مرت بثلاث مراحل: تقليدي، ويسود في نظام القبيلة أو العشيرة أو نظام الملكية الوراثية. وفي هذه المرحلة تحل الأعراف والتقاليد القبلية الموروثة مكان القوانين والأنظمة والدساتير المتقدمة. أما المشروعية الأخرى في الحكم فترتبط بدور القائد الفذ الذي يستطيع أن يقود بخبرته وقوة تأثيره المجتمع، ويستمد شرعيته من إعجاب الجمهور وتعلقهم بشخصيته (الكاريزماتية). وقد اعتبر فيبيير أن المرحلة الثالثة من مشروعية الحكم هي الأنظمة الحديثة، أو ما أطلق عليها بالقانونية العقلانية Legal Rational التي تستمد قوتها من وجود نظام ديموقراطي ودساتير ومؤسسات تحجب عن الحاكم حق اتخاد القرارات دون الرجوع إلى الشعب.
إن فيبير يرى أنه بتعميم النموذج الأخير، القانونية العقلانية في الحكم، المتمثل قي تطبيق النمط الليبرالي الغربي، فإن المجتمعات تستطيع أن تصل إلى درجة الكمال الانساني، وأن تواصل بخطى سريعة ابداعاتها وعطائاتها.
وهكذا يمكن القول أن موضوع التنمية قد شغل حيزا كبيرا في فكر كارل ماركس وماكس فيبير. وأن كلاهما ركز على علاقة التنمية بمرحلة الإنتقال من المجتمع الإقطاعي إلى مرحلة التصنيع، تحت هيمنة الرأسمالية، لكن ماركس تميز بالتركيز على نتيجة ذلك الإنتقال في تغيير الهياكل الإجتماعية. وحاول أن يضع نظريته على أساس حقائق الواقع التاريخي وفاعليتها. في حين اهتم فيبير بدور البيروقراطية والأداء الوظيفي والعلمانية، والتخصص والفوارق، وربط نظريته بمفاهيم مثالية. ولذلك اعتبر ماركس، من قبل كثير من النقاد، ثوريا وواقعيا لربطه مفهوم التنمية بالتغيرات في البنى الإجتماعية، وتأكيده على كونها فعلا ديناميكيا. أما رؤية فيبير فقد اعتبرت ساكنة، تدرجية اصلاحية ومثالية.
العالم الحديث ينشطر إلى رأسمالي واشتراكي
كانت إحدى النتائج المباشرة للثورة العلمية والإكتشافات الجغرافية وتطور المفاهيم الفلسفية الغربية، وقيام الثورات الاجتماعية في أوروبا، انقسام العالم إلى شطرين، شطر صناعي متقدم بما يملكه من قدارات علمية هائلة وثورات اقتصادية كبيرة وفتوة حضارية، وقسم آخر تقليدي متخلف في كافة مجالات الحياة، هو ما يعرف الآن بالعالم الثالث.
وقد انقسم الشطر الأول، المتقدم، بعد ثورة أكتوبر الإشتراكية في روسيا عام 1917م، بشكل حاد إلى نظامين اجتماعيين، الأول رأسمالي يلتزم بالحرية الاقتصادية، والمزاحمة الحرة، ويقدس الملكية الخاصة، ويسترشد بآراء آدم سميث وماكس فيبير كدليل للمناهج الاقتصادية والسياسية التي يسير عليها. ووفقا لفلسفة هذا النظام الاجتماعي فإن التنمية والتطور إنما يتحققان عن طريق التنافس بين الأفراد والمؤسسات واطلاق المبادرات والحوافز المادية، فذلك هو السبيل، من وجهة النظر الرأسمالية، للحصول على النتيجة الأفضل.
أما النظام الاجتماعي الأخر، فيؤمن بسيطرة العمال بقيادة الحزب الشيوعي على كافة وسائل الإنتاج، ويؤمن بأن التنمية الاقتصادية تتم عن طريق التخطيط الاشتراكي الملتزم بتنفيذ الأولويات من المشاريع التي تستجيب لتلبية الحاجات الأساسية للجماهير، ويرفض أن تكون التنمية في المجتمع حاصل فوضى ومضاربات الحرية الاقتصادية، وأن تكون القيمة النقدية للسلع المنتجة خاضعة لقانون العرض والطلب، ويسترشد بالنظرية الماركسية كدليل عمل في قيادة المجتمع والدولة.
وعلى الرغم من التباين الحاد بين النهجين الرأسمالي والاشتراكي فقد اتفقا على أن الطريق الرأسمالي خطوة متقدمة على طريق الإرتقاء بالحضارة الانسانية، وبأنها مرحلة حتمية وضرورية لتجاوز نظام الإقطاع. ففي حين اعتقد الرأسماليون بأن نموذجهم في الحكم سيكون هو النموذج العالمي الأمثل الذي سيتم عن طريقه انتقال المجتمع الاقطاعي في العالم بأسره إلى مجتمع التصنيع والتقدم، فإن الماركسية اعتبرت المرور بمرحلة الرأسمالية، ونقل النموذج الغربي مرحلة “حتمية” من مراحل التاريخ الانساني، وأنها خطوة متقدمة على المراحل التاريخية التي سبقتها. وعلى هذا الأساس، لم يعارض ماركس في ارتباط العالم الثالث بالمعسكر الرأسمالي، وإن كان بصيغ الإستعمار والإحتلال، بل نظر إليه على أنه خطوة إلى الأمام على طريق الإنتقال من المجتمع الاقطاعي إلى عصر الصناعة والتقانة. ونتيجة لهذا التحليل التقى الفكر الماركسي بالتصور الرأسمالي في أن الاحتلال البريطاني للهند سيختزل المرحلة الاقطاعية فيها، وينقلها إلى عالم الصناعة والتطور.
وجد ستالين، فيما بعد، في هذا التنظير مبررا آيديولوجيا للإعتراف بشرعية الوجود الصهيوني في فلسطين. فاستيطان الصهاينة، تبعا لذلك التنظير، عملية اختزال لمرحلة تاريخية، وتعجيل في خلق مجتمع صناعي متطور تنبثق عنه طبقة عمالية قوية تهيء الظروف لخلق الثورة البروليتارية الاشتراكية.
وقد وقف الشيوعيون العرب في سوريا ولبنان والجزائر موقفا مشابها من ذلك حيال استقلال سوريا ولبنان وكفاح التحرير الجزائري، حيث قالوا أن انتصار الجبهة الوطنية في فرنسا على النازية سيوصل الشيوعيين الفرنسيين، بزعامة موريس توريز إلى سدة الحكم في فرنسا، وعندها ستكون سوريا ولبنان والجزائر أجزاء من الدولة الاشتراكية الفرنسية، وستتحول علاقات الانتاج من رأسمالية إلى اشتراكية، وسيختزل هذا الحدث مرحلتين تاريخيتين هما الاقطاع والرأسمالية، بشكل “أوتوماتيكي” هكذا.. وقد بقي هذا التلاقي في النظرة إلى المرحلة الرأسمالية بين الفكرين الرأسمالي الماركسي قائما دونما تغيير.
ويبدو أن فلاديمير التش لينين كان الإستثناء الوحيد بين أقطاب الحركة الماركسية، حيث التزم بموقف مغاير لأقرانه. فقد أصدر في بداية القرن الماضي كتابه الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، مخالفا بذلك الرؤية الماركسية للإستعمار، ورافضا الفكرة القائلة بأن الاستعمار يمكن أن ينقل البلدان المتخلفة التي يحتلها من مرحلة الاقطاع إلى مرحلة الرأسمالية والتصنيع عن طريق استثماره للأموال في البلدان المستعمرة. موضحا أن الاستعمار في سعيه لاحتلال البلدان المتخلفة لا يهتم مطلقا باستثمار أمواله في بناء وتعزيز القدرة الإنتاجية للبلد المستعمر. وأن ما يهمه هو الحصول على المواد الخام، خاصة الحديد والفحم، والمواد الأخرى التي غالبا ما يكون التنافس في الحصول عليها على أشده في البلدان الصناعية المتقدمة, ولذلك فالاستعمار باحتلاله لدول العالم المتخلف الذي تتوفر فيه المواد الأولية يحسم التنافس لصالحه.
ولذلك انتهى لينين إلى التقرير بأن الإستعمار بكل جوانبه ليس عاملا معجلا بالتطور. كما أنه ليس عاملا مسرعا بالثورة الاشتراكية، بل على النقيض من ذلك، فهو أولا يقوم على أساس غير انساني وغير عادل بممارسته للإرهاب والنهب والإستغلال، وبعدم إيمانه بحق الشعوب في الحرية وتقرير المصير، وتخريبه المنظم للعملية الإنتاجية البدائية القائمة في البلد المستعمر عن طريق جعل هذه البلدان سوقا مفتوحة لمنتجاته، بحيث تبقى منتجات البلد المحتل مكشوفة ودون حماية. وهو ثانيا يحقق حالة من الرخاء والانتعاش الاقتصادي في المجتمعات الرأسمالية، مما يخفف من حدة تفاقم الأزمات الإقتصادية فيها. ويخلق بيئة ملائمة للنزعات الإنتهازية المساومة في الحركة العمالية، فتكون النتيجة إعاقة نمو الحركة الاشتراكية والعمالية في البلدان المتخلفة والبلدان الصناعية المتقدمة على السواء.[11]
نظريات التقابل
أدى انشطار العالم الحاد إلى غربي متمدن وعالم ثالث متخلف لقيام مجموعة من الكتاب الرأسماليين الغربيين باستنباط نظريات واستنتاجات عنصرية ترجع أسباب التخلف في العالم الثالث إلى عوامل عرقية أحيانا، وعوامل جغرافية أو دينية في أحيان أخرى. فبرز الحديث عن التفوق العلمي للجنس الآري، وعن جينات مختلفة ترتبط باللون الأسود، وعن اتصاف السكان الذين يعيشون قريبا من خط الإستواء بالخمول والكسل، وأن الإسلام دين محافظ يرفض التطور ويؤمن بالعنف، وأنه نقيض المسيحية التي تدعو إلى العمل والتعاون والحب وتحترم حقوق المرأة. وقد شجع على بروز هذه النظريات والتصورات العنصرية أن أوروبا قد أصبحت بحق، بعد عصر البعث والنهضة، مركز الثقل الحضاري في العالم.
ومن جهة أخرى اهتمت دراسات هؤلاء الكتاب الغربيين بمحاولة تحديد خصائص معينة يميز عن طريقها بين المجتمع الغربي المتمدن، ومجتمع العالم الثالث المتخلف. ووفقا لهذه الدراسات نظر إلى المجتمع التقليدي على أنه يقوم على أساس الاعتقاد بتقاليد اجتماعية موروثة، كدور شيخ القبيلة الذي يرث السلطة عن أبائه وأجداده دونما اعتبار لكفاءته ومقدرته. وأشير بشكل محدد إلى دور العلاقات العشائرية والدينية والطائفية، وإلى هيمنة أفكار متخلفة تعتمد على السحروالشعوذة والدجل. كما نظر إلى المجتمع المتقدم على أنه قانوني عقلاني قائم على أساس الخضوع لقوانين ودساتير مدنية محددة يتفق عليها المجتمع من خلال المؤسسات الديموقراطية الممثلة للشعب. ولذلك وصف هؤلاء المفكرون المجتمع المتخلف بأنه مجتمع بدائي، بدوي، أو ريفي زراعي، ساكن، تقليدي، يسوده حكم الفرد. يقابله مجتمع مدني صناعي متحضر، متحرك، عقلاني، متمدن، يمارس فيه الحكم الديموقراطي، ويفصل فيه، بشكل حاسم، بين الدين والدولة.
وفي مقدمة هؤلاء الكتاب، الذين اهتموا بدراسة خصوصية المجتمعات الحديثة، يبرز السير هنرى ماين الذي قسم المجتمعات إلى نوعين: ساكن، وتعاقدي، وقال بأن التطور يعني الإنتقال من الساكن إلى التعاقدي، ومن مجتمع تقليدي جامد إلى مجتمع مدني عقلاني تربط بين أبناءه علاقة تعاقدية قائمة على اعتبارات خاصة.
بينما قال كاتب غربي آخر هو إميل دورخهايم (1893م) بوجود نوعين من العلاقات الإجتماعية، مكانيكي وهو المجتمع التقليدي حيث يتبادل الناس فيه عواطف عامة. ومجتمع أصليorganic حيث يجري فيه تقسيم خاص حاد للعمل تحكمه المصالح لا العواطف. وقد خالف دورخهايم أقرانه في وصفه للمجتمع التقليدي بالميكانيكية بينما تركز معظم النظريات الغربية على وصف هذا المجتمع بالسكون.
ويلاحظ أيضا، أن معظم النظريات الغربية التي أهتمت بالتمييز بين المجتمع القديم (التقليدي) والمجتمع الحديث (المتقدم) قالت بالتقابل. فوفقا لمعظم هذه النظريات نجد أن مجتمع المدينة يقابله مجتمع الريف أو البداوة، والمجتمع الصناعي يقابله المجتمع الزراعي، والمجتمع المتحضر يقابله المجتمع البدائي، والمجتمع الديناميكي يقابله مجتمع ساكن، والمجتمع العقلاني يقابله مجتمع تقليدي، والحكم الديمقراطي يقابله الحكم الدكتاتوري.
ومن هنا، فإن كل الصفات الإيجابية ارتبطت بحضارة الغرب، فالحضارة الغربية هي وحدها المتحضرة، المتمدنة، الصناعية، الديناميكية، العقلانية والديمقراطية.. ولهذا فإنها مهيئة بإمكانياتها الهائلة أن تنقذ البشرية، وأن تنقلها إلى وضع أفضل، وفقا للمقايس الأخلاقية والحضارية التي اصطنعها فلاسفة الغرب. ومن هنا أيضا قدمت هذه النظريات المبرر الأخلاقي للدول الغربية الصناعية لتبدأ عصر الإمبريالية، حين أوحت بأن خارطة التطور الانساني إنما تبدأ من أوروبا لنشر المدنية في ربوع العالم وتجاوز المجتمعات التقليدية.
وقد كانت الاكتشافات الجغرافية التي قام بها البحارة والمغامرون لبلدان العالم الثالث، وما نتج عنها من معلومات دقيقة، عن مدى ما تختزنه تلك البلدان من ثروات طبيعية كبيرة وطاقات بشرية هائلة، عوامل مشجعة للبرجوازية الفتية لكي تقتحم بجيوشها وأساطيلها هذا العالم تحت أغطية إنسانية وأخلاقية سرعان ما كشرت عن أنيابها، فإذا هي في حقيقتها إحتلال أجنبي ونهب وتخريب منظم لمجتمعات ينظر إليها الأوروبي العنصري المتفوق على أنها مجتمعات أقل ما توصف به أنها بربرية غير متحضرة.
وهكذا، فتحت شعار نقل النموذج الغربي الأمثل، تمت الهجمة الإستعمارية على شعوب أسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية. وبدلا من أن يقدم الغزاة، كما تبشر فلسفتهم، لهذه الشعوب حاصل تجربتهم العلمية وحضارتهم، أقاموا علاقات غير متكافئة معها تمثل دورهم فيها بالسلب والنهب لخيرات هذه البلدان، وجعلها أسواقا كبرى لبضائعهم ومنتجات مصانعهم المتقدمة.
وكانت النتيجة الطبيعية لذلك الاحتلال، تكريس حالة التخلف وترسيخه، وحرمان شعوب العالم الثالث من ثرواتها وخيراتها التي ربما تشكل مستقبلا قواعد اقتصادية متينة، وركائز أساسية في إسناد أي مشروع تنموي طموح قد تتبناه هذه البلدان فيما بعد.
العالم الثالث بين خيارين
أدت تلك السياسات والممارسات الاستعمارية إلى مقاومة شعوب قارات آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية للإحتلال والهيمنة الأجنبية، والمطالبة بالحرية والإستقلال وحق تقرير المصير. فقد شهد القرن العشرين انتفاضات تلك الشعوب وثوراتها للتحرر من القبضة الإستعمارية. وكانت الاحداث التي رافقت الحرب العالمية الثانية، والتي ادت إلى هزيمة الفرنسيين في المراحل الأولى للحرب، وانشغال القوات البريطانية بالتصدي لمحاولات الغزو العسكرية النازية، وما تمخضت عنه هذه الحرب من اتساع رقعة المنظومة الاشتراكية، وشمولها كافة بلدان أوروبا الشرقية، فرصة مواتية لهذه الشعوب لتصعد من نضالاتها ومقاومتها، ولكي ينتزع عدد كبير منها الاستقلال السياسي، ويتخلص من الهيمنة الاستعمارية المباشرة.
وهكذا شهدت مرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين انتصار حركات التحرر في القارات الثلاث وهزيمة الاستعمار القديم. إلا أن عددا من هذه البلدان التي استطاعت انتزاع استقلالها قد حصلت على نوع من الإستقلال المشروط. فقد تم ربط تلك الدول بمعاهدات اقتصادية وعسكرية وسياسية ضمنت تبعيتها للدول التي كانت تمارس احتلالا مباشرا عليها, فبرزت مجموعة دول الكومنولث وحلف المعاهدة المركزية (السنتو)، وحلف جنوب شرق آسيا. وفي بعض البلدان قامت سلطات الاحتلال الإستعماري قبل رحيلها بتسليم السلطة إلى قوى اجتماعية موالية للمحتل، بحيث يسهل عليها ضمان استمرار تبعية هذه البلدان لسياساتها ومناهجها، مفسحة المجال لبروز نمط جديد من الهيمنة والاستغلال وهو ما عرف لاحقا بـ الإستعمار الجديد.
وكانت المهمة الأساسية التي واجهتها شعوب العالم الثالث عشية حصولها على الإستقلال هي التخلص من التركة الثقيلة التي خلفها الاستعمار وراءه، وتحقيق النهوض السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. والبدء فورا بتنفيذ خطط التنمية الشاملة واللحاق بعجلة التطور. وقد كان زعماء هذه البلدان متأثرين إلى حد كبير بنماذج التنمية الأوربية، تحكمهم في ذلك مواقعهم الإجتماعية وثقافاتاتهم وتوجهاتهم السياسية.
وكما أشير سابقا، فقد كان هنالك في أوروبا، نموذجين للتنمية أحدهما رأسمالي والآخر اشتراكي. وكان على الدول المستقلة حديثا أن تختار من بينهما.
وهكذا انقسمت دول العالم الثالث في نظمها الإقتصادية، وتوجهاتها وتحالفاتها السياسية والإجتماعية تبعا لاختيارها لأحد النموذجين. ورغم مضى أكثر من نصف قرن منذ حصلت هذه الدول على الإستقلال وحددت خياراتها في التنمية، فإنها لم تتمكن حتى يومنا هذا من تجاوز واقع التخلف الذي تركه الإحتلال الأجنبي وراءه. فقد بقي الحال كما كان عليه من قبل. فالمجاعات والأمراض والأمية لا تزال تجثم على صدور الملايين من البشر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ونسبة الأمية بقيت مرتفعة بنسب عالية جدا في الكثير من هذه البلدان، والسياسات الاقتصادية استمرت خاضعة لسياسات أصحاب البنوك الأجنبية والدائنين من الدول الكبرى. والحلم الكبير الذي راود شعوب هذا العالم وهي تقارع الاستعمار، في وطن حر كريم ومجتمع سعيد تهاوى تحت مأساوية هذا الواقع. فقد اكتشفت هذه الشعوب، بعد وقت طويل من التحمل والصبر، أن طرق التنمية التي سلكوها لم تقدم لهم الأجوبة المطلوبة للخروج بهم من مآزق التخلف.
فالذين انتهجوا طريق التنمية الرأسمالي، كانوا محكومين، من جهة، بارتباطاتهم وعلاقاتهم بالدول الرأسمالية. كما كانوا متأثرين من جهة أخرى، بالتنظيرات الرأسمالية حول مفهوم التنمية في البلدان المتخلفة، التي برزت في الغرب الرأسمالي خلال خمسينيات القرن العشرين. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى تنظيرات والت روستو في كتابه مراحل النمو الإقتصادي. وقد عرض فيه فلسفته القائلة بأن الدول المتخلفة ستتغلب عن طريق علاقة التكامل مع الأنظمة الرأسمالية المتقدمة، وعن طريق المساعدات والقروض ونقل التكنولوجيا الغربية وتبني النموذج الرأسمالي، على حالة التخلف وستصل إلى مرحلة الإنطلاق Take Off فتصبح دولا صناعية متقدمة.[12]
لقد اعتقد كثير من قادة بلدان العالم الثالث أنهم بتبنيهم للنموذج الغربي في التنمية فإنهم سيتغلبون على حالة التخلف الراهنة التي تعاني منها بلدانهم، وبأنهم سيستطيعون نقل مجتمعاتهم التقليدية إلى مرحلة أكثر تطورا وتقدما. ولربما تبادر إلى أذهانهم أنهم بذلك سيكونون قادرين على أن يصبحوا في فترة قصيرة جدا في عداد الدول الصناعية المتقدمة، وأنهم بعد ذلك سيصبحون قادرين على المنافسة في الأسواق العالمية بمنتجاتهم.
وفات أولئك الحكام إدراك أن مرحلتهم مغايرة كلية من حيث طبيعتها وطريقة تكوينها عن تلك التي تكون فيها النظام الرأسمالي الأوروبي. ذلك أن البورجوازية الأوروبية تنافست في مراحلها الأولى مع الاقطاع من جهة والحرفية البدائية من جهة أخرى. وكان مسار الحركة التاريخية ينبئ بأفول نجم مرحلة الاقطاع. فالانتصارات العلمية التي حققها الانسان، وفي مقدمتها اكتشاف الخلية الحية وتولد الطاقة وقانون الجادبية ونظرية النشوء والارتقاء، وقيام حركة الاصلاح الديني البرتستانية، وانتصار الثورتين الانجليزية والفرنسية، واشتعال الثورات الاجتماعية في جميع أنحاء أوروبا.. كانت إيذانا بأن فجرا جديدا للانسانية قد بزغ، وأن مرحلة الاقطاع في أوروبا تهاوت مفسحة المجال لطبقة فتية وجديدة لتأخذ مكانها في مسيرة التاريخ الانساني، تلك هي طبقة أرباب الصناعة وأصحاب المال.
أما في العالم الثالث، فإن دعائم النظام الاجتماعي القديم لا زالت قائمة، فالعلاقات البطركية لا زالت السائدة في عموم البلدان المتخلفة،[13]والطبقة البورجوازية التي نشأت في أحضان الإستعمار لم تؤثر إيجاببا في تطوير العملية الانتاجية، بل اقتصر فعلها على دور الوسيط بين أصحاب المصانع في أوروبا والمستهلكين في بلدان العالم الثالث.
وفي ظل وضع كهذا، فإننا لو سلمنا جدلا بوجود نيات خالصة لدى أصحاب القرار في الدول النامية للعمل من أجل تحقيق التنمية والتطور، فإن التنافس بين منتجاتها ومنتجات الدول الصناعية المتقدمة هو تنافس غير متكافئ من حيث الكم أو النوع، خاصة اذا علمنا أن دول العالم الثالث ستبقى لمراحل طويلة بحاجة إلى استيراد المعدات التكنولوجية من الدول الصناعية المتقدمة، الشيء الذي يعني أن تلك الدول ستبقى مالكة لزمام المبادرة، بما يضمن تبعة اقتصاد دول العالم الثالث لمصالحها وسياساتها.
إن وضع الدول المتخلفة الرامية إلى تقليد النموذج الرأسمالي الغربي، في الحالة هذه، هو أشبه بوضع لاعب شطرنج مبتدئ ينازل لاعبا محترفا بتقليده لحركاته، ناسيا أن اللاعب المحترف يملك أولا حق النقلة الأولى، ويملك ثانيا، الخبرة التي تمكنه من تحريك البيادق وتوجيه ساحة اللعب بالطريقة التي تضمن انتصاره، وثالثا، فإن الخصم هو الذي يبدأ بضربة “الكش” قتل الملك. ولهذا فإن النتيجة المحتمة خسارة اللاعب المبتدئ..
هكذا كان وضع الدول المتخلفة التي حاولت نقل النموذج الاقتصادي الغربي وتنفيذه في مجتمعاتها، وهو حال يستحق الرثاء على أية حال.
أما دول العالم الثالث التي انتهجت الطريق الاشتراكي فإنها بحكم الإنتماءات الاجتماعية والطبقية لقادتها لم تكن مهيئة للسير في الطريق الإشتراكي الديموقراطي، ولذلك اقتصرت عملياتها في هذا الاتجاه على التأميم ونقل ملكية وسائل الانتاج للدولة. وبذلك تحول النظام الرأسمالي من ملكية الأفراد إلى رأسمالية الدولة، وبقيت علاقات الانتاج قائمة كما كانت من قبل، مع فارق أن الدولة هي التي تقوم في ظل هذا النهج بدور السيد البورجوازي.
وكنتيجة طبيعية لعجز مؤسسات الدولة وهيمنة كابوس البيروقراطية الثقيل على دوائرها، فقد انعكس هذا العجز على القدرة الانتاجية والنوعية للقطاع العام، مما أدى إلى شل فاعليته وعجزه، ومن ثم إلى سيادة حالة من الركود والجمود في كل الفعاليات الاقتصادية التي تشرف الدولة على تسييرها.
وقد أدت تلك الحالة إلى قيام معظم قادة تلك الدول بمراجعة سياساتها ومناهجها الاقتصادية، والعودة إلى تشجيع القطاع الخاص وفتح الباب على مصراعيه أمام الإستثمارات الأجنبية، لتقضي على البقية الباقية من نشاط القطاع الاقتصادي العام الذي تم وضعه، بعد الانفتاح في تنافس غير متكافيء مع قطاع خاص واستثمارات أجنبية أكثر خبرة وحيوية وأدق تنظيما فكانت النتيجة سقوط هذه البلدان التدريجي في شرك التبعية للنظام الاقتصادي العالمي والتراجع عن نهج التحرر والاستقلال.
اضافة إلى ذلك، فان اختيار تلك البلدان للطريق الاشتراكي وضعها في مواجهة مباشرة، غير متكافئة، مع النظام الرأسمالي العالمي، الذي يملك من الخبرة والثروة ما يجعله قادرا باستمرار على التخريب، إما بالتنافس الإقتصادي أو عن طريق الغزو الخارجي والتآمر وتفتيت تلاحم النظام من الداخل. وكانت تلك الأنظمة بحكم ضعف مواردها الإقتصادية والبشرية تفتقد الأساس الإقتصادي والمادي لبناء تنمية حقيقية.
مدارس التخلف والتبعية
دفع هذا الواقع المأساوي بمجموعة من المفكرين التقدميين الذين اهتموا بقضايا التنمية في بلدان العالم الثالث إلى دراسة وتحليل معوقاتها في تلك البلدان، والخروج ببعض الأطروحات النظرية التي تعالج طبيعة علاقة البلدان المتخلفة بالنظام الاقتصادي العالمي، ومحاولة طرح بعض التصورات للخروج بها من مأزق التخلف الراهن.
فقد ناقش الكاتب بوب سانكليف هذا الموضوع في دراسة كتبها تحت عنوان “الامبريالية والتصنيع في العالم الثالث” مؤكدا على أهمية استقلال عملية التصنيع في البلدان النامية، بحيث لا تصبح فرعا لصناعة اقتصاد آخر، وإنما يجب أن تنطلق فكرة استقلال التصنيع من أصوله وقواه المحركة، وأن تنبع وتصان من قبل قوى اجتماعية واقتصادية في داخل البلد المصنع. ويحدد سانكيف خصائص التصنيع المستقل فيقول
وللتصنيع المستقل خصائص بارزة إضافة إلى الأسواق، منها ما يتعلق ببيئة الإنتاج الصناعي. فالصناعة لا يمكن اعتبارها مستقلة تماما ما لم يحتو البلد المعني داخل حدوده على مجموعة متنوعة بضمنها صناعات السلع الرأسمالية الإستراتيجة اقتصاديا، وتتعلق السمة الأخرى للإستقلال بمصدر تمويل الصناعة المحلية، فرأس المال الأجنبي يتوقع منه عادة تقويض الاستقلال. أما العنصر الآخر في مفهوم الإستقلال الإقتصادي فإنه يرتبط بالتكنولوجيا. فالتقدم التكنولوجي المسقل المتمثل في القدرة على نسج وتطوير وتكييف التكنولوجيا المتلائمة مع موارد البلد هو أحد الشروط الرئيسية للتصنيع، أما الشرط الآخر فيتمثل في القدرة على تطوير التكنولوجيا بشكل تتمكن فيه الصناعة المحلية من تلبية طلب السوق الداخلية، وهذا بدوره يتطلب زيادة في رؤوس الأموال، ومقدرة على منافسة المنتجات الأجنبية.[14]
ويقارن سانكليف بين الظروف التي حدثت فيها عملية التصنيع في الدول الغربية وبين تلك التي حدثت في العالم الثالث، فيشير إلى أن أوروبا استطاعت بناء وتعزيز صناعاتها من خلال نهبها للجزء المتخلف من العالم، بتحويل رأس المال الكامن، مستخدمة إياه في تمويل الصناعة الأوروبية، وفي نفس الوقت قامت الإمبريالية الأوروبية بالإستيلاء على الأسواق. أما في البلدان المتخلفة فقد كان على رأس المال أن يتنافس في الأسواق ليس مع الإنتاج الحرفي التقليدي وغير الكفؤ فحسب، بل أيضا مع انتاج أكثر المشاريع الصناعية تطورا في البلدان الرأسمالية المتقدمة. ولذلك فإن الصناعة في البلدان المتخلفة تواجه صعوبة بالغة ليس في اقتحام الأسواق المحلية فحسب، حيث لا تتوفر وسائل حماية كافية، بل تواجه صعوبة أكثر من ذلك في اقتحام الأسواق الأجنبية، خاصة أسواق الدول الرأسمالية المتطورة التي من البديهي الافتراض أن يكون تركيب أنظمة التعرفة فيها مصمما لصالح الرأسماليين أنفسهم.[15]
يضاف إلى ذلك، أن جانبا كبيرا من تجارة البلدان المتخلفة لم يكن سوى تحويل للسلع بين فروع متكاملة عموديا لمنشآت دولية. ولذلك فإنها مجرد معاملة داخل تلك المنشآت، لاتخدم حركة الإقتصاد في العالم الثالث، بل إن ضررها أكثر من نفعها كونها تؤدي إلى تقليص الفائض الاجمالي للبلد المتخلف، من خلال اتسامها بأسعار تحويلية لا يكون في الغالب بينها وبين أسعار السوق القائمة للمنتجات أية صلة.[16]
ومن جهة أخرى، عالجت أطروحات الكاتب اندريه جندر فرانك في نظريته عن التخلف علاقة المركز Metropolises (النظام الغربي الرأسمالي) بالتوابع Satellites (دول العالم الثالث). فأشار إلى أن واقع التخلف الراهن لبلد ما، ما هو الا النتيجة التاريخية للعلاقات الاقتصادية وغير الاقتصادية المستمرة بين هذه البلدان وبين البلدان الصناعية المتقدمة حاليا، والتي تشكل جزءا جوهريا من بنية وتطور النظام الرأسمالي على صعيد العالم كله، فالنمو السريع الذي تم في الدول الغربية حصل على حساب نهب ثروات شعوب البلدان المتخلفة.[17]
وهكذا يربط فرانك موضوعيا بين سيطرة الرأسمالية الإحتكارية والإمبريالية في البلدان المتقدمة، وبين التخلف الإجتماعي والإقتصادي في البلدان النامية، داحضا الفكرة الخاطئة القائلة بأن تنمية البلدان والمناطق الأكثر تخلفا لن تتم أو تحفز دون أن تتسرب إليها رؤوس الأموال والمؤسسات والقيم.. ومن المتروبولات الرأسمالية الدولية والوطنية. موضحا أن الآفاق التاريخية المستندة إلى تجارب البلدان المتخلفة توحي بالعكس من ذلك، اذ لا يمكن حدوث تنمية اقتصادية في البلدان المتخلفة إلا بفك ارتباطاتها بالقوى الإمبريالية، والحيلولة دون تمكين رؤوس الأموال الأجنبية ومؤسساتها وقيمها من التسرب.[18]
والحقيقة أن فرانك في تحليله هذا قد رفض النهجين الماركسي الأرثوذكسي والرأسمالي “الروستوي”[19] في مفهوم التنمية في البلدان المتخلفة، حين اعتبر العلاقة مع النظام الرأسمالي العالمي عاملا رئيسيا من معوقاتها.
أما الكاتب سمير أمين فقد ناقش هذه القضية من زاوية أخرى، فقد لاحظ أن جميع الدول على اختلاف اتجاهاتها، وسواء كانت رأسمالية أو اشتراكية فانها مرتبطة بدرجات مختلفة بنظام تجاري ومالي عالمي، فالجميع يخضع لسوق عالمي واحد، هو السوق الرأسمالي العالمي بما فيه الأنظمة الأشتراكية، على الرغم من أنها ليست جزءا من النظام الرأسمالي العالمي. فالنظام الاقتصادي العالمي يعتمد على التراكم، وتمديد العملية الانتاجية التي هي ركيزة أساسية في علاقات الانتاج الرأسمالي، وربما ينطبق ذلك أيضا على طبيعة الانتاج الاشتراكي السائد الآن.
ولهذا رفض النظر إلى وضع التخلف السائد في العالم الثالث على أنه مشابها للتخلف الذي كان سائدا في العالم المتقدم قبل مرحلة التصنيع. فالتخلف السائد الآن، كما يراه أمين، يرتبط تاريخيا بعلاقة بلدان العالم الثالث بالنظام الاقتصادي العالمي. فهو اذن ليس مجرد حالة اعتيادية، ولكنه النتيجة المباشرة للعلاقة التجارية غير المتوازنة بين البلدان المتخلفة والدول الصناعية المتقدمة.[20]
وقد توافقت تحليلات أرغيري عما نويل مع آراء سمير أمين في وجود علاقة غير متكافئة بين المركز والمحيط. معتبرا أن التخلف السائد في بلدان العالم الثالث هو النتيجة الطبيعية لتأثير أشكال الانتاج الرأسمالي، وأسلوب هذه الطبقة في التعامل التجاري القائم على تحطيم الصناعات الحرفية في البلدان المتخلفة، وعدم تمكينها من بناء بدائل عنها، بحيث يتم الاعتماد كليا على استيراد البضائع من المركز الذي هو العالم الصناعي المتقدم. وفي أحسن الحالات فإن محاولات التصنيع في بلدان المحيط (الدول المتخلفة) لا يسمح لها أن تتجاوز بعض الصناعات الإستهلاكية الخفيفة. بحيث تكون النتيجة المنطقية لهذا السلوك ربط هذه البلدان بالنظام الإقتصادي الرأسمالي.
أما الكاتب البرازيلي دوس سانتوس Dos Sanotsفقد عرف التخلف الراهن على أنه الحالة التي يكون فيها اقتصاد بلد ما متأثرا وتابعا لوضعية اقتصاد بلد آخر حيث يكون الأول ضحية للنمو الاقتصادي في الثاني، وتكون العلاقة بينهما غير متكافئة، وحيث يستطيع القوي التأثير على الضعيف.[21]
تلك كانت خلاصة سريعة جدا لآراء أهم المدارس التقدمية التي اهتمت بدراسة موضوع التنمية في العالم الثالث، المعروفة الآن في العلوم السياسية والإجتماعية بنظرية التبعية Dependency ونظرية التطور اللامتكافيء Uneven Development وبإمكاننا، من خلال هذه القراءة السريعة تسجيل أن هذه المدارس استطاعت أن تقدم تصورا أعمق وعيا وأكثر دراية لطبيعة المشاكل التي تواجه العملية التنموية في البلدان المتخلفة يمكن تلخيصه في:
1- عالجت هذه المدارس موضوع الإقتصاد في البلدان المتخلفة ليس كوحدة مستقلة وإنما عن طريق ربطه بالنظام العالمي، داحضة النظرية القديمة للعلاقات الدولية القائلة بتجانس وتكافؤ العلاقات بين الدول، وأن الصراع بينها أشبه بصراع بين فريقي كرة قدم، حيث يمتلك كل فريق أدواته واستراتيجيته الخاصة، دون النظر بعمق إلى أن هذا التنافس هو منذ البدء تنافسا غير متكافيء.
2- غيرت هذه النظريات من طبيعة الفهم السائد سابقا عن العلاقة بين البلدان الصناعية المتقدمة والبلدان المتخلفة من توافق وانسجام وتكامل إلى اضطهاد وصراع وقسر، كمحركات أساسية في الإقتصاد السياسي، مشيرة إلى الامبريالية كمرحلة عصيبة ومقيدة لانطلاق التنمية في بلدان العالم الثالث.
3- أثبتت نظريتي التبعية والتطور اللامتكافيء بالتحليل الموضوعي وعن طريق الدراسة العلمية أن ثبوت نظرية اقتصادية أو برامج عمل تنموي، في بلد ما ولحقبة تاريخية محددة، لا يعني بالضرورة إمكانية نقل هذه النظرية أو هذا البرنامج إلى بلد آخر أو مرحلة مغايرة. فما هو صالح الآن قد لا يصلح للغد، وما نستطيع تطبيقه في هذا البلد قد لا نستطيع تطبيقه في البلد الآخر.
4- دحضت هاتين النظريتين التصور الماركسي (الأرثوذكسي) القديم للتغيرات التاريخية والاجتماعية، حيث أثبتت عدم امكانية نشوء طبقة عمالية منتجة في بلدان العالم الثالث، نتيجة للعلاقات غير المتكافئة مع النظام الرأسمالي العالمي، واعتبرت انتظار نشوء هذه الطبقة أمرا غير منطقي وغير صحيح، وأن الخيار الوحيد أمام شعوب العالم الثالث لتحقيق تقدمها وتطورها هو فك ارتباطاتها بالنظام الإقتصادي العالمي، وانتهاج سياسة اقتصادية مستقلة.
5- دحضت هاتين النظريتين أيضا الأفكار العنصرية التي قال بها بعض الكتاب الغربيين والقائلة بأن مصدر فقر دول العالم الثالث هو اتصاف شعوبها بالكسل والخمول، والتزام هذه الشعوب بقيم ومعتقدات خاطئة. فقد ربطت هذه النظريات، بين علاقة التخلف في بلدان العالم الثالث، وبين النظام الإقتصادي الرأسمالي العالمي السائد.
نستطيع أن نستخلص من هذا الاستقراء السريع لمناهج التنمية الغربية، والمعالجات التي اهتمت بموضوع التخلف في العالم الثالث أن خيارات الدول النامية، وبضمنها الوطن العربي في التنمية والتطور في ظل الواقع الراهن هي خيارات محدودة وضعيفة، خاصة إذا واجهت هذه الدول مهام التخطيط والاضطلاع بمهام الخروج من هذا المأزق منفردة. وتصبح هذه الخيارات أضعف كثيرا حين يتعلق الأمر بالبلدان الصغيرة التي تفتقد الطاقات البشرية والموارد المالية والقواعد الاقتصادية المطلوبة لتنفيذ برامج التنمية.
بمعنى آخر، يمكن القول إن اضطلاع الدول الصغرى بمهام التنمية ومواجهة تحديات العصر، والحفاظ على الحرية والاستقلال في ظل النظام الاقتصادي العالمي السائد الآن أمرغير ممكن. ومن هنا فان التجزئة القائمة الآن في الوطن العربي هي التكريس الأساسي لواقع التخلف، والضمان لتبعية الوطن العربي بأسره للهيمنة الاقتصادية الأجنبية، مهما قيل عن خطط تنموية لتغيير واقع الحال.
ولا يهدف هذا التقرير من جانبنا الإنتقاص من صدق القائمين على برامج التنمية في وطننا أو التشكيك في حسن نواياهم. كما لا يهدف إلى خلق حالة من اليأس والاستسلام. فواقع الوطن العربي الراهن وصورته الحاضرة ، أبلغ شاهد على صحة استنتاجاتنا هذا.
فلقد قاتل الشعب العربي في معظم أقطاره من أجل الحرية والاستقلال، ومع بداية الستينيات تمكنت معظم الأقطار العربية من طرد الاستعمار المباشر من أراضيها، وأصبحت أعضاء في الأسرة الدولية، بما في ذلك هيئة الأمم المتحدة وكتلة عدم الانحياز.. وقد مرت أكثر من أربعة عقود منذ أن انتزعت هذه الأقطار استقلالها، ومع ذلك لا زالت التركة الثقيلة التي خلفها الاستعمار وراءه باقية على ما هي عليه، وقد بقيت معظم الأقطار العربية ترزح تحت نير الفقر والتخلف والتبعية.
ولربما اعترض البعض علينا واتهمنا بالإغراق في التشاؤم، ورسم صورة سوداوية فيها الكثير من الظلم والتجني على واقع استطاع صانعوه تجاوز الكثير من المعوقات.. واقع تبشر مؤشراته بغد واعد ومجتمع أفضل.. ولكي لا يكون هناك ظلم أو تجني أو إغراق في التشاؤم دعونا نتحاكم بلغة الوقائع والأرقام لنرى ان كانت استنتاجاتنا مبنية على حق أو على باطل.
الوطن العربي رازحا تحت التجزئة
تتمثل ثروة الوطن العربي في المحل الأول في احتياطه من البترول والغاز الطبيعي، حيث تقدر نسبة هذا الاحتياطي بـ 50% من احتياطي العالم.[22]
وعلى الرغم من أن نسبة سكان الوطن العربي إلى إجمالي سكان العالم تزيد في أقل تقدير على 3.5% فان الناتج الإجمالي من الدخل القومي لا يصل في أكثر التقديرات إلى 5% من الناتج الإجمالي في العالم.[23] بل ان بعض الإقتصاديين العرب قالوا بعدم تجاوز ذلك الناتج 1.1% من الناتج الاجمالي العالمي.[24] ولهذا فان الدور النسبي للاقتصاد العربي ما يزال ضئيلا في التجارة الدولية.
ويختزن الوطن العربي في باطنه وعلى أرضه ثروات طبيعية ضخمة، إضافة إلى المخزون الاحتياطي الهائل من النفط. أما ثروة الوطن العربي من الطاقة الشمسية فتصل إلى أرقام فلكية.
والمؤكد أننا لم نستطع حتى الآن استغلال الثروات الطبيعية الموجودة لدينا، فنحن في الغالب لا نستغلها على الإطلاق، وإذا ما تم استغلالها فان ذلك يحدث بكفاءة ناقصة إلى حد بعيد. فنسبة مساحة الأرض القابلة للزراعة في الوطن العربي لا تزيد حتى الآن على 3.7% من المساحة الكلية في مقابل 6.7% بالنسبة للعالم ككل.[25] والزيادات التي تضاف من الأرض القابلة للزراعة هي أقل بكثير من معدل زيادة سكان الوطن العربي، حيث ينمو عدد السكان بمعدلات عالية نسبيا تصل إلى 3% بحيث يتوقع أن يكون عدد سكان الأمة العربية قد تجاوز 300 مليون نسمة الآن. ومن الملاحظ أن المساحة المستغلة من الأرض في الزراعة تستغل بكفاءة محدودة، وبطريقة بدائية، فلا يأتي منها الا عائد متواضع، بل إن طريقة الاستخدام هذه تؤدي إلى إجهاد الأرض في بعض الحالات لتصل إلى ما دون حديتها الانتاجية.[26]
وعلى الرغم من أن نصيب الوطن العربي من المراعي بالنسبة لنصيب العالم ككل (9%) هو ضعف نسبة سكانه إلى اجمالي سكان العالم (7و3%) فإن البلدان العربية تستورد أكبر جانب من حاجتها إلى اللحوم، ويزيد ما تستورده سنة بعد سنة تقريبا.
ومع أن سواحل الدول العربية تمتد عشرات الآلاف من الكيلومترات، وعلى مجموعة من البحار والخلجان والمحيطات، كما تمتد أنهارها عدة آلاف من الكيلومترات، فان الثروة السمكية والمائية، تكاد تكون غير مستغلة، اذا استثنينا الاستغلال البدائي في أدواته والعائد منه. ففي مصر، التي تقع على البحر البحر الأحمر والبحر المتوسط، ويخترق نهر النيل أراضيها من الجنوب إلى الشمال، لا يتجاوز متوسط صيد الأسماك سبعة كيلو جرامات للفدان الواحد سنويا، في حين أن متوسط إنتاج المصائد العالمية خمسمائة كيلو جرام للفدان. وتعاني المنطقة العربية والطبقات الفقيرة بالذات من نقص شديد في البروتينات، فمتوسط نصيب المواطن المصري، مثلا من الأسماك سنويا 3.7 كيلو جرامات فقط في حين أن المتوسط العالمي لنصيب الفرد منها 150 كيلوجراما.[27]
أما بالنسبة لقوة العمل، فإننا اذا استبعدنا الدول البترولية التي يعتمد معظمها على قوة عمل مستوردة لتلبية حاجة سوق العمل التي لم تتعد قطاعات الخدمات حتى الآن، فسوف نجد أن أكثر من 5% من القوة العاملة في الدول العربية تعمل في قطاع الزراعة، وتصل النسبة إلى ما يزيد على 80% في بعض الحالات (الجمهورية العربية اليمنية مثلا). والجانب الباقي من قوة العمل لا تعمل في مجال الصناعة. وحتى في أكثر الدول العربية تقدما في مجال التصنيع، كجمهورية مصر العربية، فإن عدد العمال الذين يعملون في قطاع الصناعة التحويلية، أقل من 15% من قوة العمل، أما الجزء الباقي فيذهب إلى قطاع الخدمات. وعلى كل، فان نسبة من يعملون في قطاع الصناعة على مستوى الوطن العربي لا تتجاوز 10% من مجموعة القوة العاملة.[28]
ومن ناحية أخرى فإن الموارد الضخمة المتأتية من إنتاج النفط أدت إلى عدم الإهتمام بتنمية قطاعات الإقتصاد الأخرى، وكانت نتائج ذلك خلق ما يسمى بالثنائية التكنولوجية المتمثلة في وجود قطاع إستخراجي متقدم، بل على أعلى درجة من التطور، في وسط بحر من التخلف التكنولوجي والزراعة التقليدية الهادفة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي أو للإستهلاك المحلي على أحسن تقدير، وذلك على الرغم من الحقيقة المرة التي يعرفها الجميع وهي أن الثروة النفطية مهما بلغت من ضخامتها فإنها سوف تنضب في وقت من الاوقات.[29]
وحول نسبة الأمية في الوطن العربي، فإن أكثر من 70% من العرب الذين يزيد سنهم عن عشر سنوات أميون. ويصبح الأمر أسوأ بكثير من ذلك حين يتعلق الأمر بالمرأة العربية، حيث تصل نسبة الأمية في صفوف النساء العربيات لـ 85%.[30]
أما المتعلمين من أفراد الشعب العربي، فإن نسبة انتاجيتهم الإقتصادية إلى حجم الإستثمار المالي في التعليم والثروة التعليمية، توضح علاقة غاية في التشوش. فالعلاقة الطردية غير متوازنة أبدا بين الإنتاجية الإقتصادية وكم الثروة التعليمية، قياسا بمستوى سنوات التعليم للفرد. وفي أقطار الخليج العربي، تكاد تنعدم بشكل كامل العلاقة بين الثراء والتعليم والإنتاجية الإقتصادية، بحيت يبدو أي منهم يسير في خط مستقل بمعزل عن العوامل الأخرى.[31]
وتبلغ وفيات الأطفال في الوطن العربي في المتوسط 120 من كل 1000 مولود، بينما تبلغ هذه النسبة 15 فقط من كل 1000 مولود في البلدان المتقدمة. وفي منتصف السبعينيات فإن 20% فقط من كل العرب هم الذين اعتبروا خالين من أمراض مثل التراخوما والبلهارسيا والسل وسوء التغدية والأمراض التناسلية وأمراض الأسنان وأمراض أخرى، وهذا يعني ببساطة أن حوالي 80% من العرب يعانون من مرض أو أكثر.[32]
ويواجه الوطن العربي اختلالات سكانية كبيرة، تتفاقم يوما بعد يوم، وتنذر بمخاطر مصيرية.[33]وتتمثل هذه المشكلة في وجود كثافة سكانية عالية، في دول عربية ذات مصادر اقتصادية وموارد مالية محدودة، في حين تقوم الأقطار العربية ذات الكثافة السكانية المتدنية إلى جلب حاجتها من العمالة من الأسواق الآسيوية بأعداد كبيرة جدا. وقد ساعد على تفاقم هذا الخلل، بروز أنماط من الإحتياجات الإستهلاكية الهامشية التي تعتمد على العمالة الوافدة، خاصة في منطقة الخليج العربي.
فعلى سبيل المثال، تشير ورقة للدكتور على الكوراي، نشرت في مجلة المستقبل العربي إلى أن سكان قطر في عام 1993م قدر بـ 559 ألف نسمة، بلغ عدد القطريين منهم 126 ألف نسمة، والعرب 106 آلاف نسمة، والأجانب 227 ألف نسمة. وبنهاية عام 1995 ناهز عدد السكان الـ 600 ألف نسمة، يبلغ عدد المواطنين منهم الخمس فقط، في حين يشكل الوافدون أربعة أخماس السكان، على الرغم من أن نحو نصف المواطنين هم من المتجنسين الجدد.[34]وتلقي هذه الإختلالات ظلالا مخيفة على الهوية والأمن القوميين.
وفي الجانب الآخر، تهاجر إلى الخارج، نسبة كبيرة من الكفاءات العربية، من الأقطار الفقيرة ذات الكثافة السكانية العالية. فعلى سبيل المثال، تشير ورقة لـ عثمان الحسن محمد نور ومختار أبراهيم عجوبة، صدرت عن مجلة المستقبل العربي تحت عنوان هجرة الكفاءات السودانية في قطاع التعليم العالي: دراسة في الدوافع والآثار واحتمالات العودة، إلى أنه خلال الربع الأخير من القرن المنصرم أخذت هجرة الكفاءات العلمية والمهارات الفنية السودانية تزداد بصورة ملحوظة، مما أدى إلى نقص الكفاءات في كثير من النشاطات الإقتصادية والقطاعات المهنية. بل لا تكاد توجد مهنة واحدة من مهن الكفاءات العلمية والفنية في السودان، إلا وتأثرت بذلك النوع من الهجرة. فقد شملت الهجرة أساتذة جامعات وأطباء ومهندسين وفنيي المعامل والأشعة وفنيي معالجة المعلومات والوثائق والتخدير والإقتصاديين والزراعيين والإداريين وغيرهم.[35]
وتشير الورقة إلى أن جامعة الخرطوم وحدها قد خسرت في الفترة من 1974-1979 حوالي 148 أستاذا عاد منهم عشرون استاذا فقط خلال الفترة نفسها. ويمثل من تبقى في الخارج منهم 24% من جملة أساتذة الجامعة نفسها عام 1979م. وقد ازدادت هذه النسبة في السنوات الأخيرة نتيجة لازدياد الطلب على الأساتذة السودانيين من قبل الجامعات الخليجية. حيث بلغ عدد الأساتذة السودانيين في جامعة الملك سعود بالرياض فقط في العام الدراسي 1996- 1997م، 172 استاذا ومحاضرا.[36]إضافة إلى ذلك، تحدثت تقارير حكومية في منتصف عام 1997م، عن أن هناك ثلاثمائة مبعوث للدراسات العليا في الخارج بمختلف التخصصات أنهوا دراساتهم ولم يعد منهم إلى السودان سوى نسبة لا تزيد على الـ 20%.[37]
وقد تسببت هجرة الأدمغة في إلحاق ضرر كبير في الأقطار العربية، فهي بالإضافة إلى حرمان تلك الأقطار من تلك الكفاءات تسببت في خسارة ومشاكل اقتصادية في البلدان التي هاجرت منها، يأتي في المقدمة منها التكلفة الحضارية التي تكبدتها الثروة القومية، والتي هي ملكية عامة للمجتمع العربي، من أجل تكوين وتعليم المهاجر.
ومما لاشك فيه أن فقدان التنسيق بين بلدان الوطن العربي وغياب التخطيط القومي هو أحد الأسباب الرئيسية لهجرة القوى العاملة لخارج الوطن العربي. ففي منتصف السبعينيات كان هناك ما يقرب من 1.5 مليون عامل عربي في أوروبا وأمريكا الشمالية واستراليا أي حوالي 5% من قوة العمل العربية. وفي نفس الوقت كانت دول البترول الغنية تشكو من قلة عدد السكان، وتعاني من النقص المزمن في القوى العاملة. وكانت تستورد الأيدي العاملة من الهند وكوريا والفلبين وسيرالانكا، أما الخبراء فكانوا يستقدمون من أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية في الغالب.
أما معدلات النمو الاقتصادي في الوطن العربي، فإنها محكومة بعوامل معوقة عديدة، فهناك نقص في القدرة على البحث والتخطيط في المجال الاقتصادي والاجتماعي، وفي مجال الادارة والتكنولوجيا. ففي عام 1970م كان أقل من 1 من كل 10000 عربي يعمل في مجال البحث والتنمية في حين نجد أن هذه النسبة ترتفع إلى 26 شخصا من كل 10000 مواطن في الولايات المتحدة الامريكية، وينطبق هذا الواقع المؤلم على حالات أخرى، فهناك نقص في البراعة في اختيار الأولويات، والتكنولوجيات التي تقود إلى أنماط أفضل في توزيع الموارد.[38]
وفيما يتعلق بالمشاركة السياسية من جانب مختلف قطاعات الشعب، وهو الأمر الذي من شأنه أن يساعد على إضفاء مضمون ديموقراطي على عملية التنمية، إذا ما شاركت هذه القطاعات في صنع القرار السياسي، فإن سجون ومعتقلات الأنظمة العربية، وعمليات الإغتيال والمطاردات السياسية للمناضلين العرب في كل مكان، وغياب حرية الصحافة والإعتقاد والتعبير أدلة أكيدة على الغياب الكلي للتوجهات الديموقراطية، وسيادة الأنظمة الديكتاتورية في معظم الأقطار العربية. وقد جاءت الحرب الأهلية اللبنانية لتقضي على التجربة الفريدة للنمط الديموقراطي الغربي التي كانت سائدة حتى منتصف السبعينيات.
ولذلك يمكن القول أن الأنظمة العربية، في معظمها، تعيش أزمة شرعية كونها تحكم بقوة الأمر الواقع دون أساس يقوم عليه بنيان سياسي يكفل سهولة الحركة ويسرها. ويشير الأستاذ محمد حسنين هيكل إلى نتائج ذلك بقوله
ولعل ذلك يفسر جزءا من اختناقات الفكر والعمل في العالم العربي، مما أعطى فرصة لهبوب عواصف من السخط والغضب. ثم أن أزمة الشرعية لاتقتصر على السلطة وإنما هي تمد ظلها إلى مشروعية الثروة. فهناك ثروات في العالم العربي لا تبدو مبررة أو مستندة إلى حق طبيعي بالإرث أو مكتسبة بالعمل. وهذه تبدو قضية بالغة الحساسية خصوصا إذا تذكرنا أن الشرعية في أساسها قبول طوعي وليست فرضا بالقسر، وإلا فإن السخط والغضب السياسي يمكن أن يلحق بهما سخط وغضب اجتماعي. وهذه شحنة خطرة لا تستطيع أن تتحملها مجتمعات هشة لم تترسخ فيها بعد سيادة الدساتير والقوانين.[39]
ومع أن دخل الوطن العربي من ثرواته المتعددة قد بلغ خلال الربع قرن المنصرم ما يقدر بـ 4 تريليون دولارا، فإن ما صرف منها في مشاريع البنية التحية إلى جانب بعض مشروعات الخدمات والإنتاج لم يتجاوز تريليونا واحدا. ويقدر ما صرف على السلاح بمثل هذا المبلغ. وهو مبلغ لا يجادل أحد في ضخامته، لكنه عجز في واقع الحال عن حماية الأمن الوطني للأقطار التي أغرقت مستودعاتها به. أما المتبقي من الدخل فمن المؤكد أنه تم صرفه في مواجهة النفقات اليومية لأجهزة الدولة البيروقراطية، ومؤسسات القمع من أمن ومخابرات. كما ذهب قسم وفير منه في صفقات فساد احتيالية هنا وهناك.[40]
أما حول علاقة الأقطار العربية مع بعضها البعض فيمكن القول أن حركة التنمية والتصنيع في الوطن العربي جرت مند البدء على أساس قطري بحت، ودون تفكير في تحقيق أية درجة، مهما كان مستواها، من التنسيق أو الترابط الصناعي فيما بينها. وقد ساد هذا الاتجاه القطري منذ محاولات التصنيع المبكرة نسبيا، والتي حدثت في أقطار عربية مثل سوريا والعراق ومصر بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تتبدل هذه السياسة حتى بعد موجة التنمية التي بدأت في الأقطار العربية النفطية بعد سنة 1973م، إثر التصحيح النسبي في أسعار النفط. فقد قامت الأقطار ببناء صناعات متشابهة بالرغم من أن الإستهلاك القطري لغالبية منتجات تلك المشاريع تقل عن الطاقة الإنتاجية لكل مشروع.[41]
وكانت النتيجة أن خطط التنمية هذه قد جرى الإعداد لها بمعزل عن بعضها، ولذلك لم تحمل أية اتجاهات مواتية لقيام أواصر كافية لتطوير التعامل والتلاحم بين الإقتصادات العربية، بل ان هذه الحركاրª الإنمائية، بالعكس مما هو مطلوب منها، حملت اتجاهات مضادة، منافية للتكامل الإقتصادي الجماعي بين الأقطار العربية.
وقد أدى انعدام التنسيق بين الدول العربية، وتماثل هياكلها الإقتصادية، وانعدام الإستقرار السياسي بصورة مزمنة في عديد من الأقطار العربية إلى تميز التبادل التجاري بينها بالضعف الشديد، ففي المدة 1974م- 1978م لم تتجاوز نسبة ما اتجه من صادرات الدول العربية إلى بعضها عن 5% من مجموع الصادرات العربية، كما لم تتجاوز نسبة الواردات بين بعضها البعض عن 12% من إجمالي الواردات العربية.[42]
ومن جهة أخرى، فإن الزيادة الهائلة في الدخل القومي في بعض الأقطار العربية التي نتجت عن التصحيح النسبي في أسعار النفط ومضاعفة طاقته الانتاجية، ساهمت في زيادة الاختلالات الإقتصادية على الساحة العربية، حيث ساعدت على اتساع الهوة بين الدول العربية الغنية والدول الفقيرة. وبلغت نسبة دخل الفرد في منتصف السبعينيات من القرن العشرين، في بعض البلدان العربية كالإمارات العربية المتحدة والكويت ما يزيد عن 11000 دولار سنويا، وقفزت هذه النسبة بنسب عالية في بداية الثمانينيات، بينما نجد هذه النسبة في بلدان عربية أخرى كالصومال واليمن أقل من200 دولار سنويا، بحيث تبلغ نسبة الفجوة بين أغنى البلدان العربية وأفقرها بالنسبة للدخل السنوي للفرد120 إلى واحد على الترتيب. بمعنى أن الهوة بين البلدان العربية الفقيرة والبلدان العربية الغنية هي أعمق وأكثر من الهوة بين مجمل المناطق المتخلفة في العالم والمناطق المتقدمة.[43]
ويقسم الباحث سالم توفيق النجفي استاذ الإقتصاد الزراعي في جامعة الموصل الأقطار العربية، من حيث دخلها إلى ثلاث مجموعات، مشيرا إلى أن 40% من السكان العرب ينتمون إلى أربعة أقطار، يمكن تصنيفها بأنها منخفضة الدخل مثقلة بالمديونية، بينما يصنف 38% من السكان العرب بأنهم من فئة الدخل المتوسط، ولكنهم يعانون أيضا أعباء المديونية. وأن الذين يتمتعون بدخل مرتفع هو نسبة قليلة جدا لا تتجاوز 2% من مجموع السكان في الوطن العربي، وينحصر وجودهم بمنطقة الخليج العربي.[44]ومن شأن هذا أن لا يساعد في المستقبل المنظور على تحقيق أي نوع من التكامل الاقتصادي العربي، كما أن من أحد نتائجه السلبية المباشرة تعميق حالة التجزئة، وتغييب أي فعل جدي نحو تحقيق هدف الوحدة العربية.
وكانت أحد الثمار السلبية الأخرى للزيادة الطارئة في أسعار النفط، تبعية الأقطار العربية بكافة توجهاتها للدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة، وقد تركزت هذه التبعية أكثر منذ عام1973م، على أثر اندلاع حرب تشرين الأول أكتوبر، 1973م، واتجاه سياسات المنطقة نحو التقارب مع الغرب، وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي “سلميا”. فقد استمرت الأقطار العربية النفطية في انتاج النفط الخام بما يكفي لمواجهة سياسات واحتياجات الدول الصناعية المتقدمة، بحيث أصبحت الايرادات النفطية التي تتأتى من انتاج هذه الكميات تفوق بكثير احتياجات الأقطار العربية النفطية للأموال لاستيراد السلع الاستهلاكية والسلع الإنتاجية.
وترتب على ذلك، وجود فوائض ضخمة في موازين مدفوعات الدول العربية النفطية الجارية، قامت بإيداعها في الدول الصناعية والرأسمالية، وبالذات في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية. وتقدر الإحصائيات أن أكثر من100مليار دولار من دخل البترول العربي أودعت في البنوك الأجنبية في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية، الشيء الذي يعني أن وضع هذه الفوائض من حيث قيمتها الحقيقية أو تدهورها أصبح محكوما بالأوضاع والسياسات والقرارات الاقتصادية التي تتخذها الدول الغربية.
وقد شهدنا فعلا كيف تدهورت القيمة الحقيقية للفوائض العربية بنسب كبيرة بلغت في المتوسط22.1% سنويا منذ سنة1972م بسبب التضخم الناجم عن الأوضاع الاقتصادية في البلدان الصناعية الغربية. وقد قدر الأستاذ خيري عزيز خسائر الدول العربية من إيداعاتها بفعل التضخم وتخفيض سعر العملات الغربية بعشرة مليارات من الدولارات.
بل أن مصير هذه الايداعات نفسها يتوقف في نهاية الأمر على استمرار الوفاق السياسي بين هذه الدول والأقطار العربية النفطية، وهو أمر لا يمكن الجزم به بسبب التناقضات القائمة والمستمرة بين سياسات هذه الدول ومصالح الأمة العربية. ولنا في الحوادث التي حصلت في ايران بعد سقوط الشاه مباشرة حيث قامت الحكومة الأمريكية بفرض الحجز على الايداعات الايرانية خير دليل على ذلك.[45]
وفي الوقت الذي كانت فيه الأموال المودعة في البنوك والمصارف الغربية عرضة لتقلبات الأسواق الرأسمالية، والإنكماش والتضخم الإقتصادي بالدول الغربية، كانت استثمارات الأقطار العربية الغنية في الوطن العربي أقل من ثلث المبلغ المودع في البنوك الأجنبية، مما يضطر الدول العربية الفقيرة إلى اللجوء للغرب الصناعي للحصول على القروض بفوائد مالية عالية تتجاوز الـ10% سنوياً في غالب الأحيان. ولهذا نجد أن عدم سعي الدول العربية الغنية إلى استثمار أموالها في الوطن العربي ألجأ الدول العربية الفقيرة إلى السقوط، هي الأخرى، في التبعية الكاملة للأسواق المالية الدولية، فكانت النتيجة أن اتجهت الأقطار العربية جميعها، فقيرها وغنيها، للتبعية الكاملة للغرب. فبينما أخضعت الأولى رساميلها لسياسات وتقلبات الأسواق الغربية، فإن الأخرى تزايد اعتمادها على هذه الأسواق للحصول على القروض اللازمة لتمويل مشاريع التنمية فيها، ومواجهة العجز المتزايد في موازين مدفوعاتها بصفة عامة.
والواقع أن البلدان العربية دخلت السوق الرأسمالية العالمية وشكلت جزءًا رئيسيا من قطاعها المتخلف الذي كبتت بداخله عملية النمو الطبيعي، وشوهت تفاصيلها على نحو أدى إلى تكليس أساليب الانتاج الاقطاعية وشبه الاقطاعية وحتى القبلية وإطالة عمرها. ولقد تحقق بالتالي اندماج وتكامل مشوه بين البلاد العربية والاقتصاد الرأسمالي العالمي على نحو يؤكد التبعية الاقتصادية للسوق العالمية.
وحين فرض نمط تقسيم العمل الدولي على البلدان العربية، ترسخت معالم التخلف والتبعية، وتعززت أسباب التجزئة والتفتت والتشتت. وبذلك صار القانون الذي يحكم التطور اللاحق للبلدان العربية هو قانون النمو والتطور المتفاوت وغير المتكافئ.[46]
فعلى الرغم من مرور ما يقارب السبعين عاما منذ بدء اكتشاف النفط وتسويقه في الوطن العربي، فإن معظم المواد الخام المستخرجة من الأرض العربية لا زالت تصدر بصورة مواد خام، ويقوم العرب بتكرير أقل من5% لاحتياجات السوق المحلية، في حين يصدرون أكثر من 90% في صورة بترول خام.
ويستورد الوطن العربي حاليا، الماء والطعام والمنتجات الصناعية والمعدات العسكرية والبتروكيماويات والخبراء والمستشارين. وتبلغ السـخرية قمتها دون شك بالنسبة لاستيراد البتروكيماويات ومنتجات البترول المكرر.
ومع أنه قد جرت في الوطن العربي عدة محاولات لفك الإرتباط عن النظام الرأسمالي العالمي والتبعية للغرب عن طريق تأميم وتحرير المواد الطبيعية من نفط وخامات معدنية آخرى، غير أن آليات السيطرة الأجنبية مازالت مستمرة. وتعتمد تلك الآليات على التجارة العالمية للخامات المعدنية من خلال التحكم في الإستخراج والتسويق والنقل البحري، كما تعتمد على التحكم في الأسعار ومحاولة نهب أكبر قدر ممكن من الريع الاستخراجي عن طريق ما يسمى بتحويل الأسعار. وتكمن نقطة الضعف في الصناعة الإستخراجية في أنها في الأساس موجهة للتصدير وأنها خاضعة بالتالي لأوضاع السوق العالمية للخامات المعدنية.[47]
لذلك لم تحسم مسألة التأميم موضوع ارتباط الإقتصاد العربي بدورة رأس المال الأجنبي إلى البلاد العربية تحت حجة الارتباط بسياسة التنمية وعملية التصنيع الجارية فيها. ومن هنا نرى أن الصلة بالنظام الاقتصادي العالمي لم تنقطع أبداً، حتى حيثما جرت التأميمات، فيما بين الكارتل النفطي العالمي وبين البلدان العربية النفطية.
وقد لخص الدكتور فؤاد مرسي طبيعة هذه الصلة، وسياسة الإحتكارات الرأسمالية الدولية في المنطقة العربية بما يلي:
1. تأمين تدفق النفط العربي بغض النظر عن تأميم أو عدم تأميم مشروعات النفط في البلدان العربية.
2. الإلتفاف حول قرارات الأوبك للحصول على تخفيض في أسعار النفط الخام والغاز، والتحول مباشرة إلى الحصول على جزء أكبر من الريع الإستخراجي الذي يحققه النفط للدول المنتجة، وذلك من خلال الإدارة والتسويق والتصنيع.
3. التعجيل بالتراكم الرأسمالي في البلدان العربية من أجل تعظيم عملية الإستفادة المباشرة من ريع استخراج النفط عن طريق المغالاة في تسعير المعدات والآلات والتراخيص وبيع التكنولوجيا. وهي في ذلك تجبر البلدان العربية على واحد من أمرين، أن تخصص طاقاتها للتصدير إلى الخارج أو لا تستخدمها استخداما اقتصاديا رشيداً.
4. المحافظة لأطول مدة ممكنة على ثروات البلدان الرأسمالية وذلك تحسبا للمستقبل، ومن أجل فرض ضغط على البلدان العربية المصدرة لهذه المواد الأولية بحجة أن زيادة أسعارها ستجعل من الممكن توفير مصادر بديلة للدول الرأسمالية.
5. تجريد الأقطار العربية من المواد الأولية الغنية التي ستمكنها يوما ما من انشاء صناعات أساسية فيها، تتمتع بميزة حاسمة، وذلك بإرغامها إذا ماباشرت القيام ببناء صناعات أساسية على التصارع في سوق المنتجات الصناعية، دون أن يكون بيدها تلك الورقة الرابحة التي تمثلها المواد الأولية.[48]
ومنذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين، برزت الدول العربية، ليس فقط كأكبر مصدر للنفط، وأكبر مودع لرؤوس الأموال، ومستورد للمنتجات من الدول الغربية، بل أيضا كأكبر مستورد للسلاح من هذه البلدان. ولا شك أن الدول الرأسمالية أعادت إلى مصارفها قسما أساسيا من رؤوس الأموال العربية عن هذا الطريق، مما تدفعه الدول المنتجة للمواد الخام ثمنا لمشترواتها. وقد ساعدت عمليات بيع السلاح على تحسين ميزان المدفوعات للدول الرأسمالية، كما أمنت أرباحا طائلة لمحتكري السلاح، ناهيك عن الانحياز السياسي الذي تفرضه البلدان المصدرة للسلاح على الدول النامية المشترية له.[49] ولعل في اتفاقية كامب ديفيد، ومشاريع التسوية المتتالية التي هدفت إلى تصفية القضية الفلسطينية خير مثال على ذلك.
والواقع أن الأقطار العربية بشكل عام، بما فيها البلدان المنتجة للنفط شهدت انكماشا اقتصاديا ملحوظا منذ منتصف الثمانينيات، ترك بصماته على مختلف المجالات. لقد كانت مظاهر القوة التي برزت بها الأقطار العربية النفطية حصيلة ارتفاع أسعار النفط وزيادة الطلب العالمي عليه، ولم تكن مرتبطة بعملية انتاج وتصنيع في الداخل. وحين جرى اغراق الأسواق العالمية بكميات هائلة منه بدأت أسعاره بالتراجع، حتى بلغ سعر البرميل الواحد في نهاية التسعينيات ثمانية دولارات، في وقت لم تتكمن فيه الأقطار المنتجة من إيجاد بدائل تعوض عن عوائد النفط. وقد ضاعف من حالة التردي الإقتصادي ارتفاع حالة التضخم الإقتصادي في الأسواق العالمية، والتي بلغت نسبة تجاوزت 3.5% سنويا، بما يعني أن أسعار البضائع والمعدات المستوردة من الدول الصناعية الغربية، بما في ذلك المعدات التكنولوجية النفطية وأجور الشحن والتأمين وأجور القوة العاملة المستوردة، قد تضاعفت ثلاث مرات خلال الربع قرن المنصرم، في حين تراجعت أسعار النفط عما كانت عليه في بداية الثمانينيات، حيث بلغ سعر البرميل الواحد للنفط آنذاك أكثر من أربعين دولارا. وهكذا انكشف القناع عن حقيقة الأوضاع الإقتصادية في تلك البلدان فإذا هي خاوية عارية مجردة من كل قوة.
تلك بإختصار هي الصورة الراهنة لواقع التنمية في الوطن العربي، وهي بالتأكيد صورة مأساوية، أقل ماتوصف به أن مؤشراتها لا تبشر في المستقبل المنظور بأي خير للشعب العربي، وقد اكتفينا من خلالها بتقديم خطوط عامة عن الملامح الرئيسية التي تجسد واقع التنمية العربية الآن، دون أن نقحم أنفسنا والقارئ الكريم في تقديم قراءة دقيقة وتفاصيل كثيرة ليس هنا مكانها، إذ ليس هدفنا أن نقدم بحثا في موضوع التنمية ومشاكلها، وإنما التأكيد على أن أوضاع التجزئة والتمزق الراهن الذي تعيشه الأمة العربية تجعل من الحديث عن وجود خطط تنموية طموحة مسألة صعبة، بل ومستحيلة، وذلك على الرغم من الحقيقة التي يعلمها الجميع وهي أن الأمة العربية مجتمعة لا تنقصها الموارد الإقتصادية والثروات الطبيعية والطاقات البشرية للنهوض وتجاوز مأزق التخلف الراهن.
لقد أدى واقع التجزئة والتمزق الراهن، إلى إبقاء المنطقة العربية رغم كل ثرواتها ومواردها وطاقاتها في قعر التخلف بحيث يمكن تلخيص مأساوية هذا الواقع في:
أ- لم ينتقل المجتمع العربي بعد من المجتمع الزراعي التقليدي إلى مجتمع الصناعة والتقدم.
ب-انتاج الوطن العربي من الثروات الزراعية والحيوانية والمائية لا يتناسب اطلاقا مع زيادة عدد سكانه.
ت- لا زالت الأمية والفقر والأمراض معشعشة بشكل كبير في الوطن العربي.
ث- أدى التصحيح النسبي لأسعار النفط إلى تقسيم الوطن العربي بشكل حاد إلى أقطار عربية غنية وأخرى فقيرة، تقوم الغنية بإيداع أموالها في البنوك الغربية، معرضة أموالها لسياسات الدول الرأسمالية الغربية ومتطلبات أسواقها، أما الأقطار الفقيرة فإنها تجد نفسها مضطرة لكي تستدين من الدول الرأسمالية المتقدمة لمواجهة المتطلبات الاساسية لشعوبها بفوائد مالية عالية تتجاوز الـ10%.
ج- جرى الإعداد لخطط التنمية الاقتصادية في الوطن العربي بمعزل عن بعض، ولهذا فبدلا من أن تؤدي هذه الخطط إلى تطوير التلاحم والتفاعل بين الإقتصادات العربية فإنها، ونتيجة لاعدادها بمعزل عن بعض، حملت اتجاهات مضادة, منافية للتكامل الإقتصادي العربي.
ح- يرحل أكثر من5% من قوة العمل العربية (العمال العرب) إلى خارج الوطن العربي طلبا للرزق، بينما تستورد الدول العربية الغنية حاجتها من الدول الأجنبية الآسيوية والغربية.
خ- أدى واقع التباين بين الدول العربية الغنية والفقيرة إلى وقوع الأقطار العربية الغنية والفقيرة مجتمعة في براثن التبعية الأجنبية عن طريق الإيداعات والقروض والإستثمارات واستيراد التكنولوجيا والطعام والمعدات العسكرية.
لماذا الوحدة العربية
لا شك أن طريق التقدم والنهوض إنما يتحقق بالسعي لبناء القدرة الذاتية العربية، والإرتفاع بالمستوى الاقتصادي والصحي والثقافي والحضاري للإنسان العربي، والقضاء على معوقات التنمية والنهوض.
ولذلك يأتي النضال في سبيل تحقيق الوحدة العربية في مقدمة المهام المطلوب انجازها لتجاوز واقع التخلف الراهن، وذلك لأسباب عديدة يمكن تلخيصها في:
1.أن الوحدة العربية هي السبيل الوحيد الذي يمكن العرب من فك ارتباطهم عن النظام الإقتصادي الرأسمالي العالمي. ذلك أن بامكانهم في ظل دولة الوحدة استثمار أموالهم في الأقطار العربية، وتحقيق التكامل والتلاحم الاقتصادي فيما بينهم. وبهذا سوف لن تضطر الأقطار العربية الفقيرة لارتهان حريتها وسيادتها لقاء الديون التي تحصل عليها من الدول الرأسمالية المتقدمة. ومن جهة أخرى، فإنه في ظل الوحدة لن تكون الأقطار العربية الغنية الاقتصادية تحت رحمة تقلبات الأسواق الغربية, وسياسات أنظمتها العدوانية. وهكذا ستحسم قضية الوحدة مسألة الارتباط والتبعية للنظام الاقتصادي العالمي.
2. في ظل الوحدة العربية لن يكون الرفض القومي لسياسات الاستعمار الغربي وقاعدته “اسرائيل” منفعلا وسلبيا عاجزاً، بل إيجابيا، وسيكون له أدواته ومقوماته المادية والموضوعية المتمثلة في عمق الأمة، ووضع ثرواتها وامكاناتها ومواردها مجتمعة في خدمة هذا الرفض، بما يضمن تحقيق التقدم والتطور لشعوبها. وذلك هو مايعطي الحديث عن التحرر والحرية مضمونه الواقعي. فقد رأينا أن الحرية التي يسعى إلى تحقيقها كل قطر عربي على حدة، في ظل واقع التجزئة، قد اصطدمت ولا تزال بمعوقات ومآزق جعلت من الحديث عنها مجرد طنين لا تربطه بالواقع أية صلة، طالما أن السيادة الاقتصادية لا زالت بيد المستعمر. فالحرية بالمعنى العميق والشامل هي التي تبلغها الأمة من خلال هيمنتها على مقدراتها، ومن خلال بنائها لقدراتها الذاتية، بمعنى آخر من خلال الوحدة العربية.
3. إن أية دولة عربية بمفردها غير قادرة في ظل الوضع الاقتصادي العالمي الراهن أن تتعامل مع الدول الرأسمالية المتقدمة (المتروبولات) بصورة متكافئة، أو أن تضغط لكي يكون التبادل معها أكثر توزانا وأقل اجحافا. فحتى الآن تستطيع المتروبولات أن تتعامل مع الدول المتخلفة (الأطراف) بشروطها ومصلحتها. وذلك يعني أنه ليس في مقدور أية دولة عربية أن تقوم منفردة برسم وتنفيذ الخطط الإقتصادية اللازمة لتجاوز حالة التخلف، وتحقيق نهضة حقيقية، وذلك لعدد من الأسباب، يأتي في مقدمتها أن قدرتها على التخلص من التبعية غير موجودة، أو قاصرة في أحسن الأحوال. ولأن إمكانيات هذه الأقطار المالية، أوقواها البشرية، أوقاعدتها الاقتصادية.. إذا ما أخذت كل على انفراد لا تسمح لها بالتنافس ومواجهة القوى الرأسمالية العالمية. وحتى بالنسبة للدول العربية النفطية الواسعة الثراء، فانها لا تستطيع في ظل واقع التجزئة الراهن أن تخلق تنمية اقتصادية حقيقية في بلدانها، وان كانت جمعيها الآن تتصرف بهذا الاتجاه. ذلك لأن مواجهة أزمة التخلف الراهنة تتضمن تصفية كاملة للإمتيازات ولمراكز القوى في العلاقات الإقتصادية الدولية، وهذا شيء لا سبيل له إلا بالضغط من موقع القوة الذاتية، التي تحققها الدولة العربية الموحدة.[50]
4. ان زيادة الإنتاج في أية خطة تنموية لاتعني تلبية حاجات السوق الداخلية فقط، لأن هذه السوق لا تكفي لامتصاص كل مايمكن انتاجه من سلع وخدمات في ظل التقدم التقني للإنتاج. ولهذا فان رفع الحصار الإقتصادي والجمركي بين الأقطار العربية، وتأمين الحماية للمنتجات العربية أمام المنتجات الأجنبية الأخرى، وإيجاد السوق العربية المشتركة سيساهم بشكل رئيسي في حل مشكلة تصريف المنتجات العربية التي تفتقد في ظل التجزئة الراهنة امكانية التنافس مع صناعات الدول المتقدمة حتى في اسواقها المحلية نتيجة لعدم وجود الحماية الجمركية الكافية، ولصغر حجم رقعة السوق.
5.ان الوطن العربي يعاني حاليا من اختلالين رئيسيين هما الإختلال في التوزيع السكاني، والإختلال في توزيع الثروة. فبعض الاقطار العربية الغنية لايتجاوز تعداد سكانها إجمالا المائة والخمسين ألف نسمة، وهو عدد أقل بكثير من عدد عمال شركة أمريكية واحدة من كبريات الشركات، كشركة جنرال موتورز الأمريكية لصناعة السيارات. فكيف يمكن لقطر عربي بحجم سكاني لايتجاوز هذا العدد الحديث عن خطط اقتصادية طموحة، أو عن خطط لبناء صناعات “ثقيلة”.
بينما نجد، من جهة أخرى، قطراً عربيا آخر بموارد محدودة جداً، يزيد تعداد سكانه على الثمانين مليون نسمة. ولأن موارده الطبيعية لاتكفي لتلبية الحاجات الأساسية لمواطنيه من غذاء وسكن وعلاج، فإن الكثير من أبنائه يضطرون للهجرة خارج أرض الوطن العربي طلبا للمعيشة وبحثا عن الرزق.
وتبلغ السخرية المرة قمتها في هذه المقارنة حين نشاهد أرقام ميزانية سنوية لأربعة أقطار عربية مجتمعة، بكثافة سكانية متوسطة نسبيا (موريتانيا، السودان، الصومال، اليمن الجنوبي) لاتتجاوز ميزانية شركة امريكية واحدة مثل شركة جنرال موتورز لصناعة السيارات، بينما يتجاوز دخل الفرد في بعض الأقطار العربية الغنية 16000دولار سنوياً.
والمطلوب اذن إعادة تشكيل الخارطة السكانية والإقتصادية للوطن العربي، بما يكفل معالجة هذه الاختلالات وتحقيق التقدم والمساواة لأبناء الأمة العربية، وذلك بتمكين العمال المصريين والسودانيين والجزائريين والمغاربة واليمانيين والفلسطينيين من التنقل بحرية في الاقطار العربية التي بحاجة إلى قوة العمل البشرية، بدلا من أن ندع هذه القوة تهاجر إلى الخارج. وعندها فسوف لن تهدر الطاقة البشرية العربية، بل ستبقى ثروات العرب للعرب، ولن تكون الاقطار العربية الغنية ملزمة بدفع الاجور بالعملات الصعبة للعمال الأجانب الذين سيكون همهم الأول نقل هذه الثروة إلى بلدانهم ليسدوا بها حاجاتهم ومتطلباتهم، وانما ستدفع هذه الثروة أجوراً للعمال العرب لتبقى في أرض العرب، ومما لا شك فيه أن تحقيق الوحدة العربية وبناء الدولة العربية الواحدة هو السبيل الوحيد لتحقيق ذلك.
6- يلاحظ أن عملية التنمية العربية الراهنة ارتبطت بفوضى إقتصادية انعدم فيها التخطيط والبرمجة القوميين، وذلك بسبب قيام الأقطار العربية بإعداد خططها التنموية بمعزل عن بعض، وكانت النتيجة قيام مشروعات متشابهة في العديد من الأقطار العربية. فقد ركزت معظم الدول العربية النفطية, بمختلف توجهاتها السياسية والإقتصادية، على الصناعات البتروكيماوية، فكانت النتيجة أن أهدر نصيب كبير من الثروة المالية العربية في نفقات مزدوجة لمشاريع متشابهة تتزاحم فيما بينها، لم ترق جدية انتاج أي منها، إن من حيث الكم أو النوعية إلى منافسة منتجات الدول الصناعية الغربية المتقدمة في الأسواق العالمية.
ومن جهة أخرى، فقد أحجمت الأقطار العربية الغنية عن استثمار أموالها في البلدان العربية الأخرى خشية ضياع رساميلها، بسبب من انعدام الاستقرار السياسي في تلك البلدان. واتجهت بدلا عن ذلك، إلى رسم وتنفيذ خطط تنموية قطرية تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من الأغذية والمنتجات الصناعية، رغم أن غالبية تلك الأقطار لم تكن مهيأة بمفردها لتنفيذ تلك الخطط، إما بسبب من انعدام وفرة الأراضي الصالحة للزراعة، أو انعدام المواد الأولية أو رأس المال..
وقد كلفت استراتيجيات التنمية القطرية، التي وجهت عملية الزراعة والتصنيع في الأقطار العربية النفطية الغنية منذ منتصف السبعينات المليارات من الدولارات في محاولة من هذه الأقطار لتحقيق اكتفائها الذاتي من منتجات الصناعات التي تقيمها في أقطارها. فكانت النتيجة أن أهدرت هذه الاموال دون أن يتحقق الإكتفاء الذاتي. وفي احسن الحالات فان مانتج عن تلك المحاولات التنموية لم يرتق إلى تلبية حاجة السوق المحلية، فضلا عن الأسواق الخارجية.
ولذلك فان دولة الوحدة هي وحدها القادرة على رسم برنامج تنموي تنتفي فيه المزاحمة بين المنتجات العربية، ويلتغي فيه التشابه والنفقات المزدوجة للصناعات. ويقوم فيه كل قطر بالدور الذي تهيئه طاقاته وامكاناته للعبه. فالقطر السوداني، مثلا، الذي يعاني أبناؤه من الفقر والأمراض والجوع، والذي يضطر بحكم ضعف موارده المالية إلى أن يرهن حريته وسيادته من أجل الحصول على الديون لكي يواجه بها المتطلبات الأساسية لشعبه، يمكنه بما يملك من ثروات مائية، وأراض زراعية خصبة واسعة أن يغطي الوطن العربي من القمح.. فلا تعود لأقطار عربية أخرى كدول الخليج والجزيرة العربية، حاجة لصرف الملايين من الدولارات لاستصلاح أراض صحراوية وغير خصبة. ولا تعود هناك ضرورة للبحث، بأثمان باهضة، عن مصادر مائية تحت الأرض لتلبية حاجة تلك الأقطار من الغذاء والطعام.. بل لربما تمكنت تلك الأقطار من توجيه قدراتها المالية وثرواتها النفطية نحو صناعات بتروكيماوية متينة، قادرة من حيث النوعية والكمية على تلبية حاجة السوق في الوطن العربي بأسره. ولربما استطاعت أيضا أن تمد صادراتها إلى خارج الوطن العربي محققة توازناً اقتصاديا بين دخلها من صادراتها، وبين ما تدفعه للأسواق الخارجية لقاء استيراداتها.
ومثل هذا القول ينطبق على الأقطار العربية الأخرى ومنتجاتها (مصر مع المنتجات القطنية، والأردن مع منتجات الفوسفات، والجزائر مع الكروم، وهكذا). والمؤكد أن التنسيق والتكامل والتفاعل بين المنتجات والمصنوعات العربية هو رهن بإقامة الوحدة العربية، فهي بذلك سبيل العرب الوحيد للخروج من مأزق التخلف، كما أنها المجال الوحيد لإتاحة الفرص الجدية لانطلاق الاقتصاد العربي.
7-أن الحديث عن تكامل اقتصادي عربي دون وحدة عربية كطريق لتنمية اقتصادية عربية شاملة هو أمر لا يتفق مع معطيات الواقع العربي الراهن. فالتكامل الاقتصادي بمعناه الدقيق لا يمكن أن يقوم إلا بين دول تتجانس أو على الأقل تتقارب في أسس نظمها وبرامجها الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، ويرجع ذلك إلى أن عملية التكامل الاقتصادي تتطلب تغييرات أساسية وجذرية في البنى الهيكلية والاقتصادية القائمة.
ولذلك فان الوحدة السياسية شرط أي مشروع جدي لتحقيق التكامل الإقتصادي العربي، لما يتطلبه الأخير من تفصيل في كثير من المسائل التي تثير الاختلافات بين أطراف التكامل.[51]
إضافة إلى ذلك، فان جل مايستطيع التكامل الاقتصادي تحقيقه بين مجموعة من الأقطار المتخلفة، والقائم على أسس قطرية، هو إزالة العوائق والقيود على انتقال المنتجات وعناصر الإنتاج، وسوف يكون من شـأن ذلك أن تحصل الاقــطار العربية الأكثر نموا، في هذا التكامل على قدر كبير من المنافع في حين لا تحصل الأطراف الأقل نمواً الا على قدر محدود منه، وبذلك فان حالة التخلف الاقتصادي ستبقى قائمة مستمرة.[52]
8-ان الوحدة العربية هي طريق العرب الوحيد للإنتقال من المجتمع الزراعي التقليدي إلى مجتمع صناعي متطور، قادر بسبب ضخامة موارده وطاقاته المادية والبشرية، واتساع اسواقه على الوقوف خارج السوق الامبريالية.
9-إن أحد الظواهر المميزة لعصرنا أنه عصر كتل وتحالفات كبرى من الشعوب. فإثر الحرب العالمية الثانية رأينا انقسام العالم إلى قيام أحلاف عسكرية (ناتو، السنتو، وارسو، وتجمعات واسواق اقتصادية مشتركة- التكامل الاقتصادي بين الدول الاشتراكية، وسوق الوحدة الاوربية المشتركة)، كما تشكلت تجمعات سياسية واقتصادية أخرى في دول العالم الثالث: ككتلة عدم الإنحياز ومنظمة الوحدة الأفريقية ومنظمة الدول الاسلامية.. ولهذا فإن الوحدة العربية تأتي ضمن سياق تاريخي موضوعي وصحيح، فهي إضافة إلى أنها وحدها الطريق الذي يتيح للعرب التخلص من التبعية للاستعمار الجديد، بخلقها أداة موحدة تقود عملية الدفاع والمجابهة من أجل صيانة استقلال العرب وسيادتهم على أراضيهم، فانها تأتي في تشكيلها منسجمة مع اتجاهات العصر.
10-ان تجربة السنين القليلة الماضية قد أثبتت أن الاقطار العربية النفطية الغنية لم تستطع أبدا تجاوز آحادية الدخل المتمثل في النفط كوسيلة وحيدة للحصول على العملات الصعبة، وتلبية المتطلبات الأساسية لشعوبها. وقد ثبت بالدليل أن الدول المنتجة للنفط، ضمن المنظور الراهن غير قادرة فعلا على التحكم في أسعار النفط وتسويقه وتحديد مستوى انتاجه، مما يجعل الإعتماد على النفط كمصدر وحيد في دعم عمليات التنمية أمرا غير مضمون النتائج.
يضاف إلى ذلك أن النفط، كمادة أولية، قابل للنضوب، ومعنى ذلك ببساطة أن أوضاع الثراء الحالي لبعض الأقطار العربية غير مرتبطة أصلا بعملية انتاجية، بقدر ما هي مرتبطة بعمليات استخراجية، ولذلك فإن الأقطار العربية المصدرة للنفط معرضة في كل لحظة، وعند أية هزة في أسواق النفط العالمية للإنضمام إلى قائمة الدول الفقيرة.
11- ولذلك فمهما يقال الآن عن ثراء هذه الأقطار، ومتانة هياكلها الإقتصادية، وعن قدراتها في خلق تنمية حقيقية في أقطارها، فإن أمنها الإقتصادي والغذائي، ومستقبلها أنما يكمن في ارتباطها بالمستقبل العربي والوحدة العربية.
وهكذا فالوحدة العربية ليست تعارضا أو تضادا مع الولاء والإخلاص للتراب والإنتماء الوطني، بل إنقاذا وترسيخا لهما، حيث تضع الجزء في مكانه الصحيح من الكل، وحيث يستطيع القطر العربي الواحد أن يكون فاعلا ومؤثرا ضمن مجموعة أقطار عربية فاعلة ومؤثرة. فبدون الوحدة، تبقى جميع الأجزاء العربية مريضة ومشلولة، وتستمر حالة التخلف الراهنة دون معالجة، وتبقى كل محاولات الخروج من مأزق التخلف الراهن عبثا لا طائل من ورائها.
فبالخيار القومي وحده نستطيع الخروج من المأزق الراهن، وبه نستطيع مواجهة التحديات والأخطار التي تحدق بالأمة، وبه وحده تتعزز وتنتصر الهوية الوطنية لأرض تمتد مساحتها من المحيط إلى الخليج، حيث يصبح الوطن الكبير هو القطر، ويصبح القطر في شموخه واقتداره صورة الأمة. ولأننا آمنا بالوطن والشعب، فإننا نؤمن وندافع عن العروبة والقومية والوحدة. ولذلك أيضا، اعتبرنا الوحدة “الضرورة الحضارية” من أجل أن يجد العرب مكانهم في مسيرة التاريخ إلى أمام.
هوامش الفصل الخامس
[1] د. يوسف صايغ: ندوة المستقبل العربي: الإقتصاديون وتعثر مسيرة الوحدة، (بيروت، مجلة المستقبل العربي)، مركز دراسات الوحدة العربية، عدد 12، 2/1980م. ص. 133-134.
[2] المصدر نفسه، 133- 1234.
[3]. د. رمزي زكي، الإقتصاد العربي تحت الحصار، دراسات في الأزمة الإقتصادية العالمية وتأثيرها في الإقتصاد العربي، مع إشارة خاصة عن الدائنية والمديونية العربية، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية)، عام 1989م، ص. 31.
[4]. د. عبد الرحمن منيف، الديمقراطية أولا الديمقراطية دائما، (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، 1992م، ص. 174.
[5] فيلسوف يوناني سابق على أرسطو.
[6] د/ عبد الرحمن بدوى: موسوعة الفلسفة، (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، الطبعة الأولى ج 2، عام 1984م ص.533 – 537.
[7] James A. Bill & Robert L. Hardgrave, Comparative Politics, The Quest For Theory. (London, University Press of Americ), 1981, p.49.
[8] المصدر نفسه، ص. 45.
[9] عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، (بيروت، دار الكتاب اللبناني)، عام 1982م، ص. 210- 211.
[10] يلتقي جان جاك روسو في رؤيته هذه مع فلسفة جان لوك (1632-1704) فقد قال لوك أيضا، أن قيام الدولة يجب أن يكون ناتج عقد اجتماعي وضعي يلتزم به الحاكم والمحكوم. واعتبر مهمة التصدي للدولة في حالة عدم وفائها بعقدها مع الجمهور واجبا على الأفراد وليس حقا لهم فقط.
[11] V. I. Lenin: Imperialism is the Highest Stage of Capitalism, (New York, International Publishers), 1979, p. 123-128.
[12] Walt W. Rostow, The Stage of Economic Growth: A non Communist Manifesto. (Cambridge, Cambridge University Press), 1960.
[13] حول خصائص الدولة البطركية، راجع كتاب الدكتور هشام شرابي، البنية البطركية، بحث في المجتمع العربي المعاصر، (بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر)، عام1987م.
[14] بوب سانكليف: “الإمبريالية والتصنيع في العالم الثالث”، من كتاب الإمبريالية وقضايا التطور الإقتصادي في البلدان المتخلفة. ترجمة عصام خفاجي، (بيروت، دار ابن خلدون للطباعة والنشر)، ط. 2، عام 1985م،ص. 35.
[15] المصدر نفسه، ص 53.
[16] المصدر نفسه، ص. 52.
[17] Ronald N. Chilcote; Theories of Development and Underdevelopment. (Boulder, Westview Press), 1984, p. 86-94
[18] المصدر نفسه، ص. 86-94.
[19] يقصد بالمنهج الماركسي الأرثوذكسي، المنهج الذي يعتمد النصوص الجامدة في النظرية الماركسية، والذي يرفض تطوير بنائها النظري كي تواكب مختلف التغيرات التي تجري من حولها. أما المنهج الروستوي فيشير إلى تنظيرات والت روستو الإقتصادية حول مراحل النمو الإقتصادي.
[20] المصدر نفسه، ص. 100-107.
[21] المصدر نفسه، ص. 100-107.
[22] د. عزت حجازي، التحدي التنمية والتخلف في الوطن العربي، (بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر)، ط. 1، 1985م، ص. 17.
[23] خيري عزيز: قضايا التنمية والتحديث في الوطن العربي: مصر والمغرب العربي، (بيروت، منشورات دار الآفاق الجديدة)، ط. 1، عام 1983م، ص. 5.
[24] عزت حجازي، المصدر السابق، ص. 28.
[25] المصدر نفسه، ص. 17.
[26] المصدر نفسه، . 17.
[27] المصدر نفسه، ص. 18.
[28] المصدر نفسه، ص. 19.
[29] المصدر نفسه، ص. 22.
[30] خيري عزيز، المصدر السابق، ص. 7.
[31] نادر فرجاني: عن التعليم والإقتصاد: البلدان العربية في سياق العالم، (بيروت، المستقبل العربي- مركز دراسات الوحدة العربية)، عدد 196، 6/1995، ص. 62-80.
[32] المصدر نفسه، ص. 8.
[33] د. على الكواري: عودة إلى أسباب الخلل السكاني في الوطن العربي: حالة قطر، بيروت، مجلة المستقبل العربي- مركز دراسات الوحدة العربية(، عدد 199، 9/1995م، ص. 52.
[34] المصدر نفسه، ص 53.
[35] عثمان الحسن محمد نور ومختار ابراهيم عجوبة: هجرة الكفاءات السودانية في قطاع التعليم العالي: دراسة في الدوافع والآثار واحتمالات العودة، (بيروت، مجلة المستقبل العربي- مركز دراسات الوحدة العربية)، عدد 249، 11/1999م، ص. 87.
[36] المصدر نفسه، ص. 87.
[37] المصدر نفسه، ص. 87.
[38] خيري عزيز، المصدر السابق، ص. 7.
[39] محمد حسنين هيكل: العرب على أعتاب القرن الـ 21 بيروت، مجلة المستقبل العربي- مركز دراسات الوحدة العربية)، عدد 190، 12/1994م، ص, 21.
[40] المصدر نفسه، ص. 20.
[41] محمد لبيب شقير: الوحدة الإقتصادية العربية تجاربها وتوقعاتها، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية)، ج. 1، ط. 1، عام 1986م، ص. 287.
[42] د. عزت حجازي، المصدر السابق، ص. 31.
[43] خيري عزيز، المصدر السابق، ص. 18.
[44] سالم توفيق النجفي: التغيرات الهيكلية والأمن الغذائي العربي- الحالة الراهنة واستشراف المستقبل، (بيروت، مجلة المستقبل العربي- مركز دراسات الوحدة العربية)، عدد 198، 8/1998م، ص.46.
[45] د. محمد لبيب شقير: المصدر السابق، ص. 299.
[46] عزت حجازي، المصدر السابق، ص. 207.
[47] د. فؤاد مرسي، تحركات الشركات متعددة الجنسية في المنطقة العربية، (بيروت، مجلة دراسات عربية)، عدد 10، أب 1979م، ص. 9.
[48] المصدر نفسه، ص. 10-11.
[49] المصدر نفسه، ص. 7.
[50] د. عزت حجازي، المصدر السابق، ص. 207.
[51] د. محمد لبيب شقير، المصدر السابق، ص. 109-288
[52] المصدر نفسه، ص. 62.