في الوحدة والتنمية 2/1 الفصل الخامس في الوحدة والتنمية
مـدخـل
أصبح الفكر الإقتصادي في السنوات الأخيرة مدخلا رئيسيا لبحث موضوع الوحدة العربية. وربما يعود ذلك إلى كون الوحدة الإقتصادية تتضمن منافع وفوائد للأقطار العربية المختلفة. وبالتالي يمكن إبراز أهمية الوحدة العربية وترويج صيغتها الشاملة عبر التوجه الإقتصادي. ولعل في ذلك جوابا على الذين يعارضون فكرة الوحدة السياسية، باعتبار أنها ستتسبب في حدوث أضرار معينة لمؤسسات وقطاعات اقتصادية ذات شأن في الأقطار ذات العلاقة.[1]
ومن جانب آخر، يمكن القول أن التركيز على الإقتصاد في موضوع الوحدة قد جاء بهدف الرد على وصم الدعوة للوحدة بأنها منطلقة من اعتبارات عاطفية محضة، فكان أن تم ربطها بالإقتصاد لإضفاء الطابع العلمي عليها. فالإقتصاد، كأحد العلوم الإجتماعية، هو الأكثر دقة بين مختلف العلوم، ويستطيع أن يتوصل إلى استنتاجات من خلال بناء نماذج وتحليل فكري متقن، وبالتالي، فإن بالإمكان التوصل من خلاله إلى طرح معادلات وأرقام، توصل إلى قناعة أكيدة بأهمية تحقيق الوحدة العربية. ويصبح، من خلالها، الإيمان بالوحدة، ليس مجرد علاقة توق معنوي إلى تاريخ وثقافة وتواصل، بل ضرورة حضارية للعرب، إذا ما رغبوا في أن يأخذوا مكانهم بجدارة في مسيرة التطور الإنساني الصاعدة.[2]
والواقع أن المحور المهم في الوحدة الإقتصادية العربية، هو علاقتها بالتنمية. إذ أن تحقيق التكامل الإقتصادي والوصول به حد الإندماج، إنما يهدف إلى تحقيق قدر أعلى من التطور والكفاءة الإنتاجية، والنهوض بالمجتمع العربي في كافة المجالات وعلى جميع الأصعدة، وذلك هو جوهر التنمية.
والحقيقة، أن موضوع التنمية، قد حظي باهتمام عالمي بالغ في العصر الحديث في كل المجتمعات، ليس فقط من قبل الإقتصاديين، بل والباحثين والمختصين في مختلف العلوم الإنسانية، من اقتصاد وسياسة واجتماع وثقافة وفكر. وبالقدر الذي حظي به هذا الموضوع من الإهتمام، فإن التعريفات والتفسيرات والتأويلات والقياسات التي استخدمت لجهة تحديد هذا المفهوم، عكست اختلافات شاسعة بين المهتمين به، حول المعايير التي يجب أن تحكم وتوجه العمليات التنموية. ويبرز بشكل خاص، الخلاف بين مدرستي الإقتصاد الحر، التي تعتمد على المبادرات الفردية وتحرير الإقتصاد من كل القيود، والمدرسة التي تؤمن بضرورة الإعتماد على التخطيط في كافة المستويات، وتحقيق الملكية العامة لوسائل الإنتاج.
فقد ربطت مدرسة الإقتصاد الحر نجاح الخطط التنموية بمدى تضييق الفجوة القائمة بين مستويات المعيشة في دول الغرب الرأسمالي الصناعي والمستوى السائد في بلدان العالم الثالث، وبالتالي فإن التنمية، من وجهة النظر هذه، تتحقق بالتوسع في استكمال البنية التحتية، وتوفير الخدمات التعليمية والصحية وسيادة اقتصاد السلع الإستهلاكية وخدمات الرفاه، والإقتراب من نمط الحياة في البلدان الرأسمالية الصناعية، وما يتطلبه تحقيق ذلك من ارتفاع في مستوى الدخل القومي.[3] أما المدرسة الإشتراكية فقد ربطت عملية التنمية بمجمل عملية التطور في البناء الوطني، كالتصنيع والزراعة والثقافة والإدارة والتقدم التقني وتقليص الإعتماد على الغير أو الخارج وقيام علاقات متكافئة ومتوازنة مع الآخرين.[4] وقد اعتبرت تحقيق ذلك مرهون بإحداث تبدلات رئيسية وهامة في المجالات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية.
وسوف نتعرض لآراء هذه المدارس بشىء من التفصيل لا حقا، في سياق المناقشة لتطور مفهوم التنمية. ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن هدف التنمية هو إجراء تحولات رئيسية في الهياكل الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والثقافية، والعمل على تنويع وتطوير الإنتاج الوطني بما يؤدي إلى ارتفاع مطرد في المستوى المعيشي لكل أفراد المجتمع. ويجب أن تنطلق العملية التنموية من إمكانيات الوطن وطاقاته والثروات والموارد الكامنة فيه، وأن تسعى إلى تحرير الوطن والمواطن، بتخليص البلاد من بوتقة التبعية للخارج، وإزالة العوائق التي تقف أمام المشاركة الفاعلة للأفراد والجماعات في كافة الأنشطة التي تدفع بعملية التطور في كافة المجالات. وإذن فهي السعي لتحقيق النهضة الحضارية الشاملة.
ويعتبر تحقيق التنمية أحد التحديات الرئيسية التي تواجه الأمة العربية الآن، لأنه السبيل الوحيد للتغلب على تركة التخلف الثقلية التي خلفها الاستعمار بعد رحيله، وتكنيس الآثار التخريبية المدمرة التي خلقها أثناء وجوده، ولأن أى حديث عن الحرية والاستقلال مجرد لغو لا أساس له حين لايكون هناك مستقبل ونهوض. فبدون تحقيق التنمية، ليس هناك مناص، من السقوط في شرك الخضوع والتبعية للهيمنة الأجنبية.
يهدف هذا الحديث لمناقشة علاقة تحقيق التنمية بمشروع الوحدة العربية. ويفند الأطروحة القائلة بإمكانية الدول الصغرى، والوحدات القطرية في الإضطلاع بمهام التغيير الاجتماعي ورسم وتنفيذ خطط التنمية اللازمة لمواجهة تحديات العصر، والحفاظ على الحرية والاستقلال. مؤكدا على استحالة تحقيق ذلك خارج إطار مشروع النهضة القومية وتحقيق الوحدة.
وقبل المباشرة في مناقشة الموضوع، سنمهد بتقديم خلفية تاريخية لتطور مفهوم التنمية وإستقراء مناهج التنمية الاقتصادية التي سادت في عالمنا المعاصر. وسوف نشير إلى بعض المعالجات النظرية التي قدمها عدد من المفكرين والمهتمين بقضايا التنمية الاقتصادية في العالم الثالث، وربط ذلك بالواقع العربي في هذه المرحلة، بهدف استخلاص اطار نظري يساعد على توضيح أدق للعلاقة بين هدفي التنمية والوحدة العربية.
التالي
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-06-06