في الهوية والنهضة
في أحاديث سابقة، تناولنا موضوع الهوية كمفهوم، وأشرنا إليها، باعتبارها الخصائص التاريخية واللغوية والنفسية، التي تفصل بشكل حاسم بين جماعة وأخرى من الناس. وفيما يتعلق بموضوع النهضة، ذكرنا ارتباطها، بمرحلة انتقال أوروبا من العصور الوسطى إلى العصر الحديث. وفي هذا المفهوم، غاب البعد الاجتماعي والسياسي، الذي صاحب الثورات التي شهدتها القارة الأوروبية، في القرن الثامن عشر الميلادي.
ما الذي يجعلنا نعيد مناقشة هذا الموضوع، مرة أخرى، وأين تكمن العلاقة بين مفهومي الهوية والنهضة؟
الواقع أن ما حرض على كتابة هذا الحديث، هو الأحداث الدرامية، التي تتداعى الآن في أربعة أقطار عربية، هي السودان والجزائر ولبنان والعراق. إن تزامن هذه الأحداث واقتراب الشبه بين بعضها، قد جعل بعض الكتاب الغربيين، يتحدثون عن موجة ثانية، لما يسمى «الربيع العربي». وذلك أمر يبدو منطقياً، إذا ما أجرينا مقاربة بين الشعارات التي رفعتها الحركات الاحتجاجية عام 2011، والشعارات التي تطرح الآن.
هناك أوجه شبه بين السودان والجزائر، من حيث سيطرة المؤسسة العسكرية على الحكم في كلا البلدين، وأيضاً من حيث مطالبة الجمهور فيهما، بالتحول السياسي الديمقراطي، بما يكفل مشاركة الشعب في صناعة القرار.
وبالمثل، هناك شبه بين لبنان والعراق، من حيث تقسيم السلطة بين الطوائف، ففي لبنان نص الميثاق الوطني غير المكتوب على أن يكون رئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً، ورئيس الحكومة مسلماً سنياً، ورئيس مجلس النواب مسلماً شيعياً.. وفي العراق، فإن نصيب رئاسة الجمهورية من حصة الأكراد، ورئاسة الحكومة من حصة المسلمين الشيعة، ورئاسة البرلمان من حصة المسلمين السنة. وهنا يقتضي القول: إن مشروعي التقسيم الطائفي في لبنان والعراق، هما من تركة الاحتلال الأجنبي، حيث فرض الفرنسيون هذا الشكل من الحكم في لبنان، قبل مغادرتهم له. وقام السفير الأمريكي بول برايمر، باستنساخ التجربة اللبنانية، بشكل أكثر سوءاً في بلاد النهرين.
الجامع المشترك بين البلدان الأربعة هو ضعف هياكل الدولة، وتغول الفساد، وشيوع أنظمة الاستبداد، مع استثناء الحكم في لبنان من تهمة الاستبداد، حيث تتفرد زعامات الطوائف باحتكار ذلك. وكان من نتائج ذلك، أن شهدت هذه البلدان احتقاناً اجتماعياً واسعاً وتفاوتاً كبيراً بين الغنى والفقر، كان من نتائجه انفجار الغضب الشعبي في هذه البلدان، وبلوغها ما وصلت إليه الآن.
إن أصابع الاتهام ترفع الآن في لبنان والعراق، مشيرة إلى نظام الطوائف، مؤكدة مرة أخرى، أنه من غير الممكن تشكل الهوية من خلال مقاربات ساكنة، أو تنميط لمجتمع، بتصور تجانسه. إن مثل هذا التصور يلغي جملة التناقضات التي تفتعل داخل المجتمع الواحد، كما تلغي التطور التاريخي الذي فرض مبادئ إنسانية، أخذت الشكل العالمي، ومن ضمنها الحكم الرشيد، ومبدأ المحاسبة، وتداول السلطة، والمجتمع المدني، وصيانة المال العام، وما إلى ذلك من مبادئ أقرتها شرعة الأمم، ومبادئ حقوق الإنسان.
إن الشكل الطائفي في الحكم لم يعد مقبولاً ليطبع هوية مجتمع ما. إن الاعتقاد بغير ذلك، هو خضوع للمنطق الجامد.
إن المعضلة باختصار هي بين أشكال من الحكم عفى عليها الزمن وباتت من الماضي، وبين توق شباب إلى قيم الحداثة والعدالة والكرامة، والخروج من العجز.
وهنا يبرز السؤال: إذا كانت الهوية عملية تاريخية، بمعنى خضوعها لقانون التطور، فلماذا تقدمت شعوب وحققت ثوراتها العلمية، وبقينا نحن العرب نراوح مكاننا؟ والجواب يكمن في السؤال ذاته، لأن التطور في مفهوم الهوية، هو تطور تاريخي.
إن تجاوز الواقع العربي المأزوم وتطور مفهوم الهوية يقتضيان الانتقال من المجتمع التقليدي إلى مجتمع التقانة، بما يعنيه هذا الانتقال من تغير في البنى والهياكل الاجتماعية.
إن الشباب اليافع، في البلدان العربية، التي أشرنا إليها، يحاول أن يكون حامل مشعل الحداثة والتقدم، ليكون البديل العربي عن القوى الاجتماعية التي قادت هذا المشروع، في عصر الأنوار الأوروبي.
لكن ضعف الهياكل الاجتماعية، ووجود أجندات خارجية، تحاول أن تستثمر الأحداث الجارية، وتوجه دفتها لمصلحة مشاريعها، شكل في الماضي، وربما يشكل في الحاضر والمستقبل، إعاقة حقيقية للتطور في مفهومي الهوية والنهضة، ويعيق تحقيق الأهداف الكبرى، التي انطلقت في سبيلها الحركة الاحتجاجية. إن ذلك يتطلب تضافر جميع المخلصين، في هذه البلدان للحيلولة دون اختطاف موسم الربيع، الموسم الواعد والجميل، والمبشر بصباح مشرق حر جديد.
صحيفة الخليج الإماراتية