في الهويات الجزئية والهويات الجامعة
في حديثنا الذي نشر قبل أربعة أسابيع تحت عنوان “حديث في الهوية” أشرنا إلى أن الهوية شأنها شأن كثير من الظواهر الاجتماعية الأخرى، تبدأ من الأسفل، في خط بياني صاعد، منطلقة من المسكن، مركز العالم الأول إلى العائلة الأكبر: العشيرة، ثم القبيلة. ومن الحي والزقاق الضيق، إلى المدينة فالمنطقة والإقليم وصولا إلى انتماء إلى أمة. وكان هذا التطور ولا يزال، هو المرآة العاكسة للسيرورة التاريخية ونبضها، والمفسر لحركتها.
وبالقدر الذي تتطور فيه المجتمعات البشرية وتزدهر، تتسع فضاءات الهوية، وتصبح أكثر إنسانية ورحابة، مستجيبة في ذلك لقانون التراكم والتعاقب والتحول، متجاوزة شبكة العلاقات القديمة، عشائرية وقبلية وطائفية وفئوية، وبنياتها البطركية، ومؤكدة زيف مقولة انسداد التاريخ.
وبديهي أن تجاوز شبكة العلاقات القديمة، هو السبيل إلى تضعضع جملة المرتكزات التي أسست عليها. إن هذا التجاوز هو وحده القادر على الإسهام في تشكيل بنيات جديدة على أسس مدنية، يكون من نتائجها انبثاق ثقافات وأعراف وتقاليد جديدة، تختزن في رحمها مخاض الولادة لهوية، تقوم على أساس المصالح المشتركة، وتصبح تعبيرا عن خصوصية وملامح المرحلة الوليدة. كان التطور التاريخي قد أفرز أنماط حكومية جديدة، ونظم سياسية حديثة، تستند على العلاقات التعاقدية بين أبناء المجتمع الواحد، في بنيتيه السفلى والعليا، أحد أهم عناوينها الوحدة الوطنية. تتأسس من خلالها هوية جديدة هي ما نطلق عليها مجازا بالهوية الجامعة، التي يمثل نشوء الدولة المدنية، بعناصرها المعروفة، أحد تجلياتها وتعابير الانتماء لها. وتلك كانت قمة الارتقاء بمفهوم الوطن.
هذه المقدمة، تعني أن الهوية الجزئية أصبحت ضرورة للبقاء واستمرار النوع الإنساني، عندما بدأت البشرية تلمس خطواتها الأولى. وكانت هذه الهويات عناصر لازمة منذ بدأ الإنسان في التجمع والإستيطان، في خضم الصراعات المحتدمة من أجل الحصول على الكلأ والماء، معبرة عن خصوصية ثقافة وعادات وتقاليد كل مجموعة وعن تمايزاتها، لتفصل بينها، بشكل حاسم، وبين المجموعات الأخرى. وقد بقي لهذه الهويات شأن لا يستهان به قبل نشوء الدولة الحديثة، حيث كانت الهوية الجزئية الحصن المنيع الذي تتمترس خلفه المجموعات البدائية، دفاعا عن كينونتها، أمام هجمات الأغراب.
أما وأن الحركة التاريخية، والتطور الإنساني، قد أفرغ تلك الهويات من مبررات وجودها، وجعل من تجاوزها أمرا ملحا، وضرورة قصوى، إذا ما أريد للأمة أن تحقق نهضتها، فإن محاولات بعثها، أو التشبث بتركتها، يغدو فعلا معوقا لمشاريع التنمية والنهضة. وتصبح الهوية الجزئية، في هذه الحالة، عامل تفتيت وفرقة. وهي في ذلك، على النقيض من الهوية الوطنية الجامعة التي تتحشد تحت فيئها الجموع، من أجل تحقيق منظومة من الأهداف والتطلعات المشتركة.
بمعنى آخر، الهوية الجامعة، ناتج وحدة مجتمعية، تتسق مع التحولات الإنسانية المتجهة نحو كتل كبرى من الشعوب. وهي التي بمقدورها نقل المجتمع العربي، من واقعه المتخلف إلى مجتمع حديث متقدم. وأيضا لكونها تتسق مع اقتصادات الأبعاد الكبيرة.
نحن إذا إزاء معادلتين: الأولى جامعة، تزج بطاقات الشعب بأسره في معركة البناء، وتجسدها الهوية الجامعة، بينما تجعل الهويات الجزئية، من أبناء الوطن كتلا هلامية متناحرة، تسعى كل كتلة للاهتمام بشأنها الخاص، وأوضاعها الخاصة. تنعزل الهويات الجزئية في “غيتوهات”، لتمارس طقوسها وتقاليدها خارج التاريخ. والنتيجة المنطقية لسيادة منطق الهويات الجزئية، هو التناحر والصراع، بين أبناء الوطن الواحد، وقيام كانتونات معزولة عن بعضها البعض.
ومن أجل ضمان استمرار تلك الكانتونات، وتشرنقها وبقائها في حالة عداء دائم مع محيطها المجتمعي، وفي ظل العزلة والغربة، لا مناص من التمسك بالاستتباع للقوى الخارجية، لكي تحميها على حساب مصلحة الأمم والأوطان، وتغييب التنمية المستقلة، والإرادة الحرة. وبالتأكيد سيكون الحديث عدميا، وزائفا في ظل كانتونات المحاصصات والقسمة، عن الديمقراطية والدولة الحديثة، والدستور والمؤسسات، كما هو عدمي وزائف الحديث عن السيادة والاستقلال والحدود العصية على الاختراق.
في الهوية الجامعة: الهوية الوطنية، يصبح الحديث عن المجتمع المدني تطابقا بين المعنى والواقع وبين المضمون وتماهياته، حيث تتحدد وظيفة مؤسسات المجتمع المدني، كجزء مكمل لمهام المؤسسات الثلاث: التشريعية والقضائية، والتنفيذية، وكعنصر ضاغط لتلبية حاجات اجتماعية، مدنية. وتكون وظيفة هذه المؤسسات، كما هي في الأنظمة الديمقراطية، رعاية مصالح القوى الاجتماعية الممثلة فيها. أما الهويات الجزئية فإنها، عوم في مواجهة التيار. إنها تعبير عن أنماط المجتمعات القبلية، ما قبل التاريخية. وهي أيضا تأخذ أشكالا إثنية وطائفية، تستمد مشروعيتها من العودة السحيقة إلى التاريخ، ليس في عناصره المتوثبة والحية، بل في اتجاهات ناكسة، ومعادية للمستقبل.
في الهوية الجامعة، يحدث تفاعل مبدع، بين الزمان والمكان، بين التاريخ والجغرافيا فتصبح الهوية نتاج تمازج خلاق بين العناصر الأصيلة والحية في التاريخ، بما في ذلك الإسهامات الفكرية والثقافية الإنسانية العالمية، لإثراء وتخصيب مجالات العطاء والفعل. أما الهوية الجزئية، فإنها انتقائية، في علاقتها بالتاريخ، كونها تختار منه، ما يعزز عزلتها وانغلاقها، ويرسخ حضور كيانيتها. أما فيما يتعلق بما هو إنساني وعالمي، فوار ومتحرك، فإنها منغلقة بامتياز على عطاءاته وإبداعاته.
الهوية الجامعة، في ظل الدولة المدنية هي بطبيعتها تجريبية نقدية، لأنها تؤمن بالعلم الحق والعمل الحق، وكل شيء خاضع للتحليل والبرهان. ولذلك تتواصل عملية الكشف والنضال المعرفي، لخلق مستقبل أفضل للجميع. أما الهوية الجزئية، فإنها استقرائية، كونها تُخضع التاريخ لتفسيراتها الخاصة، المتكلسة والمتبلدة. إنها تعتقد بمعرفتها لكل شيء، وخبرتها في كل شيء، وأنها هي الفرقة الناجية، في حين أنها في حقيقتها تغفل عن أبسط أبجديات القراءة. أما علاقتها بالتفكيك والتحليل، فإنها تعيش تماما خارج هذه الدائرة. علمها في الغالب، هو علم النصوص الجامدة، وعلاقتها بالاجتهاد علاقة عداء وخصومة. وهي لا تتورع عن الإفصاح عن عدائها الصريح للتاريخ ولرموزه وتجلياته. وإن أدغمت ذلك في بعض الأحيان، فإنها تفعل ذلك عن عمد، ومن منهج باطني، لن يتردد في التكشير عن أنيابه، متى ما أتيحت له الفرصة في تحقيق ذلك… وتجربة العراق “الجديد” ماثلة للعيان على كل حال.
في تاريخنا العربي، مثلت رسالة الإسلام هوية جامعة للمؤمنين، وبالإسلام تحققت فكرة الأمة، كما عبرت عنها رسالة السماء. وتطور الانتماء العربي الجامع، من إرهاصاته الجنينية، حيث الاعتداد بالعرق والنسب، إلى ارتقاء بالهوية، من حالة الانغلاق، إلى اعتبار الدين واللغة عنصرين رئيسيين في تكوين الأمة حيث علمنا الرسول الأعظم (ص) “أن الرب واحد، والأب واحد والدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي باللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي”وهكذا انتقل العرب من عصر العصبية، والانغلاق والتقهقر إلى الخلف، إلى هوية جامعة، تحقق فيها تفاعل إنساني، خلاق مكن العرب من الاقتحام بجيوشهم الأرض، ليكونوا دولة مترامية الأطراف، ولينشروا الإسلام إلى حيث شاءت إرادة الله.
cdabcd
yousifsite2020@gmail.com