في الموقف من التراث
عند كل نازلة كبرى تمر بها الأمة، يطرح السؤال حول ما كان سائدا من الأفكار، ويتبارى الكتاب والأدباء والفنانون، في هجاء المرحلة التي أذنت النازلة بأفولها.
حدث ذلك بعد الحرب العالمية الأولى، حين جرى تقسيم المشرق العربي، وفقا لنصوص اتفاقية سايكس- بيكو، حيث حمل زعماء النهضة ورواد عصر التنوير تبعات ما جرى. وبدأت حقبة جديدة في التاريخ العربي، منذ نهاية العشرينيات من القرن المنصرم كانت الريادة فيها للإسلام السياسي.
ومرة أخرى، حدث ذلك بصورة أكثر كاريكاتورية ودرامية، إثر نكسة 1967م، حين حمل الفكر القومي مسؤولية الهزيمة. وانبرى الكتاب والشعراء في هجاء حقبة ما قبل النكسة. وكان الأبرز بينها قصيدة هوامش على دفتر النكسة لنزار قباني، التي نعى فيها تلك المرحلة. ومن ضمن ما شمله الهجاء هو التراث العربي، الذي اعتبر مسؤولا عن تخلف الأمة، وعائقا يحول دون تقدمها ونهضتها.
في هذا الحديث، نساجل ضد هذه الأطروحات، منطلقين من أن تقييم الواقع العربي، ينبغي أن لا يكون رهينة للأفكار التي سادت، منذ بداية عصر التنوير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بل من خلال تحليل الواقع الاجتماعي والسياسي، وبشكل خاص في مراكز النهضة التي انطلق منها عصر التنوير. والمراحل التي أشرنا لها، ليست متماهية في الشكل أو المضمون، بل هي نتاج تطور تاريخي، وتدافع استمر لأكثر من قرن من الزمن، منذ بدأ الكفاح العربي للتخلص من نير الاحتلال العثماني وتحقيق الاستقلال، إلى معارك التحرر الوطني ضد الاستعمار الغربي، ومن ثم إلى قيام أنظمة وطنية، واجهت قوى عتية، ولم يكن توازن القوة والإرادة في صالحها.
السائد في شأن الثقافي العربي، هو أن التضاد بين الأصالة والمعاصرة، هو شأن تاريخي، لا يرتبط بزمن محدد. والعلاقة بينهما في الغالب، وعلى الصعيد الثقافي العام تبادلية. إن ضمور أحدهما يصبح مدعاة لبروز الأخر. والتراث في المخيال العربي، يرتبط بالجانب السلبي من الحياة الماضية، كما هي الحداثة تتجه دائما نحو المستقبل. لكن هذا الفصل تعسفي. لأن التداخل بين المفهومين، يجعل من الاستحالة عمليا الفصل بينهما. فالتراث يعنى بعادات الناس وتقاليدهم، التي تناقلونها على مر التاريخ، جيلا بعد جيل، ومن ضمنها الثقافة والفنون، بجوانبها الإيجابية والسلبية.
في هذا الصدد، يشير الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه، التراث والحضارة، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، إلى أن وصف التراث بالردة الفكرية، وبالظاهرة المرضية، وبالعصاب الجماعي، وتحميله المسؤولية عن الهزائم التي عانت منها الأمة، والذي يوجه من قبل عدد من المشتغلين بالشأن الفكري، هو أمر غير دقيق.
يميز الجابري، في قراءته، بين نظرتين إلى التراث، نظرة “تراثية للثراث” طبعت الثقافة العربية منذ عصر التدوين، إلى ما قبل عدة عقود، سمتها الحوصان، وإعادة انتاج القديم، مما أدى إلى تكلس وتقوقع واجترار الثقافة العربية لذاتها، دونما تطور يستحق الذكر. وهو ما يمنح للاتهامات التي أشرنا لها بعض من المشروعية. أما النظرة الثانية للتراث، والتي ينبغي تعميمها، فهي النظرة الحداثية له.
الحداثة من وجهة النظر هذه، لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي، بقدر ما تعني، الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث، إلى مستوى المعاصرة، ومواكبة التقدم الذي يجري بوتائر سريعة على المستوى العالمي.
إن من شأن تطور الثقافة، أن يسهم في إعادة النظر في كثير من عناصر التراث، فلا يختزله فيما هو مقدس فقط، أو فيما تراكم من معتقدات لا تتسق مع الحاضر. لقد كان أهم ملمح لعصر الأنوار الأوروبي، أنه نبش في الماضي السحيق، واستعادة للعقلانية الإغريقية، التي مثلها مجموعة من الفلاسفة والمنظرين من أمثال أرسطو وأفلاطون وأرخميدس.. وكثير غيرهم. وفي تراثنا العربي، هناك علماء عظام قدموا الكثير من ابداعاتهم وعطاءاتهم للإنسانية جمعاء، كابن النفيس والكندي وابن سيناء والرازي وابن الهيثم وابن رشد وابن خلدون وعشرات غيرهم، وكل ما أنتجوه وأضافوه، هو ضمن ما هو موروث من تراثنا العربي.
والتنوير العربي، الذي التزم بمبادئ الحداثة، ليس استثناء، فقد اعتبر قادته حراكهم انبعاثا جديدا للأمة، وأطلق على تلك المرحلة في حينه، بحركة إحياء عربي جديدة، تهدف إلى أن يواصل العرب دورهم الحضاري، الذي عبرت عنه النهضة العربية بتجلياتها المشرقة. وقد تجلى ذلك في نتاج اليازجي والبستاني والعريسي، والكواكبي، وغيرهم ممن دعا للعلم الحق والعمل الحق.
د. يوسف مكي
التعليقات مغلقة.