في العلاقة بين الحرية والإرهاب

0 211

قد يبدو مستغربا أن يجري الربط في عنوان هذا الحديث بين مفهومين لا يختلف اثنان على تنافرهما وتضادهما هما الحرية والإرهاب، وأن يجري البحث في موضوع العلاقة بينهما وهما ضدان لا يلتقيان. ولذلك يقتضي التنبيه ابتداء، إلى أننا لا نقصد هنا بـ”العلاقة” معنى الانسجام أو التجانس بين المفهومين، بل الجانب التبادلي الذي يربطهما، وسيجري التركيز في هذه المناقشة على المعادل المتكافئ الذي يفترض في حيوية أحد هذين المفهومين ضمورا للآخر، وهي علاقة حسب تعبير علم النفس، علاقة تعويضية، يلجأ فيها المحروم إلى استخدام حيله الدفاعية لتلبية طموحاته وتحقيق توازنه النفسي.

 

ولعل من الأهمية التأكيد على أنه في كل مجالات الحياة، في هذا الكون الرحب الفسيح، هناك غاية من السعي والوجود على هذه الأرض. وفي هذا الجانب، لا تختلف النصوص الواردة في الكتب السماوية، “وجعلنا لكل شيء سببا”، وتلك التي تبرزها العلوم الطبيعية أو القوانين الوضعية أو النظريات الاجتماعية ذات العلاقة. إن هناك وظائف للحواس وهناك وظائف وحاجات لكل الأعضاء، وقد ثبت علميا أن انتفاء الحاجة لأي من الأعضاء أو الغرائز والحواس أو وجود ظروف مستجدة تحول دون قدرتها على ممارسة دورها بشكل طبيعي من شأنه أن يؤدي إما إلى اضمحلالها وضمورها، كما هو الحال مع الزائدة الدودية مثلا بالإنسان، وكما تقول نظرية النشوء والارتقاء عن اختفاء بعض الأعضاء الوظيفية في الكائن الحي. أما إذا كانت تلك الغرائز والأعضاء والحواس من القوة، بحيث لا يمكن أن تتواءم مع الواقع الجديد، فإنها تضطر إلى أن تنحرف في نشاطاتها عن وظائفها الأصلية، وتوجد مخارج أخرى لها.. المهم أنها تواصل أداء الوظائف المنوطة بها. وحين يتعلق الأمر بالغرائز والسلوكيات، يشكل هذا الانحراف خطرا محققا على المجتمع بأسره، إذ تشمل هذه الحيل السرقة والقتل والنصب والشذوذ، وما إلى ذلك من الظواهر الاجتماعية السلبية.

 

إن واحدة من المسلمات الإنسانية أن الإنسان ولد حرا، بمعنى أنه يملك القدرة على صنع أفعاله. ولذلك فإنه بعد سن النضج، وهو السن المتفق عليه بموجب الشرائع والقوانين يصبح مسؤولا أمام المجتمع ومحاسبا عن أفعاله. وقد جاء الإسلام محرضا إلى جانب الحرية، وكانت صرخة الخليفة العادل عمر بن الخطاب، ولا تزال، صوتا مدويا يقض مضاجع الطغاة، “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”.

 

لقد كان تعريف الحرية في العصر الحديث، ولا يزال موضع جدل وخلاف بين المنظرين، ولكنها بشكل عام، كما عرفها هارولد لاسكي تعنى الحالات الاجتماعية التي يكون الإنسان فيها قادرا على تقرير حوافزه ومطالبه. والحرية، بهذا المفهوم، لا تضع ضوابط على قدرة الإنسان لتحقيق سعادته، في حين أصر جورج هيجل على أن الحرية حتى وإن كانت تعني قدرة الإنسان على تحقيق مطالبه وسعادته فإنها يجب أن تعمل ضمن قوانين الحكومة التي تعيش تحت سقفها. الحرية بالجوانب العامة التي ليست موضع خلاف هي الحق في الإعتقاد والتفكير والتعبير ورفض العدوان، وأن تشكل الجمعيات والمؤسسات المدنية التي تكفل التعبير عن جملة هذه الحقوق.

 

والواقع أن قضية الحرية، إلى جانب قضية الخبز شغلتا الناس في معظم العصور. وقد كان التاريخ الإنساني في جانب كبير منه سجلا للصراع من أجل نيلهما، وكانت العلاقة بينهما متداخلة ومترابطة، في ذات الوقت الذي تبدو فيه منفصلة عن بعضها البعض، ذلك لأن شرط الحرية هو القدرة على التقرير والتنفيذ، ولن تكون هذه القدرة متوفرة عند شعب جائع ويفتقد الحقوق الإنسانية الأساسية لمواجهة المتطلبات الحياتية اليومية. ومن هنا جاءت مسألة الربط بين العدالة الإجتماعية وتحقيق الحرية عند كثير من المذاهب السياسية والفلسفية، ومن هنا أيضا جاء النقد الحاد من بعض المصلحين للنظام الرأسمالي الذي يركز على فكرة الحرية السياسية دون ربطها بالحاجات الإجتماعية والإقتصادية. إن هذا الفهم يعني أن غياب أحد هذين العنصرين يقتضي بالضرورة غيابا للعنصر الآخر.

 

فعلى سبيل المثال، في بلادنا العربية، أثناء الهيمنة الإستعمارية التقليدية، بدت الحرية وتحقيق العدالة أمرا واحدا، حيث تلازم غيابهما مع الإحتلال وقمع الحريات والسطو على الثروة. ولذلك أصبح خروج المستعمر شرطا لازما لوجودهما. لقد غيبت الحرية والعدالة بمفهومهما الشامل والواسع في كل بلدان العالم الثالث، وبضمنها البلدان العربية، التي سقطت بفعل الهجمات الغربية الصليبية، وفرض عليها أن تخضع انتاجها الزراعي، ليس لغرض تلبية حاجاتها، بل لمواجهة متطلبات الأسواق الأوروبية. والنتيجة من ذلك أن شعوب هذه البلدان قد عانت في آن واحد من حرمانها من ممارسة حريتها، وجرى تخريب قاعدتها الإنتاجية، وساد الجوع والدمار فيها، فكان أن امتشقت السلاح دفاعا عن حريتها ووجودها.

 

إن غياب هذه الحقوق قد شكل ولا يزال معضلة حقيقية في واقعنا العربي. وفي ظل غياب الحريات وفشل المشروع النهضوي العربي الذي برز منذ بداية القرن الماضي، واستمرار حالة التشظي والتشرذم، ووقوع البلدان العربية مجتمعة في شرنقة التبعية وعجزها الملحوظ عن اللحاق بركب التطور العالمي، وفشلها في مواجهة المشروع الصهيوني، وأمام انعدام القدرة على التعبير عن الرفض والمعارضة بشكل سلمي، كل ذلك قد خلق احتقانا واسعا وعميقا في البنيان الاجتماعي العربي، أدى بكثير من العناصر إلى اللجوء إلى إيجاد مخارج لها.. إلى حيل دفاعية تحقق من خلالها توازنها النفسي، فكان الإرهاب هو الظاهرة التي عصفت بالمنطقة بأسرها منذ بداية الثمانينيات، حيث شكل اغتيال الرئيس المصري أنور السادات أول بروز جدي وواضح لها.

 

وعلى هذا الأساس، فإن ظاهرة الإرهاب المتلازمة مع ضحالة الفكر، هي تعبير واضح عن حالة التردي والسقوط بعد أن بهتت مؤشرات النهوض المتمثلة في الوحدة والحرية والإبداع وتحقيق التنمية، بكل تفرعاتها وتشعباتها.

 

هكذا تلجأ المجتمعات في التاريخ الإنساني بأسره إلى حيلها الدفاعية للتعبير عن عجزها وتحقيق توازنها النفسي. فعندما هزمت أثينا، منبع الفلسفة والفن، في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، تدفقت على حضارة اليونان الأفكار الخرافية وروح الإستسلام، وبدأ انتشار المذاهب الرواقية واللاأدرية والأبيقورية التي لم تكن تعني غير القبول بالهزيمة والإستسلام، وتحقيق التوازن النفسي للشعب المهزوم، بإحلال اللذة والسرور بدلا من الكفاح. وتكرر بعث هذه الفلسفة في القرن التاسع عشر بعد أن أجهضت الثورة الفرنسية التي رفعت رايات الحرية والإخاء والمساواة، وبعد أن فتك الثوار بعضهم ببعض.

 

وفي هذا الإتجاه، أشار فرانز فانون في كتابه معذبو الأرض إلى أن حالة العنف التي تسود مواسم الفرح وكثير من الطقوس الدينية عند بعض القبائل الأفريقية هي تعبير خارجي عن التأزم النفسي والكبت الذي تجسده سيطرة المستعمر الأوروبي. إن رقصة السيف التي تذهب بالكثير من الضحايا من السكان الأصليين هي تعبير عن رفض غير خلاق للواقع القائم. إنها رفض لعنف المستعمر يعبر عنه بعنف آخر غير موجه توجيها سليما.

 

وفي التاريخ العربي، أمثلة حية متطابقة مع هذا التحليل، ففي مواجهة الطغيان في العصر الأموي برزت فلسفة المرجئة، قائلة بالجبرية وبتأجيل العقاب. أما فاجعة كربلاء فقد أدت إلى انتشار ظاهرة الحزن والرثاء في الشعر العربي، بحيث طبعت الحياة الأدبية في البيئة التي حدثت فيها حتى يومنا هذا.. ولعل مثل هذا القول يصدق أيضا على الكثير من الممارسات في البيئة الأكثر تخلفا من الوطن العربي كطقوس الرفاعية في العراق والسيد البدوي في مصر.

 

وليس ببعيد ما حدث في كنيسة الزيتونة في القاهرة عام 1967م، حيث أعلنت أجهزة الإعلام المصري، وفي مقدمتها جريدة الأهرام على أثر نكسة الخامس من حزيران/ يوليو عن ظاهرة بروز السيدة العذراء في تلك الكنيسة، معلنة تضامنها مع شعب مصر في كفاحه من أجل إزالة آثار العدوان، بحسب تصريح وزير الداخلية آنذاك، السيد شعراوي جمعة.

 

هكذا تلجأ المجتمعات الإنسانية، حين تعجز عن مواجهة مصائرها وأقدارها، إلى الحيل الدفاعية لتحقيق توازنها النفسي، وهكذا أيضا يستمد قطاع واسع من الجيل العربي المسلم، في مختلف البلدان العربية، حيله من ماضيه ليقاوم محاولات التغريب، فيكون الإرهاب واعتماد العنف هو التعبير عن العجز أمام حالة التداعي والإنهيار، بعد أن عجزت القيادات السياسية والوطنية التقليدية والأنظمة الشمولية عن تحقيق الحلم اللذيذ في التحرر والإنعتاق.

 

إن القضاء على ظاهرة الإرهاب مهمة وطنية وقومية، تقع على عاتق النخب المثقفة بالدرجة الأولى.. وطريق البداية في المواجهة معها، هي العودة إلى المعادل الآخر.. تحقيق الحرية، والتسليم بالرأي والرأي الآخر، وفتح آفاق الحوار وأبوابه على مصاريعها، ودفع الخفافيش التي تتستر بالظلام إلى الخروج من مخابئها إلى وضح النهار وضوء الشمس، كمقدمة لصياغة مشروع عربي نهضوي جديد.

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2003-07-01

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

خمسة × 1 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي