في الدولة والسياسة
ربط ابن خلدون قيام الإمبراطوريات بالعصبية، مشيرا إلى أنها تمر بمراحل ثلاث هي العصبية والعمران والشيخوخة. وأن عمر الامبراطوريات مرتبط بزمن المرحلة الأولى. فكلما امتدت مرحلة العصبية، كلما استمرت لفترة أطول. والسياسة في سياق حديثنا هذا، هي فن إدارة هذه الامبراطوريات.
العصبية عند العلامة ابن خلدون، هي مرحلة الفتوة والحروب، وتمدد مساحة الامبراطوريات.
والعمران، هو مرحلة بلوغ الامبراطوريات أوج قوتها وتوسعها، على صعيد المساحة، وعدد العساكر، وعدتها، وتضخم الأجهزة والهياكل التي تسيرها.
وتشهد الامبراطوريات في فترة العمران، استرخاء ونزاعا على المغانم.
وتراخيا في مواجهة الغزو الخارجي، وبذلك تؤسس لمرحلة شيخوختها، وانهيارها.
الدولة كما أشرنا سابقا، مفهوم معاصر، ارتبط بالثورات الاجتماعية الكبرى.
ولا يزال مفهومها إشكالي، يبلغ حد التناقض.
قلنا أن مفهوم الدولة، هو مفهوم مرتبك، من حيث تعدد التعريفات، وبلوغها حد التناقض.
لكن تشخيص بن خلدون للامبراطوريات، يظل صحيحا، تجاه الدول الحديثة.
فهذه الدول، أيضا مرت بدورات تأسيس وصعود وتراجع.
وإلا كيف لنا أن نفسر تراجع دور بريطانيا، التي وصفت بأنها الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وكذلك فرنسا وإيطاليا والبرتغال، وهي بأضعاف مساحة الوطن المركز، عدة مرات، وغطت ممتلكاتها القارات القديمة والجديدة.
رغم الاختلاف في تعريف مفهوم الدولة، وعلاقتها بالمجتمع، لكن اليمين واليسار، يقتربان من التنظير حول مرحلية وجود الدولة بشكلها الحالي. فآدم سميث، في كتابه ثروة الشعوب، في شعاره الشهير “دعه يعمل” يطالب بدور محدود للدولة في شؤون الاقتصاد، وإطلاق التنافس الحر بين رأس المال، من دون تدخل الدولة.
ويقصر مهمتها، بجباية الضرائب، وحماية الأمن والتصدي للعدوان الخارجي.
وذلك هو جوهر التنظير للاقتصاد الحر.
أما ماركس، فيرى، أن الدولة هي جهاز قمع طبقي.
بمعنى أن وجودها مرتبط بوجود الطبقات، ونهايتها، سيطرة ما يطلق عليه بالبروليتاريا على السلطة، حيث تهيأ لنهاية هذا الصراع.
وأن ذلك سيتبعه نهاية الدولة، ووحدة العالم، في نظام واحد، قائم على العدل بين البشر.
لكن كلا التنظيرين، يصطدمان بأمور جوهرية، هي أن وجود جهاز يدير البلد، كان دائما حاضرا، عبر التاريخ المدون لدينا، منذ حضارات مصر ومابين النهرين والإغريق والصين والهند، سواء كانت المسميات امبراطوريات أم ممالك، أو دول مستندة على العلاقات التعاقدية.
ثم أن التجربة التاريخية، لا تشي مطلقا، بتراجع دور الدولة على كل الأصعدة، بل العكس صحيح. والثابت أن الدولة تخفف من وطأة تدخلها في الاقتصاد، في مرحلة الاسترخاء، لكنها عند الأزمات الاقتصادية، لا تتردد عن التدخل، وكثيرا ما يصل حد التدخل، تأميم الفعاليات الاقتصادية الكبرى، من كهرباء وصناعة ووسائل نقل.
وليس شرط تحقيق ذلك وجود حكومات بتوجهات يسارية.
وفي هذا السياق، نشير إلى الحكومة الفاشية في إيطاليا، وممارسة الحزب النازي في ألمانيا، وحزب العمال في بريطانيا، والقائمة طويلة.
الدولة، على هذا الأساس، ليست مفهوما مجردا.
إنها الأرض والهياكل والأجهزة والبشر، الذين يديرون ماكنة السياسة، ومجموع العناصر الأخرى، التي تشكل منها كيانا مستقلا قائما، وهي نتاج التطورات القومية والتنظيمية، التي أخذت مكانها في الأربعة قرون المنصرمة.
ولأنها كذلك، فإن تأسيس هياكل الدولة، وأجهزتها، لا يرتبط، كما أثبتته التجربة التاريخية، بمرحلة العصف الثوري، الذي صاحب التحولات الاجتماعية الكبرى، بل يعقبها. ففي فرنسا، لم يبدأ بناء أجهزة الدولة، إلا في العقد الثاني للثورة، وفي انجلترا، لم يتحقق بناء الدولة، إلا بعد هزيمة المتطهرين. والحال، هذا ينطبق على روسيا، التي تأسست أجهزتها، بالمرحلة الستالينية. وفي الصين، التي خرجت بقوة إلى المسرح الدولي، بعد إسدال الستار على الثورة الثقافية، ورحيل ماوتسي تونغ، قائد الثورة الصينية.
الأمور، لا تسير دوما وفقا لتمنياتنا ورغباتنا، فتأسيس الدول ليس بالضرورة، مرتبط بالقيم النبيلة. لقد تمكنت دول أوروبا الصناعية، من بناء نهضتها على حساب شعوب العالم الثالث، ونهب ثرواتها.
ومنها إعاقة التطور بالوطن العربي، حين جرى تدمير منهجي للموانئ العربية في البحر الأبيض المتوسط، وأيضا بدأ الزحف الاقتصادي الأوروبي، إلى الأسواق العربية محققا قضاء مبرما، على الصناعات اليدوية، التي مثلت في حينه، عماد اقتصاد مصر والعراق وبلاد الشام.
وعلى هذ الأساس، فإن تأسيس الدولة العربية، يقتضي استلهام هذه التجربة التاريخية، والتوجه بثبات، نحو بناء الاقتصاد المنتج، لأنه هو الطريق الوحيد لبناء دولة حديثة، قادرة على دمجنا بالحراك العلمي والإنساني المتجه إلى الأمام.
د. يوسف مكي