في الجغرافيا والسياسة
في لقاء جمعني مع نخبة من المثقفين كان الحديث عن التاريخ، وأهمية دوره كمرشد لقراءة المستقبل. لكن تداعيات الحوار نقلت الحديث إلى السياسة، وذلك أمر طبيعي في منطقة وزمن يجعلان النأي عنها، من قبل المثقفين والمهتمين بالشأن العام، أمرا أقرب إلى المستحيل.
وعندما تحضر السياسة تحضر المقاربات والمقارنات، لأن الأشياء تعرف بأضدادها، وليس بنظائرها. الحديث قاد إلى التاريخ القديم، والمقاربة هي تاريخ وادي والنيل وبلاد ما بين النهرين.
لماذا هذا الانتقال السريع، في أنظمة الحكم في بلاد ما بين النهرين، واتسام ذلك بالطابع العنفي. في عملية الانتقال. وكان من نتائج ذلك أن تلك البلدان لم تنعم كثيرا باستقرار تاريخي، وبسلطة مركزية ممتدة على مر العصور. ولماذا اختلف الأمر في وادي النيل، فاستمرت الأسر الفرعونية في حكمها لمصر من غير انقطاع، لعدة قرون.
وقادت الأسئلة تلك لأسئلة أخرى، كيف تم الفتح العربي في بلاد الشام والعراق، وكيف تم الفتح في مصر. ولماذا تلك الفتن والثورات المتتالية، في العراق بعد نهاية مرحلة الخلافة الراشدة، من موقعة الجمل وصفين والنهروان، إلى حركة التوابين فسيطرة المختار بن أبي عبيد الثقفي على العراق، وإسقاطه من قبل مصعب بن الزبير، ثم مصرع الأخير على يد الحجاج بين يوسف الثقفي، وثورة زيد بن علي بن الحسين، القائمة طويلة. الأمر مختلف تماما في أرض الكنانة، حيث لم يسجل لنا التاريخ في تلك الحقبة أية مظاهر جدية للتمرد على مركز الدولة، أو على الوالي المعين من قبلها. وتداعت المناقشات لتنتقل إلى السؤال عن الكيفية التي تعامل الإقليمان بها تاريخيا مع المحتل الأجنبي؟.
يطرح المؤرخ البريطاني، أرنولد توينبي في كتابه تاريخ البشرية، نظرية تقدم بعض الإجابات المنطقية عن هذه الأسئلة. فيشير إلى أثر البيئة في البناء النفسي للفرد، وتأثير ذلك في صناعة الحضارات الإنسانية.
في هذا السياق، يشير توينبي إلى أن علاقة الإنسان المصري بالنيل هي علاقة محاكات، وليست علاقات صراع. إن المياه التي تتدفق من هضبة الحبشة، تعبر النيل، مرورا بالسودان إلى مصبها في حوض البحر الأبيض المتوسط، تجري رقراقة وبانسباب. ونادرا ما يصحبها فوران وفيضان. لا تتكتل الثلوج بكثافة في هضبة الحبشة، بل تنزل في الغالب في شكل أمطار استوائية، طيلة العام. وليس على الفلاح المصري، كي يوسع من مناطقه الزراعية، سوى محاكاة النهر. فينقل النباتات من حول ضفافه، إلى مناطق أوسع. وكان ذلك من أسباب وجود سلطة مركزية مستقرة، تقوم بمسؤولية توزيع المياه بشكل عادل على عموم الناس.
والنتيجة أن علاقة الإنسان المصري بالنيل، هي علاقة سلم ومحبة، وهو بالنسبة لهم مصدر حياة مصر وازدهارها. ومصر كما قال عنها المؤرخ اليوناني هيرودوت هبة النيل.
أما دجلة والفرات، فشأنهما مختلف بشكل كبير عن حال النيل. إن مصدرهما تراكم الثلوج في فصل الشتاء بالجبال التركية. ومياههما لا تتفق بقوة طيلة العام، بل في وقت معلوم، هو وقت الربيع وأوائل فصل الصيف، بعد ذوبان الثلوج، حين تشتد حرارة الشمس، فتنزل المياه في شكل شلالات عاتية، محدثة فيضانات كبرى، تقضي على الزرع، وتدمر القرى. وهكذا فإن علاقة الإنسان فيما بين النهرين، بنهري دجلة والفرات هي علاقة غضب وتحد. وآخر ما يمكن أن توصف به أنها علاقة سلم ومحبة.
لقد اضطر المزارع، في بلاد ما بين النهرين، إلى أن يجترح أساليب جديدة، لمواجهة الفيضانات، وضمان استمرار تدفق الماء لمناطقه طيلة العام. فشق الترع وقنوات المياه. وبنى السدود، من أجل تطويع النهر وإخضاعه لمصالحه ورغباته. فكان هذا التحدي مصدر إبداع وعطاء.
لكن تعدد مصادر المياه، التي تأتي من نهرين رئيسيين ومن المطر الغزير الذي يتساقط في موسم الشتاء والخريف، غيب الحاجة لسلطة مركزية، تنظم توزيع الماء. لكن القلق المستمر ظل سمة عامة للناس، فيما بين النهرين. فقد كان عليهم أن يواجهوا باستمرار تحديات الطبيعة، ممثلة في الفيضانات التي تحتاج إلى كوابح تمنعها من التدمير وتخريب الزرع. وكان عليهم أيضا أن يكونوا قدريين في زراعتهم المطرية، منتظرين ما تجود به السماء عليهم. وكثيرا ما تحدث حالات ينقطع فيها المطر، وبانقطاعه، يغيب الأمل ويسود التوتر. وكان لذلك تأثيره المباشر على خلق إنسان في حالة توتر وقلق دائم في هذه البلاد.
يضاف إلى ذلك اختلاف المناخ، بين أرض الكنانة وبلاد ما بين النهرين. ففي الأولى جو معتدل صيفا وشتاء. وفي الثانية، برد شديد قارس في الشتاء، وحر لاهب في الصيف. أما حين نأتي للتضاريس، فإن مصر حول النهر تكاد تكون مستوية، من الشمال إلى الجنوب. أما العراق فهو قار رغم حجمه المحدود يشكل قارة قائمة بذاتها. ففيه الصحاري والوديان والجبال. ولكل منها طباعها وسلوكها، وأحيانا ثقافتها ولغتها الخاصة.
والعلاقة بين الوديان والجبال والصحاري، كانت باستمرار علاقة صراعية. ومن يكسب منها في المعارك يشيد امبراطوريته. ولذلك تعددت الحضارات والمسميات. فهناك الحضارة الآشيورية والأكدية والسومرية والبابلية. وكل واحدة منها تعبر عن هيمنة جزء من البلاد على المناطق الأخرى. وبقيت كل منها منعزلة في شكل مستوطنات عن بقية البلاد. ومثل ذلك حدث بشكل أو بآخر في بلاد الشام، حيث الفرات والزراعة المطرية.
لقد أوجدت الجغرافيا إنسانا مستقرا في وادي النيل، ومع محدودية مصادر الثروة المائية، كانت الحاجة ماسة لدولة مركزية تنظيم مصدر الحياة. فكانت قدسية الدولة جزء من ثقافة المصري. ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة لقاطني أرض السواد. فالإنسان هناك قلق باستمرار ولم يكن بحاجة لدولة مركزية، لتنظيم ثروته المائية. فكان الانفلات وتعدد الثورات، والتغير المستمر في أنظمة الحكم سمة طبعت تاريخه.
وبموجب هذه القراءة تصبح السياسة، في جانب كبير منها صناعة الجغرافيا.. لكن للتراكم التاريخي دوره الذي لا يستهان به.