في التقارب الروسي التركي

0 483

شهدت العلاقة بين روسيا وتركيا، بالفترة الأخيرة تحولا كبيرا. فقد قام بوتين بزيارة إلى تركيا، وأجرى محادثات مكثفة، مع أردغان، تناولت جملة من القضايا السياسية، وتطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين, وانتهت الزيارة بنتائج باهرة، على الصعيد الاقتصادي.

التزم الرئيس بوتين بتصدير الغاز إلى تركيا، بسعر مخفض حدد ﺑ7%، عن سعر السوق. والتزم ببناء مفاعلات نووية بتركيا، ورفع التبادل التجاري بين البلدين. ووافقت تركيا، على مد أنبوب غاز روسي يمر أراضيها، عبر البحر الأسود إلى الدول الأوروبية، وبطاقة سنوية 63 مليار متر مكعب، بينها 14 مليار متر مكعب ستذهب إلى تركيا لتكون بديلا عن أوكرانيا.

سيكون من الصعب الحديث عن الحاضر التركي، من غير ربط ذلك بالسعي الدؤوب للحكومات التركية السابقة، للانضمام بالاتحاد الأوروبي. والذي اصطدم باستمرار، بمعوقات كبيرة، من قبل الأوربيين، تحت ذريعة عدم التزام الجانب التركي بمعايير حقوق الإنسان.

غالبت السلطات التركية كثيرا، التوجه نحو البلدان العربية. وسكن في يقينها أن العرب، الذين يشتركون معها في ديانة واحدة، غدروا بها في الحرب العالمية الأولى، وانضموا مع الحلفاء في الحرب ضد السلطنة العثمانية، في حين كان الأولى بهم أن يقفوا إلى جانبها.

قبلت تركيا بالهزيمة، واندفعت نحو الغرب. وكان مؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، قد بدأ التوجه بقوة نحو الغرب. استبدل الحروب العربية باللاتينية. وألحق بلاده على أكثر من صعيد، بالمنتصرين. وبقي الالتحاق بالغرب، حلما يراود الأتراك قرابة قرن من الزمن.

بالنسبة لروسيا، لم تكن على وفاق مع الأتراك. فتركيا عضو بحلف الناتو، وحجر أساس، في استراتيجية التطويق العسكري الغربي لها، حيث كانت عضوا فاعلا، في حلف بغداد، وحلف المعاهدة المركزية. وقد أسست هذه الأحلاف أثناء الحرب الباردة، وضد الاتحاد السوفييتي.

بسقوط الاتحاد السوفييتي، توجهت روسيا نحو الاقتصاد الحر. وتحولت علاقتها بالغرب من الصدام، إلى الشراكة. فجرى تعاون مشترك في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية، ومجال الفضاء. واتجهت روسيا نحو تعزيز علاقاتها بخصومها السابقين، ومن ضمنهم تركيا.

ومرت روسيا، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بمرحلة صعبة. فلم يكن سهلا الانتقال من نظام سياسي واقتصادي، لنظام آخر، من غير تكاليف. لقد بهت دورها الإقليمي، وتعطل حضورها في المسرح الدولي. ويمكن القول أن انبعاثها الجديد، يعود لقيادة الرئيس الحالي، فلاديميير بوتين.

لكن التعافي السريع لروسيا بوتين، تزامن مع طموحات باستعادة دورها الإقليمي والدولي. فكان تدخلها في جمهورية جورجيا، ومؤخرا في أكرانيا، وضمها شبه جزيرة القرم، وتحالفها مع الصين، واستخدامها المتكرر لحق النقض، الفيتو في مجلس الأمن الدولي. لقد جدد ذلك أجواء الحرب الباردة. وأدى لفرض عقوبات اقتصادية حادة عليها. وكان من نتيجة ذلك، أن الحكومة الروسية، بقيادة بوتين، بدأت في البحث عن مخارج لأزمتها الاقتصادية.

لقد بدأت روسيا الاتحادية، بالتوجه بصادراتها نحو الشرق. وتأتي زيارة بوتين لتركيا، في سياق سعيه لإيجاد متعاملين جدد مع بلاده، في مجال استيراد الغاز والنفط. والعمل على الفكاك من الحصار الاقتصادي الذي فرض مؤخرا على بلاده.

من جهة أخرى، توجهت تركيا مضطرة إلى الجنوب، تحت ضغط رفض الاتحاد الأوروبي قبول عضويتها. وحين توصل حزب العدالة والتنمية للسلطة، طرحت حكومة أوردغان شعار صفر مشاكل. وعززت علاقتها بالحكومة السورية. وتبنت مواقف مناصرة للقضية الفلسطينية، فأرسلت السفينة التركية مرمرة، محملة بالأدوية والأغذية، لقطاع غزة، كتعبير عن رفضها للحصار المفروض على القطاع. لكن البحرية الإسرائيلية اعترضتها في البحر، قريبا من الشواطئ الفلسطينية، وقامت بضربها.

لكن الصورة تغيرت فجأة، بعد حدوث “الربيع العربي”. فقد اتخذت تركيا مواقف مؤيدة للإخوان المسلمين. وساد أردوعان إحساس بأن العثمانية تبعث من جديد. وقف مؤيدا لثورات تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، وأتبع ذلك بالتدخل المباشر في السياسات الداخلية للدول العربية.

وبالنسبة لسوريا، احتضن أوردوغان مختلف قوى المعارضة، بما في ذلك تنظيم داعش. وبدأ يتحدث عن تبعية مدينة حلب وريفها للأتراك. وكان الموقف الروسي قد حال بينه وبين أحلامه. عول كثيرا على الأمريكيين ودول الاتحاد الأوروبي على التدخل العسكري، كما حدث في ليبيا، لكنهم خيبوا أمله في تحقيق ذلك.

وحين أعلنت الإدارة الأمريكية الحرب على الإرهاب، وقف ضدها، واقترح بدلا عن ذلك إقامة دولة إسلامية بقيادة داعش على محافظة الأنبار ونينوى والجزء الشرقي من سوريا، والعمل عسكريا على الحكم في سوريا. وحين لم يستجب لمقترحاته، اقترح تشكيل منطقة عازلة في الشمال السوري، على الحدود مع بلاده. ومرة أخرى واجه اقتراحه الخذلان.

ومن هنا يأتي اقترابه من روسيا بوتين، كتعبير عن امتعاض من سياسة أمريكا والدول الأوروبية. إنه يلتقي مع روسيا، في رفضها الحرب العالمية التي تشن على الإرهاب بقيادة أمريكية، كل لأسبابه الخاصة. فروسيا تريدها ضمن قرار من مجلس الأمن الدولي، وتخشى أن تؤدي نتائجها لإسقاط النظام القائم في سوريا، بينما تعارضها تركيا لأنها تخشى من تكريس وجوده.

سيتواصل التقارب الاقتصادي بين البلدين، وربما يتطور لاحقا إلى تشكيل مجمع روسي للغاز في تركيا، على الحدود اليونانية، كما أشار إليه بوتين في مؤتمره الصحفي.. لكنه لن يتسبب بأي تغيير في طبيعة تحالف تركيا مع الغرب. وسيعمل الطرفان، على تعزيز التعاون الاقتصادي بينهما، ليشمل مجالات أخرى. وفيما يتعلق بالأزمة السورية، فأن الطرفين أكدا اختلاف مواقفهما حول سبل حل الأزمة. ورغم ذلك، فإن من المستعبد أن لا يؤثر تطور العلاقات، على الموقف التركي، تجاه هذه الأزمة.

روسيا وتركيا، تعانيان من عزلة دولية خانقة، وعجز في الميزان المدفوعات، ولعل هذا التقارب هو الخطوة الأولى على طريق الألف ميل لفك هذه العزلة، وتحسين أوضاعها الاقتصادية.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

سبعة عشر − 16 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي