في التحدي والاستجابة

100

 

مدخل:

 

صدر العدد الأول من مجلة المستقبل العربي عام 1978م، والمنطقة، تعيش صدمة الانتقال الاستراتيجي، في الرؤية العربية الرسمية، للصراع مع الكيان الصهوني، من صراع وجود، إلى نزاع على الحدود، ومن يقين راسخ، بأن هذا الكيان، تهديد ماثل للأمن القومي العربي، إلى إمكانية التعايش معه.

 

والأنكى هو اعتبار أمريكا، العدو التاريخي، لحركة التحرر العربية، الوسيط والحكم والراعي، لما أطلق عليه بعملية السلام، مع الصهانية. والأخطر أن مصر، برئاسة أنور السادات، هي من روج لهذا التوجه. ومصر هي الأكثر كثافة سكانية بين الأقطار العربية، وهي قلب العروبة النابض، وحين يكون الخنجر في القلب، يكون الوجع قاتلا,

 

صدور “المستقبل العربي”، في تلك الحقبة المفصلية، جاء استجابة لملء فراغ فكري ماثل، يرفد خطوات أخرى أقدمت عليها جبهة الممانعة العربية، ردا على التفريط بالقضية والحقوق الفلسطينية.

 

وطيلة ثلاثة وأربعين عاما، واصلت المجلة مسيرتها بثبات. وكانت المهمة الأصعب، الموازنة الدقيقة، بين التمسك بالثوابت القومية، والالتزام الصارم بالمعايير العلمية. وقد كان ذلك، من ثوابت العمل، في مركز دراسات الوحدة العربية.

 

وخلال مسيرة المركز، مرت الأمة بأحداث جسام، أهمها معاهدة كامب ديفيد، التي أنهت التزام مصر تجاه تحرير فلسطين، واندلاع الحرب العراقية الإيرانية، وانطلاق انتفاضة أطفال الحجارة، وتخلي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عن خيار المقاومة، والغزو العراقي للكويت، وتوقيع اتفاقية أسلو بين عرفات والكيان الصهيوني، ووادي عربة، بين الأردن والكيان الغاصب. وانتفاضة الأقصى، والاحتلال الأمريكي للعراق، وحرب تموز 2006. و”ثورات” الربيع العربي. وفي كل هذه الأحداث، التزمت أدبيات المركز، بعناصر المشروع النهضوي العربي. وكان من نتاج ذلك أن بات المركز شعلة للفكر العربي، في الليل الدامس.

 

تهدف هذه الدراسة، إلى تقديم قراءة تحليلية، لأهم الأحداث التي عصفت بالمنطقة، والدول المحيطة، والساحة الدولية، خلال الأربعة عقود الماضية. والأهم هو علاقة هذه الأحداث بالوجود والمستقبل العربيين. وسنناقش هجمة التطبيع الراهنة مع العدو الصهيوني، كون فلسطين، هي القضية المركزية للعرب جميعا.

 

عالم يتغير:

 

التاريخ، حلقات متشابكة، وسلسلة ممتدة، ولكل حلقة مقتضيات خاصة بها، وذلك ما يجعل المراجعة، والمراجعة النقدية، ورسم استراتيجيات جديدة لمقابلة استحقاقات المتغيرات في السياسة العربية والإقليمية والدولية، ديدن أي فكر، عند كل مفترق طرق.

 

جاءت عناصر المشروع النهضوي، استجابة لتحديات ماثلة. فالتجدد الحضاري، رد على التأخر التاريخي، في البنيتين الثقافية والإجتاعية. والوحدة العربية، مواجهة لتحدي التجزئة. والديمقراطية، رد على الاستبداد. والتنمية المستقلة ضد التخلف. والعدالة الاجتماعية، رد على الاستغلال والفروق الطبقية. والاستقلال الوطني والقومي، في مواجهة الاحتلال والتبعية والهيمنة الأجنبية. والهدف هو إطلاق ديناميات التقدم على نحو يؤهل العرب للحاق بالحراك الكوني الدائر من أجل البناء والتنمية وتحقيق العدالة، والفكاك من إسار التبعية، بمختلف أشكالها. والوحدة العربية، هي سبيل ذلك، لأنها تمنح الأقطار العربية، قوة مضاعفة، وتأتي في سياق تاريخي، أهم سماته تشكل كتل كبرى، من الشعوب، تصل حد التكامل والاتحاد.

 

جاء هذا المشروع، متماهيا مع يقين راسح بأن فلسطين هي قضية العرب المركزية. وكان ذلك نتاج وعي عميق، بأن وعد بلفور وهو ما هيأ للاحتلال الصهيوني لفلسطين،[i] قد شكل إعاقة دائمة، لمشروع التحرر العربي، والذي اعتبر الاستقلال والوحدة، هدفين أساسيين لتحقيق نهضة العرب.

 

لقد أريد للإحتلال الصهيوني أن يكون إسفينا في نقطة الوصل بين مشرق الوطن العربي ومغربه، ليحول دون تقدم الأمة، ويشكل إعاقة للحلم الذي راود العرب طويلا، في تحقيق الوحدة العربية. وبهذا الإحتلال تم ضرب المشروع النهضوي العربي، المتمثل في عموده الفقري بالاستقلال والوحدة.[ii]

 

وبغياب الاستقلال الحقيقي والوحدة المنشودة، تظل كل محاولات الخروح من النفق كسيحة ومشوهة، طالما استمر  وجود الكيان الصهيوني، نتؤء سرطانيا ماثلا على أرض فلسطين.

 

حضور القضية الفلسطينية، في أدبيات المركز، ومجلة المستقبل العربي تحديدا، بعد أن جرى التعتيم عليها، بهدف محو الذاكرة العربية، طيلة الأربعة عقود المنصرمة، ينبغي أن يكون في سلم الأوليات. خاصة في هذه المرحلة، التي تتسارع فيها عمليات التطبيع، لتشمل بلدانا عربية، لم تكن بالأساس، رغم انتمائها الجغرافي للأمة، على خارطة الصراع مع العدو.

 

ينبغي الكشف باستمرار، عن مخاطر المشروع الصهيوني، على الأمن القومي العربي. واعتبار الصراع مع الصهاينة، صراعا وجوديا، ومعركة مصير. إن تحرير فلسطين، هو طريق العرب إلى الوحدة، والتنمية المستقلة، وسيادة قيم الحداثة، والعدالة الاجتماعية. وبدون رؤية فكرية، ترفد برنامجا كفاحياعمليا، للتحرير لإنهاء مشروع الحرب الصهيوني، تبقى أي مراهنة على السلام، مراهنة على الوهم، واستمرارا لهدر الثروات وضياع الحقوق.[iii]

 

لقد أكدت التجربة التاريخية، أن المشروع الصهيوني، لا يستهدف فلسطين وحدها، بل هو عدوان ماثل على الأمة العربية. وفي اعتداءاته تلك، تبدى حارسا ثابتا للمصالح الإمبريالية الأمريكية, وبالمقابل، وقفت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، تمده بمختلف أشكال الدعم، وتقف سندا لسياساته العدوانية.[iv]

 

 

تغيرات في موازين القوة الدولية:

 

في الحروب الكبرى، هناك منتصرون ومهزومون. والنظام الدولي، قديما وحديثا، هو انعكاس واقعي للتغيرات التي تأخذ مكانها في موازين القوة، بعد تلك الحروب.

 

في القرن الماضي، شهد العالم، حربين عالميتن، أدت نتائجهما لانبثاق نظامين دوليين، الأول بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تأسست عصبة الأمم على قاعدة رفض الاستعمار وحق الشعوب في تقرير المصير. وكان من نتائجها تخلخل موازين القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية للاستعمار التقليدي.

 

أقرت عصبة الأمم استمرار الهيمنة الإستعمارية على البلدان العربية، ولكن بمسميات الحماية والوصاية والانتداب. وجميعها تشي بمحدودية زمن ومستوى الهيمنة الاستعمارية على المنطقة. ولم يمض سوى أقل من عقدين زمنيين، إلا والعالم يشهد حربا كونية أخرى، أشد فكا وضرواوة.

 

النظام الدولي الذي انبثق بعد الحرب العالمية الثانية، توج الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، على عرش الهيمة الدولية، أمست ملامح هذا النظام واضحة، بعد توقيع اتفاقية يالطة في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1945. ولكن الترجمة الحقيقية، لتحديد موازين القوة، لم تبرز إلا بعد التحاق الاتحاد السوفيتي بالولايات المتحدة في حيازة القوة النووية.

 

أهم ملامح الخمسينيات والستينيات، من القرن الماضي، اشتعال الحرب الباردة، وتوسيع وتعزيز كل من القوتين العظميتين، نفوذهما السياسي والأيديولوجي والاقتصادي، وتشكيل مجموعة من الأحلاف العسكرية، لصالحهما، كان الأبرز بينها حلف الناتو وحلف وارسو. أما الملمح الآخر، فهو نأي القوتين عن المواجهة العسكرية المباشرة مع بعضهما البعض.

 

لقد غدت المواجهة العسكرية بين السوفييت والأمريكان مستحيلة، لأن حدوث ذلك يعني فناء محققا للبشرية. لكن ذلك لم يكن ينهي فصل هذه المواجهة، بل تغيير آلياتها وأنماطها وأشكالها.

 

نحت حروب حقبة الحرب الباردة، اتجاه نمطين: حروب العصابات والحروب التقليدية، وجميعها تشن بالوكالة، نيابة عن السوفييت أو الأمريكان. ولعل الأهم ضمنها، حروب الكيان الصهيوني، لحراسة المصالح الغربية، وحروب كوريا وفيتنام والجزائر وكوبا وأنجولا، وفي هذه الحروب، وقفت واحدة من القوى الكبرى خلفها، تقدم لها الدعم السياسي والعسكري والمال.

 

واستمر هذا النظام بثنائية قطبية حتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي. انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة إيطاليا وألمانيا واليابان، لكن هذه الأمم سرعان ما تمكنت من استعادة قوتها الاقتصادية. والسؤال الذي يواجه القارئ العربي، هو لماذا نحن بالذات الذين نظل خارج التاريخ؟! كيف لأمم أخرى، تمر بهزائم مريرة، وتنهض سريعا من كبوتها؟

 

واقع الحال أن العرب عانوا من انقطاع نهضة طويل، لأكثر من ألف عام، بعد سقوط بغداد. وحين بدأت الأمة يقظتها، لم تتمكن من تحقيق التراكم، فقد زج بها في خضم الأحداث. وكان تنافسها مع استعمار فتي، يفوقها قوة وعددا، وتراكما علميا. ولذك، لم تتمكن من وقف الزحف الاقتصادي الغربي، نحو المتوسط، وجاء اكتشاف رأس الرجاء الصالح، على حساب موانئها التجارية العريقة، في بيروت والاسكندية واللاذيقية. وتبع ذلك زحف سياسي وعسكري، والأمة لم تكن مستعدة له. وبسبب عوامل الضعف هذه ضاعت فرص كبيرة, ومنها فرصة بناء الدولة الحديثة، بعد التمكن من انتزاع الاستقلال.

 

لكن ما يبقى على الآمل، أن التاريخ دورات… إمبراطوريات تستنفذ أدوارها، وتحل أخرى محلها.

 

لقد بدأت ملامح التغيير في الخريطة السياسية الكونية تفصح عن نفسها ببطء منذ سنوات عدة. تمددت الإمبراطورية الأمريكية، وأصبحت قواعدها العسكرية تنتشر على امتداد جميع القارات، بما يعني زيادة هائلة في الأعباء والكلفة، بما لا طاقة للخزينة الأميركية لمقابلتها. والقانون التاريخي، يؤكد إنه كلما تضاعفت مسئوليات ومهمات الدول الكبرى، وتوسعت خارج حدودها، تضاعفت طموحاتها في المزيد من التمدّد. ولأن لكل بداية نهاية، فإن الخط البياني الصاعد لأمريكا بدأ تغيير اتجاهه نحو الأسفل، وكانت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول2001، نقطة تراجع النفوذ الأمريكي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية.

 

وليس على المرء سوى تصور حجم الأموال التي أهدرت في حربي أفغانستان والعراق، وعمليات الاستنزاف التي تبعت الحربين، وفيما عرف بالحرب على الإرهاب، وعمليات الاستنزاف التي تبعت الحربين، ليدرك مدى خسائر الخزينة الأمريكية، والتي تسببت في أزمة اقتصادية حادة عرتها أزمة الرهن العقاري.

 

وفي هذا السياق، صدرت تقارير اقتصادية عالمية، ووثائق من معاهد استراتيجية أمريكية، تشير لتراجع قدرة أمريكا على متابعة برنامجها الإمبراطوري، وتراجع نفوذها وقوتها. ورسمت صورة قاتمة لمستقبل أمريكي غير مستقر في العلاقات الدولية.

 

وما يهم في هذه القراءة، هو تداعيات ذلك التراجع، المباشرة وغير المباشرة، على الخريطة السياسية الكونية، وطبيعة التحالفات العسكرية والسياسية والاقتصادية بين الدول، ومن ضمنها بلداننا العربية. وفي هذا السياق، نلحظ أن أمريكا منذ عهد الرئيس آيزنهاور في الخمسينيات من القرن الماضي، اعتمدت سياسة الباب المفتوح. وهي سياسة أريد بها كسر احتكار الاستعمار التقليدي، للهيمنة على المناطق والمعابر الاستراتيجية العالمية. وجرى تبني منطق الإزاحة بوضوح، بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر العام 1956.

 

وخلال فترة الحرب الباردة، حظيت أوروبا الغربية بحماية المظلة النووية الأمريكية، مقابل تفرد أمريكا بصناعة القرار في العالم الرأسمالي. وكان أحد معالم الحرب الباردة أن القارة الأوروبية بشطريها الغربي والشرقي، ظلت تابعة للقوتين العظميين.

 

وجود قوتان رئيسيتان تهيمنان على صناعة القرار الأممي، ظل عامل ترصين في العلاقات الدولية، رغم أن تلك الفترة لم تخل من حروب، كان أشرسها الحرب الكورية، والانقلابات العسكرية في أميركا اللاتينية والحرب في الهند الصينية والصراع العربي – «الإسرائيلي».

 

انتهت الحرب الباردة بسقوط جدار برلين، وتفتت المعسكر الاشتراكي. وتزامن ذلك بطغيان مطالب الانفصال بعدد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا السابقة، وانهيار الاتحاد السوفييتي. وكان الملمح الأهم في هذه التحولات، أنها تمّت بطرق سلمية، باستثناء الحروب التي شهدها اتحاد الجمهوريات اليوغسلافية.

 

المعنى الأعمق، للتحول الذي شهدته الخريطة الكونية قبل ثلاثة عقود، أنه ليس من شرط التحولات الكبرى، اشتعال حروب دموية ينتج عنها هزيمة طرف وصعود آخر. وفي كل هذه التحولات ظل الاقتصاد هو العامل المتفرد بصنع التاريخ. ولربما يعاود التاريخ مكره، فتكون الأزمات الاقتصادية، عَقِبَ «أخيل» في انهيار الإمبراطورية الأمريكية،

 

يلاحظ في هذا الاتجاه، انتهاء احتكار الإدارة الأمريكية لاستخدام حق النقض “الفيتو” في مجلس الامن الدولي، الذي ساد بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، واستخدم كثيرا لاسناد العدوان الصهيوني. لقد عاودت الصين وروسيا استخدامها لهذا الحق بالسنوات الأخيرة.         .

 

يلاحظ أيضاً تنامي الدور الأوروبي الغربي في السياسة الدولية، وبشكل خاص الدور الفرنسي والبريطاني الذي برز بوضوح في هجوم «الناتو» على ليبيا واغتيال العقيد القذافي. وهذا الدور، حتى وقت قريب كان ملحقاً بالسياسة الأميركية. وذلك يعني مغادرةً سياسة الإزاحة وعودة مفهوم الشراكة، وتشريع التنافس بين القوى العظمى، وإن لم يكن على قدم المساواة.

 

سقط نظام الثنائية القطبية، وتوجت أمريكا على عرش الهيمنة الأممية، وقامت بحروب إقليمية محدودة، الأبرز بينها، احتلال بنما، والتدخل في راوندا، ومن ثم حرب الخليج الثانية، وبلغت قمة التدخلات العسكرية الأمريكية في العالم بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001، باحتلال أفغانستان والعراق. ولم يتشكل نظام دولي بديل. ومع تفرد قوة وحيدة على القرار الأممي، سقط مفهوم السيادة، وضعف دور الدولة الوطنية، وسنت أمريكا قوانين جديدة فرضتها على المجتمع الدولي. وكان من أحد إفرازات هذا السلوك، حدوث انفلات وغياب الأطر الناظمة للعلاقات الدولية، وبروز تنظيمات الإرهاب والتطرف.

 

غابت خلال العقود الثلاثة الماضية، المبادئ التي صيغت بعصبة الأمم، وهيئة الأمم المتحدة. وأودي بالكيانات الوطنية، وأشعلت حروب وفتن بالصومال والعراق وليبيا وسوريا واليمن. ولن يكون سبيل لإنهاء الإنفلات وهزيمة الإرهاب، إلا بإعادة الاعتبار للأطر الناظمة للعلاقات الدولية، وحماية الكيانات الوطنية من التذرر.

 

حول إعصار حريف الغضب:

 

مع بداية هذا العقد، عصفت الحركة الاحتجاجية بعدد من الأقطار العربية، في تونس ومصر وسوريا واليمن والبحرين، ولم تسلم من عسكرة هذه الحركة سوى تونس ومصر، اللذان شهدا انتقالا سلميا في السلطة.

 

ورغم ضراوة الصراعات التي أعقبت الحركة الاحتجاجية، وغزارة الدماء الغزيرة المسفوكة، والدمار الهائل في الإنسان والحجر، وتحولها إلى حروب أهلية، ودخول أطراف دولية عدة على الخط، فإن نتائجها السوقية ظلت معلقة. وليس بإمكان أي طرف من أطراف الصراع، الادعاء بأنه حقق نصرا حاسما لصالحه.

 

ووفقا لنطرية الصراع وحل الصراع، فإن الحروب لا تتوقف، إلا بهزيمةً ماحقة لفريق من المتحاربين، وفرض شروط الاستسلام عليه. أو اعتراف كافة الأطراف بعجزها عن تحقيق الحسم. وحينها لا يغدو مفر من المفاوضات، والقبول بمكتسبات جزئية، بعد العجز، عن تحقيق الأهداف ببفوهات البنادق.[v]

 

ان سيرورة البحث عن إنهاء الصراع، عن طريق المفاوضات، في ظل الواقع الدولي الراهن، غير ممكنة إلا برعاية مشتركة، من صناع القرار الأممي. وشرط ذلك وثوق المتفاوضين في رعاية أحد الأطراف الدولية لمصلحتها. وذلك، يتطلب إقرار الكبار، بفشل المشاريع العسكرية ، وأن بالإمكان إيجاد صيغة مقبولة للحل.

 

والقبول بالحل السياسي، يعني أن لا قيمة مطلقة لأي هدف. فالأهداف تتغير، خاصة حين ترتفع كلفة تحقيق الهدف، وفي ضوء بروز خيارات أخرى. والأهداف المعلنة ليست دوما الأهداف الحقيقة.[vi]

 

لقد اختفت شعارات عربية كبرى، سكنت في اليقين زمنا طويلا، وباتت من ضحايا “خريف الغضب”. فمنذ الاحتلال الأمريكي للعراق، انحرف العمل العربي المشترك عن أهدافه، وتراجع الاهتمام بقضية فلسطين، بل إن الاتجاه العربي الرسمي، بات ميالا للتسوية مع الصهاينة، ولذلك قبل جميع جميع المعنيين مباشرة، بالصراع، بالدعوة الأمريكية، لحضور ما أطلق عليه مؤتمر مدريد للسلام. كما تراجعت شعارات الوحدة العربية والتنمية المستقلة والعدل الاجتماعي. والبديل مشاريع ناكصة، طائفية وعشائرية، ومفردات الفيدرالية.

 

في العراق وسوريا، بدا المشهد طائفيا بامتياز، وفي اليمن اختلطت في الصراع الدامي صراعات الطوائف والقبائل. وفي ليبيا سقط العقيد، ومعه سقطت ليبيا. دمر الناتو البلاد، ثم تركها لعصابات التطرف والإرهاب. وفي جميع هذه الحالات، دمرت كيانات وصودرت أوطان، ولم يتبق من الماضي سوى عناوين باهتة، لم تعد تعنى شيئا للمواطنين الباحثين عن الحياة والمأوى.

 

بدا المشهد جملة طلاسم، بحاجة إلى تفكيك، مع أن المشهد بات واضحا منذ طرح مشروع الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة، حين تمت استباحة بغداد ونهبت متاحفها وأحرقت مكاتبها وجامعاتها.

 

وأغرب ما في المشهد الراهن، أن القوى التي رفضت تاريخيا النظر للعرب باعتبارهم أمة واحدة، يجمعها تاريخ وجغرافيا مشتركة ولغة واحدة، وصنفت المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط، عالما عربيا، بثقافات وأجناس مختلفة، تخلت في طرفة عين عن تنظيراتها، ووضعتنا في كفة واحدة، حين أطلقت تعبير “الربيع العربي”، على البلدان التي مرت بها الأحداث الدراماتيكية. لكن لتوازنات القوة أحكامها. وحين تتغير موازين القوة، تعبر عن ذلك في محال السياسة.

 

في العقدين الأخيرين، عادت الصين وروسيا بقوة للمسرح الدولي، وتشكلت منظمات جديدة على أسس سياسية واقتصادية، بما يشي بانبثاق مرحلة التعددية القطبية، ستترجم حضورها في تسويات تاريخية، وسيكون هذا الجزء من العالم في القلب منها، شأنها في ذلك شأن كل التحولات الكبرى، التي شهدها العصر الحديث.

 

أزمة الدولة العربية الراهنة:

 

على رأس قائمة الأزمات التي تعاني منها الدولة العربية، يأتي خلل التوازن في العلاقة بين نخب الحكم والمواطنين، وغياب قبول الشعب بمؤسسات الحكومات وأدائها، وتفاقم التدخلات الخارجية في الشؤون العربية. لقد أدت هذه الأزمات، إلى إعاقة التنمية، وتآكل السيادة الوطنية وتفكك الدولة.

 

في ظل هذا الفصام السياسي، لم يعد بد من تركيز المفكرين على بناء الدولة العربية على أسس عصرية، والاهتمام بالبعد الاجتماعي، في صنع القرار، ومبدأ سيادة القانون، والمواطنة المستندة إلى الحقوق المتساوية، وتغليبها على الهويات ما قبل التاريخية، باعتبار ذلك من بديهيات التحديث.

 

إن تعثر بناء الدولة على أسس عصرية، بالوطن العربي هو أحد أوجه أزمتها، في حين يتجلى الوجه الآخر في ضعفها، وتآكل شرعيتها. لقد توارى المشروع التحديثي، وأخفقت الدولة الوطنية في دمج قوى المجتمع وكياناته بإطار حكم القانون ومواطنة الحقوق المتساوية والتوزيع العادل للثروة، وتقديم الخدمات الرئيسة في قطاعات حيوية كالتعليم وفرص السكن والعمل والصحة والتأمين الاجتماعي.[vii]

 

لقد أسهم عجز الدولة عن أداء مهامها، في ضمان الأمن والخدمات الاجتماعية والاقتصادية، في انهيار عدة نظم سياسية وتشظي أوطان، وتمرد عدة مناطق مختلفة على السلطة المركزية بالبلدان العربية.

 

ولا شك في أن المحدودية الشديدة لموارد المجتمع الأساسية، كالمياه ومصادر الطاقة، والكثافة المتزايدة للسكان، والتدخلات الخارجية، الدولية والإقليمية، وبروز الإرهاب، أسهمت مجتمعة في مضاعفة الأزمة.

 

هناك أيضاً، أزمة الاندماج والهوية، حيث تتراجع قدرات الدولة وفاعليتها على نحو يفقدها شرعية الوجود. وتتركز هذه الأزمة في المجتمعات، التي تتعدد فيها الأعراق والطوائف. وفي الحالات التي تسود فيها المحاصصات، تفقد الدولة قدرتها على الاضطلاع بإدارة موارد المجتمع الاقتصادية والاجتماعية لمصلحة المشروع الوطني، بعد استيلاء الطوائف والتنظيمات الرديفة لها على الوظيفة التوزيعية للدولة. ومن نتيجة ذلك، تراكم الثروة بيد القلة واتساع الهوة بين الغنى والفقر.

 

وقد تسببت أزمات الدولة العربية في مضاعفة تأثير المحيط الإقليمي والدولي وأتاحت فرصا أكبر للتدخل الأجنبي بالشؤون العربية. وكان لتلك المؤثرات الدور الكبير في إعادة تشكيل الخريطة السياسية والمجتمعية للبلدان العربية. لقد أصبح الوطن العربي، هدفاً في الاستراتيجيات المعاصرة للدول الكبرى. أما على الصعيد الإقليمي، فقد غاب مركز الثقل العربي. وتضاعفت درجة الانكشاف للمنظومة العربية أمام موجات الاختراق والتغلغل الأجنبي، وتضاعفت الأخطار المرتبطة باغتصاب الصهاينة لفلسطين، والتحديات الإقليمية المرتبطة بصعود أدوار إيران وتركيا، وفقدان العمل العربي لاستقلاليته.

 

ترصين العلاقات الدولية، رهن بتسويات تاريخية، تعكس مستوى التوازنات الدولية. والحروب الصغرى التي تنشأ بعد التسويات، تتحقق إما بفعل خلل فيها، أو بسبب سعي أحد الأطراف الدولية، لتوسيع جغرافيا مصالحه الحيوية. فتظل تلك الحروب، محكومة بإرادة صناع القرار الكبار.1100

 

ومن هذه القراءة، يمكن فهم أسباب تغول منظمات الإرهاب، بالعقود الثلاثة الأخيرة. هناك هزيمة لنظام دولي، وقد اتضح ذلك منذ فشل السوفييت في حربهم بأفغانستان، وبفعل استعصاء أزمتهم الاقتصادية. ولأن النظام الدولي السائد، تأسس بثنائية القطبية، فإن سقوط ركن منه، يعني انفراطه. ولم يكن بالمقدور تسمية تفرد أمريكا بالهيمنة الأممية، بالنظام الدولي، لأن مفهوم النظام مرتبط بتسويات تاريخية، وبانبثاق نظم ومؤسسات تعبر عن شكل هذا النظام. ومع ذلك جرى مجازا استخدام تعبير الأحادية القطبية.

 

لم تحدث أية تسويات تاريخية، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ولم تبرز قوة متكافئة في القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة، لتكون بوابة ترصين للعلاقات بين الأمم. فكانت النتيجة غياب التكافؤ والتنافس في العلاقات الدولية. وذلك نشاز في التاريخ، منذ بدأ الاجتماع الإنساني. لأن العلاقات بين الأمم محكومة بالتنافس وصراع الإرادات، وليس بالاستلاب والاستسلام، من قبل العالم بأسره، لقوة متفردة.

 

ولأن الكون، لا يقبل الفراغ، برزت الطحالب، في شكل منظمات الإرهاب، لتملأ هذا الفراغ. ذلك لا يعني أن الإرهاب لم يكن موجودا في العالم، قبل انفراط عقد الثنائية القطبية، لكنه كان محدودا.

 

تجري الحروب بين جيوش نظامية. أما الإرهاب، فيدار من قبل عصابات القتل. لكن المشترك بينها، هو قابليتها التمدد إلى بقاع جديدة من المعمورة. وفيها تستخدم الأسلحة الفتاكة. ولا يستثني منها حروب الإرهاب. والأهم أن كل حروب، تقف خلفها أجندات دولية، تسبق التسويات، بين صناع القرار الكبار.

 

في الحروب الكونية، تتشكل ملامح النظام الدولي الجديد. وكلما اقتربت لحظات النصر، كلما اتضحت معالم النظام الجديد، الذي ينبثق من تحت ركام تلك الحروب.

 

كلامات أخيرة:

 

المشهد العربي، رغم ما يبدو عليه من قتامة وكآبة، بسبب تعاظم أزمة الدولة العربية، وتوحش الكيان الصهيوني، وانتشار وباء كرونا، وتسارع أنظمة عربية عدة للتطبيع الكامل معه، فإنه يحمل في رحمه، مخاض ولادة جديدة للأمة. ففي سوريا، التي انطلق منها مشروع اليقظة تمكنت الدولة، إلى حد كبير، من استعادة وحدتها، بعد عودة روسيا للمسرح الدولي، وتدخلها لمساندة سوريا في الحرب على الإرهاب، والمعادلة السياسية، في المنطقة والعالم، تتغير بسرعة، لصالح تعدد الأقطاب والتنافس على مواقع القوة.

 

والتعنت الصهيوني، الذي يستمد مقوماته من ضعف العرب وتخاذلهم، ومن حراسة اليانكي الأمريكي له، ليس قدرا مقدرا.فمع انبثاق النظام الدولي الجديد، ستتغير الخرائط والتحالفات، وستبرز فرصا جديدة، ينبغي تعزيزها من قبل المفكرين والمعنيين بقضايا أمتهم. وسبرز أمل جديد من تحت ركام اليأس والخوف.

 

خلال هذا العام، تسارعت الأحداث في العالم، بسبب استفحال وباء كرونا، والعجز عن احتوائه. وتصور عودة الأمور إلى سابق عهدها، بعد احتواء الوباء أمر غير واقعي، لأنه غير تاريخي. فليس بمقدور أحد، أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء. لقد أكدت تداعيات الوباء أن صراع الإنسان ضد الطبيعة ليس محكوماً دائماً بالنجاح، وأن احتمالات الفشل واردة عند كل محطة. لكن التطور والتغيير أمر لا جدال فيه.

 

لن تبقى اقتصادات العالم، ونظمها السياسية، وأنماطها الاجتماعية على ما هي عليه. لقد تعطلت الحياة الاقتصادية بالكامل، قرابة تسعة أشهر حتى الآن. وهناك بلدان تعتمد في دخلها على السياحة تدنى دخلها إلى مستوى الصفر. والصناعات الثقيلة من ظائرات وحافلات ووسائل نقل شبه معطلة، وشركات الطيران، تعلن تباعا إفلااسها. وعشرات الملايين من العمال، ينضمون إلى صفوف العاطلين.

 

لقد عجزت الولايات المتحدة عن تقديم الحد الأدنى من المساعدة لحلفائها، لتحفيف معاناتهم في محنة كرونا, وليس بعيداً أن تفك بعض الدول الأوروبية، كإيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، تحالفها عن اليانكي الأمريكي، بعد . فشل «الناتو» في تقديم الحد الأدنى من الدعم لأعضائه في محنة وباء كرونا.

 

المارد الصيني وحده، يتحرك يمنة، ويسرة، في مختلف القارات، مقدماً الخبرات والمساعدات، ويسرع في معدلات نموه الاقتصادي. وبالتحرك الاقتصادي للصين، والسياسي والعسكري لروسيا، ترسم خريطة العالم الجديد. وتتراجع سطوة اللون الأبيض. فلن يعود للشركات المتعدية الجنسية، ولا لاقتصاد السوق، مجده، وألقه. وسيبرز عصر جديد تمتزج فيه الأيديولوجيات بصيغ أكثر رحابة مع مطالب العدل الاجتماعي، والتنمية وشراكة الشعوب في صنع القرار. ويلتغي فيه احتكار العلوم، من قبل قوى الهيمنة، فيكونفي خدمة البشرية جمعاء.

 

والمهم، أن يتجاوب الفكر العربي، مع هذه التطورات، وأن نكون ترسا فاعلا، في هذا الحراك، والثورات العلمية المتلاحقة، وأن لا تضيع علينا هذه الفرصة، كما ضاعت فرصا كثيرة.

 

[i]  لنعماني، بسام عبدالقادر. مائة عام على اتفاق سايكس- بيكو قراءة في الخرائخط. مركز جامعة الدول العربية، بيروت: 2017.

 

[ii]     بلقزيز، عبدالإله ومجموعة من الباحثين: من أجل الوحدة العربية رؤية للمستقبل: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت: 2010 ص 13-23

[iv]عاروي، نصير حسن: أمريكا الخصم والحكم – دراسة توثيقية في “عملية السلام” ومناورات واشنطن منذ 1967. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت. 2007: 19- 39

 

[v]Himes, Joseph S, Conflict& Conflict Management. University of Georgia Press. Athens” 1980: 63

 

[vi]   Himes, Joseph S, المصدر السابق ص 65

 

 

[vii]  كزثراني، وجبه؟ ومدموعة من الباحثين: أزمة الدولة في الوطن العربي،  مركز دراسات الوحدة العربية بيروت: 2011 ص 7 -31.

 

 

 

د.يوسف مكي