في الإرهاب والثقافة
يميز هذا الحديث بين المقاومة المسلحة المشروعة للاحتلال الأجنبي، وهي مقاومة كفلتها وأقرتها الرسالات السماوية والقوانين الوضعية وشرعة الأمم، ويميز أيضا بين الثورات والانتفاضات الاجتماعية التي أخذت مكانها في التاريخ، وأحدثت تغييرا هائلا في البنى والهياكل الوطنية، ونقلت المجتمعات الإنسانية من حال متخلف إلى حال أفضل، وبين أعمال القتل والتخريب التي يذهب ضحيتها الأبرياء والمدنيون.
والتمييز هنا ليس فعلا اعتباطيا أو حذلقة لغوية، بل هو عمل جوهري وأساسي بالنسبة لنا، ونحن نحاول أن نجد لنا مكانا في هذا الكون، كبشر أحرار وفاعلين بين الأمم. والمفارقة بين المقاومة والإرهاب هي من الأهمية بمكان لدرجة يتوقف عليها موقفنا تجاه الكثير من الأشياء ومنظومة القيم والثوابت التي اعتدنا عليها، والتي تشكل مجتمعة ثقافتنا.
أو ليست الثقافة، كما يعرفها علماء الاجتماع هي الطريقة الكلية لحياة شعب من الشعوب؟. وفي المجتمعات المتحضرة تعني الثقافة ضروب النشاط الاجتماعي في مختلف الميادين، مثل الفن والأدب والموسيقى.. وهي أيضا الحاضن الشامل لكل ما صنعه وابتدعه الشعب من الأفكار والأشياء وطرائق العمل فيما يصنعه ويوجده. وإذن فإننا حين نتكلم عن الثقافة، فإننا نشير أيضا، إضافة إلى ما أسلفنا إلى جملة المعتقدات والأعراف واللغة والاختراعات والتقاليد، وطرائق الحياة.
وليس من شك في أن الثقافة الخاصة لأي أمة من الأمم تتكون وتتراكم، عبر حقب طويلة وممتدة، وتصبح جزءا من مكونات الهوية. وتكتسب عن طريق الممارسة اليومية، وبفعل قوى ذاتية أو من خلال تفاعل مع تيارات إنسانية. ويجري تقمصها بالتعلم والعمل والشعور والتفكير، بمعنى أنها ليست ساكنة في الدم، بل هي نتيجة اندماج وحراك وتفاعل، سواء تحقق ذلك بشكل سلبي أو إيجابي..
وعود إلى التمييز بين ثقافة المقاومة وثقافة الإرهاب، تهدف الأولى إلى التحرر والانعتاق، والتعبيير إيجابيا عن كل ما هو إنساني ونبيل. إنها عمل واضح وبغائية محددة هي ترسيخ إنسانية الإنسان وحقه في الحياة الكريمة. وهي على هذا الأساس، موقف يرفض الجمود والسكون والتكلس في التاريخ، وهي التحام بالعصر وليست مواجهة معه.. والحياة هنا رحبة فسيحة، مليئة بمختلف الرؤى والأفكار والألوان الجميلة. إنها رغم التضحيات الجسيمة التي تضطلع بها، تعبر بمنهجها عن عشق خالص للحياة، وتتطلع بأمل كبير وثقة واعية نحو المستقبل المشرق. في الجانب الآخر، يغيب لدى قوى الإرهاب برنامج العمل والإصلاح، وتسود الخزعبلات والدجل والخرافة، وتفتقد النظرة الموضوعية والموقف الرصين من الأشياء، ويغيب دور العلم الحق وتسد الأبواب، وتضيق مساحة الاجتهاد. والآراء هنا لا تحتمل الاختلاف، وبنفس المستوى، لا تحتمل الألوان التعدد. وبدلا من الاندماج بالمجتمع والتفاعل مع تياراته يجري تكفير المجتمع بأسره والتشجيع على العزلة عنه، تحت يافطة الهجرة عن الشرك والمشركين. إنها مواجهة شاملة مع المجتمع والحاضر والمستقبل.
وكان من سوء طالعنا، ولعل في ذلك خير لنا، أن تكون بلادنا في السنوات الأخيرة منطلقا لعناصر من هذه الفئة، وأن تكون وحدتنا وتماسكنا موضع امتحان، لا شك أننا صمدنا فيه، وتغلبنا على حالات كثيرة من الضعف في نفوسنا. وتوحد الجميع أمام الخطر الداهم، يجمعنا شعور عام بوحدة المعاناة وبأن الواحة التي نستظل بفيئها بحاجة إلى جهود الجميع. وحين جرت بعض حوادث التفجير والتخريب هنا وهناك تبارى الكل في وحدة وطنية رائعة لاستنهاض ما هو مخزون في أنفسهم من غضب للتنديد بتلك الأعمال واستنكارها.. وعبر الشعب عن ذلك بصيغ وأشكال مختلفة، لا يخطئها الراصد.
لكن المطلوب منا هو أكثر من ذلك بكثير. لا يكفي أن تكتب مرثيات في شهدائها، فهم بحول الله في عليين، ولا يكفي أيضا أن نعبر بالعرفان والامتنان لرجال الأمن البواسل الذين يعرضون حياتهم للخطر من أجل أن يستمر الأمن والاستقرار والرخاء في بلادنا. ونحن نقدر لكل من نذر نفسه دفاعا عن أمن هذا الوطن وسلامته هذا الدور الجميل، لكن ذلك ليس سوى أضعف الإيمان في وقت نستطيع أن نقدم فيه أكثر من ذلك بكثير، وأن نتخطى بعقولنا وقلوبنا منطق فرض الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
لا بد من أن يشارك الجميع في القضاء على الإرهاب، كل من موقعه. ولن يتمكن مجتمعنا من القضاء على هذه الظاهرة دون استئصالها من جذورها. لا يكفي أن يواصل رجال الأمن مطارداتهم لعناصر التخريب، فذلك هو أشبه بقطع الحشائش من سطح الأرض، دون الوصول إلى جذورها.
وسوف تستمر ماكينة التفريخ الإرهابية في عملها ما لم نصل إلى الجذور. والوصول إلى الجذور في حالتنا هذه ليس أحجية يصعب فك رموزها، فتعبيرات قوى الإرهاب ومفرداتهم هي البوصلة التي لا يرقى لها الشك في تحديد ماهية تلك الجذور. إنها ببساطة تغليب السيف على الحوار، وسيادة نهج التكفير، والضيق بالرأي والرأي الآخر، وإغلاق أبواب الاجتهاد. وهي أمور تعيدنا إلى نقطة البداية في هذا الحديث.. إنها إذن ثقافة أفرزت حالة شبيهة بالغيبوبة “الكوما”، أحيانا أو نوعا من الشيزوفيرينيا” الانفصام الشخصي في أحيان أخر. وكان لها إفرازات سلبية كثيرة، وأنتجت أمراضا مقيتة لا بد من مواجهتها، الآن وبشكل فوري، باعتبار ذلك جزءا لا يتجزأ من حربنا على الإرهاب.
لا بد من تخطي فكرة التسليم بأهمية السلم الاجتماعي وفتح آفاق الحوار البناء، والحق في الاختلاف والاعتراف بالتعددية واحترام الرأي والرأي الآخر، إلى مرحلة جديدة يكون حق الاختلاف بين أبناء المجتمع مكفولا بموجب قوانين وأنظمة ولوائح رسمية، وأن يجري الدفاع عن هذا الحق. حينها نقارع بعضنا بعضا بالدليل والحجة، مستلهمين من قول الحق سبحانه وتعالى: “وجادلهم بالتي هي أحسن”، منهجا ودليلا لعملنا.
بالحوار سنجادل من يريد الإساءة لنا ولوطننا بالحجة. “قل هاتوا برهانكم”، وسوف لن يكون لقوى الظلام وخفافيش الليل فرصة للتستر تحت جنح الليل. وسيكون من حق الجميع أن يعبر عن وجهة نظره بالطرق السلمية. ويجب أن يجري العمل على مستويات مختلفة، فعلى مستوى الثقافة، ينبغي إعادة النظر، بشكل جذري، في كل ما من شأنه أن يعزز فكر الإرهاب، وأن يجري تعزيز فكر التعدد والتسامح وقبول الآخر. وعلى مستوى الحوار، يجب أن تفتح الأبواب على مصراعيها لكل التوجهات والأطياف، للتعبير عن آرائها ومواقفها،أن يصار إلى تدشين مؤسسات المجتمع المدني، بما في ذلك المؤسسات الفكرية والثقافية والحقوقية.. ويجب أن يجري العمل على قدم وساق، لتعميم قيم التسامح والاجتهاد، وأن تستغل مختلف الوسائل المتوفرة في التعليم والتربية والصحافة والإعلام المرئي وغير المرئي، بشكل حثيث يتناسب مع حجم التحديات والمخاطر التي يتعرض لها وطننا.
وينبغي أن نطل بعقل وقلب مفتوح على عوامل الاحتقان الداخلية والمحيطة، وهذه العوامل تجعل الغضب المكتوم يتفجر بصيغ وأشكال قد تكون مؤذية لنا ولكنها خارج إرادتنا وقدرتنا، وهذه العوامل للأسف تحاصرنا من كل مكان. أو ليس ما يجري في فلسطين من حصار وقتل وتشريد بحق أهلنا مدعاة للحزن والغضب؟ أو ليس ما جرى في سجن أبو غريب بحق أهلنا في العراق سبباً آخر لاحتقان مكبوت قابل للتفجر في كل لحظة؟ وماذا عن العجز العربي الرسمي، فشل يتلوه فشل في متتاليات لا يبدو أن لها نهاية. لابد إذن لهذا الاحتقان من أن يجد له مخارج صحية، تعيد الاعتبار للإنسان ولكرامته، وتتيح لقوى المستقبل أن تلعب الدور الوطني المنوط بها. وتسد أبواب الذرائع، وتمنع على قوى العنف والتطرف الاصطياد في المياه العكرة.
فهل نسمع لصوت العقل والضمير، ونبدأ جميعا معركة الحرب على الإرهاب، معتمدين على ثقافة جديدة وشاملة، عمادها الاعتراف بحق الإنسان في الحياة الحرة الكريمة، وبقدرته على تقرير مصائره وأقداره.. وحاضره ومستقبله؟!
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-05-12