في استعادة فكرة الوحدة
قيل الكثير عن المناداة بفكرة الوحدة العربية… قيل أنها حلم رومانسي، وأنها توق لاستعادة ماض سلف, وقيل أنها دعوة لجمع متضادات، باعتبار أن الأمة هي ظاهرة حديثة، شرطها الانتقال إلى الدولة البورجوازية والمجتمع الصناعي. ورأى البعض أن العرب لا يزالون يبحثون عن هوية، وأن الأمة العربية ليست قائمة، وهي في أحسن الأحوال مشروع قابل للتحقق.
جاءت أحداث الخمسينيات العاصفة، من القرن المنصرم، وبخاصة بعد التحولات السياسية الكبرى التي حدثت في مصر، لتدحض الكثير من هذه المقولات. وكانت حركة التحرر الوطني في القارات الثلات قد أكدت بما لا يقبل الشك، أنه بينما ولدت الأمم الأوروبية في السوق، فإن بلدان العالم الثالث قد اكتشفت هوياتها الوطنية والقومية، وهي تناضل ضد السوق.
لم يكن الشعب العربي، الذي هو بالتأكيد في القلب من العالم الثالث، وكان دوره مركزيا في النضال، من أجل التحرر والانعتاق وتقرير مصائره، بحاجة للكثير من التنظير والتبشير بحقيقة انتماءه للأمة العربية، ولترسيخ فكرة الوحدة في وعيه، فتلك كانت من مقومات شخصيته، ومن محركات نهوضه. فكان التداخل واضحا وجليا بين القومي والوطني، في كل الشعارات والأهداف التي طرحتها حركات التحرر الوطني، التي قادت النضال ضد الاحتلال، على امتداد الأرض العربية.
وحين توج الحلم الكامن لدى غالبية أبناء الأمة، وتحول إلى إرادة بقيام وحدة مصر وسوريا، التي احتفلنا في الثاني والعشرين من فبراير بمرور خمسة وخمسين عاما على قيامها، لم تعد قضية الوحدة شعارا يتفجر من حناجر الشعب العربي، بل أمرا واقعا.
لماذا نستعيد الحديث عن هذا الموضوع الآن، وقد تراجعت فكرة الوحدة إلى الخلف، وأصبحت من تركة مرحلتي الخمسينات والستينات، وجاء ما عرف بالربيع العربي، ليكرس شعارات وأهداف أخرى.
نتجاوز هنا كل ما قيل عن الوحدة من مواقف سلبية، لأن مناقشتات كهذه تبدو عدمية، وغير ذات معنى، حين تستعيد قوى الهيمنة مشروع سايكس بيكو، من خلال مشاريع تفتيت لا ترى في الكيانات الوطنية سوى تراكيب شمعية، فرضت بقوة الأمر الواقع، بعد الحرب العالمية الثانية، وأن أوان تفكيك هذه التراكيب قد حان، رغم أن الجميع يدرك أن بعض هذه الكيانات هو حصيلة قسمة لا جمع، وأن إعادة التركيب، إذا ما أخذت حقائق التاريخ والجغرافيا، تقتضي الجمع لا التفكيك.
إن ذلك يعني في ابسط بديهياته استعادة روح الكفاح الوطني، في الربط بين مواجهة مشاريع التفتيت والوقوف بحذر من مشاريع الأسواق العالمية، بالدقة كما كان نضال الأمة ضد السوق. فالثابت لدينا أنه في ظل العولمة المتوحشة تم تفكيك السودان والعراق، وقضم الجزء الأكبر من فلسطين، وتراجع الحديث عن عروبتها وعن حق العرب في تحريرها من ربقة الصهانية. ويجري الآن الحديث عن تقسيم اليمن وليبيا وسوريا، ومشاريع آخرى بعضها معلن، وبعضها لا يزال في الخفاء، وجميعها تهدف إلى تفتيت الكيانات الوطنية العربية، بحيث يتم القضاء نهائيا على العناصر، التي جعلت من العرب جميعا أمة واحدة.
التنازل الذي اعتبره البعض، من ذوري النوايا الحسنة، تكتيكيا عن فكرة وحدة الأمة، قاد في واحدة نتائجه إلى القبول بمشاريع القسمة التي صنعها الفرنسيون والبريطانيون، بحسبانها أمرا واقعا، لا يمكننا الا الاعتراف به، بعد أن أصبح الاعتراف عنصرا حيويا ومتماهيا مع متطلبات “الشرعية الدولية”، ومواثيق أممية أخرى فصلت خصيصا لتنال من حصة مناعتنا وحصانتنا القومية والوطنية.
مواجهة المتتاليات المتجهة نحو الأسفل، تتم بمتتاليات تتجه إلى الأعلى، وصولا لاستعادة روح وحدة مصر وسوريا، واستلهام حضورها كمحفز للانطلاق في المتتاليات المتجهة صعودا، والتي تأتي، ضن قانون الفعل والاستجابة، ردا موضوعيا ومنطقيا على حالة التردي.
أكدث الوحدة المصرية- السورية إمكان تحقيق الوحدة بين العرب، وأكدت أيضا أن الحضور العربي على الساحة الدولية وقابلية الأمة على الفعل، لا يقاس بحاصل الجمع بين الأقطار العربية، بل بما يحدثه حاصل الحمع من تفاعل وتأثير مضاعف، ينتج عنه طريحة مختلفة تماما، وفقا لتعبير هيجل. فالوحدة هي التي تكشف ما في داخل الجوزة، من قوة فعل، وقدرة على صناعة المستقبل.
وفي كل الأحوال، فليس في هذا الحديث بكاء على الأطلال، بل توجه نحو المستقبل، بآلايات ومفاعيل تتجه مع طبيعة المرحلة الكونية التي نجتازها، وهي مرحلة انتقال، بمختلف المقاييس، في توازن القوة، بين صناع القرار في العقدين المنصرمين، وبين من دخلوا من بوابات صناعة التاريخ للعقود القادمة. وإذا ما أردنا وقف نزيف التشظي، فليس مكاننا الوقوف على أعتاب الراحلين أو القادمين الجدد، من صناع الهيمنة، بل الدخول في القلب من صناعة التاريخ القادم.
ولأن سمة هذا العصر، أنه عصر تكتلاث كبرى، وثورة رقمية، وليس فيه مكان للضعفاء والخائرين، فإن قدرنا أن نجترح آليات جديدة للفعل. وذلك يتطلب استعادة لترتيب الأولوياـت وتركيبا جديدا للمفاهيم، تنتقل من التنظير إلى صياغة آليات الفعل. وكلما أسرعنا، في الانتقال بمجتمعاتنا لهذا العصر، والتماهي مع عناصر قوته، كلما اقتربنا من تحقيق هدفنا، في الاندماج إلى الأعلى، وليس في تفكيك ما هو كائن.
التمسك بالوحدات الوطنية، في هذا المنعطف من التاريخ، هو أضعف الإيمان، ولن يكون فاعلا إلا بقانون يتجه إلى الأعلى، باستراتيجية عربية، تأخذ مكانها على الصعيدين الرسمي إن أمكن، والشعبي دون جدال، لنبش المواثيق والاتفاقيات التي توصل لها العرب، وجرى تغييبها في العقود الأخيرة، وبضمنها معاهدة الدفاع العربي المشترك، والأمن القومي الجماعي، واتفاقيات التكامل الاقتصادي العربي، بدء من إلغاء الجواجز الجمركية، وقيام سكة حديد عربية، وقطاع كهربائي موجد، وعملة مشتركة، إلى تحقيق الوحدة الثقافية. والاتفاقيات التي تراكمت في هذا السياق، ضمن ملفات جامعة الدول العربية ليست قليلة، وتطبيقها كفيل بإيقاف الطوفان.
فهل تكون ذكرى الوحدة المصرية السورية، مناسبة لايقاف نزيف التفتيت، واستعادة عنفوان المجد والكبرياء الذي طبع زمننا الجميل، أم أن علينا باستمرار أن نكون قرابين لطوفان الصراع بين قوى الهيمنة؟!