في استراتيجية النضال الفلسطيني بالمرحلة القادمة
أنهينا الحديث الماضي بالتساؤل عن معالم الإستراتيجية التي ينبغي على القيادات الفلسطينية تبنيها، وما هي مبررات ذلك، وكيف يتم الولوج مباشرة في تحقيقها؟ ذلك ما سوف نحاول الإجابة عليه في هذا الحديث.
وابتداء يجدر التنويه بأن المفاوضات بين الفلسطينيين والصهاينة قد تعثرت أمام موضوعين رئيسيين، هما حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، وقضية ارتباط القدس الشرقية بالسلطة الفلسطينية، باعتبارها عاصمة للدولة المستقلة المرتقبة. وكلا الموضوعين، كما يبدو، يشكلان حجر زاوية في النضال الفلسطيني. فموضوع العودة يشمل أكثر من خمسة مليون لاجئ، يشكلون غالبية الفلسطينيين، ولا يملك كائنا من كان حق التفريط بمطلب العودة. أما الموضوع الآخر، فإنه مهم ليس فقط للفلسطينيين وحدهم، بل للعرب والمسلمين جميعا، نظرا للإرتباطات الدينية والعاطفية للمسلمين ببيت المقدس، وبقية المقدسات والآثار الإسلامية، وبسبب مورثات تاريخية، ضاربة عميقا في الوجدان. وكان موضوع عودة القدس، مبررا لقيام تكتلات ومؤتمرات وتجمعات إسلامية منذ النكسة عام 1967، وحتى يومنا هذا. ولا زالت الذاكرة تحتفظ بالسبب الرئيسي الذي حرض على اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، فقد انطلقت إثر قيام أرييل شارون، زعيم الليكود بزيارة استفزازية للحرم القدسي الشريف.
النقطة الأخرى التي يجدر الانتباه لها هي أن النضال الفلسطيني المعاصر، بقيادة حركة فتح، ومن ثم منظمة التحرير الفلسطينية، قد انطلق من الشتات، وكان اللاجئون الفلسطينيون هم العمود الفقري للمقاومة الفلسطينية. ولم يكن للشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة دور يستحق الذكر، حتى منتصف السبعينيات في المقاومة والنضال ضد الإحتلال. وحتى عندما انطلق الرئيس، ياسر عرفات بعد نكسة حزيران/ يونيو مباشرة إلى أراضي مدينة القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، واتخذ من مدينة نابلس، المعروفة بمساندتها للنضال الوطني، مقرا له، على أمل التحضير لانتفاضة فلسطينية، وشن حرب تحرير شعبية مسلحة في تلك المناطق، لم تكن استجابة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة مشجعة، ووجه بفشل ذريع. وتمكنت قوات الإحتلال الإسرائيلي من محاصرة مقاتليه، وكان أسوأ ما واجهته الإستراتيجية العسكرية لحركة فتح آنذاك، هو الموقف السلبي لشعب الضفة الغربية، تجاه العمل الفدائي، وعدم استعداده تقديم الدعم والحماية للمقاتلين الفلسطينيين. وكان ذلك موضع تساؤل من قبل عدد كبير من الكتاب والباحثين الذين اهتموا برصد معالم النضال الفدائي في تلك الحقبة، ليس هنا مجال الحديث عنه.
وبالإمكان القول أن التحولات اللاحقة التي حدثت في المناطق المحتلة كانت بفعل جاذبية النضال الفلسطيني بالشتات، خاصة بعد معركة الكرامة بالأردن في آذار/ مارس عام 1968، التي تناولناها في حديث سابق. وكانت إحدى الدلائل المبكرة على تلك التحولات قد أخذت مكانها خلال شهر نيسان/ أبريل عام 1973، عندما قامت إسرائيل بعملية اغتيال في بيروت لبعض قادة منظمة التحرير. فقد أجج هذا الحدث مظاهرات صاخبة واحتجاجات واسعة على الإرهاب الإسرائيلي شملت عموم الضفة الغربية. وفي أب/ أغسطس من نفس العام، تأسست الجبهة الوطنية الفلسطينية في المناطق المحتلة، وأكد بيانها الأول على أن الجبهة هي: “جزء لا يتجزأ من الحركة الوطنية الفلسطينية، ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية”. وحددت هدفها في العمل من أجل تحقيق الاستقلال، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ووقف عملية الاندماج بالاقتصاد الإسرائيلي. وتطورت مواقف الجبهة الوطنية لاحقا باتجاه الاعتراف بالكيان الصهيوني والمطالبة بوجود دولتين على قدم المساواة: إسرائيل في حدود الأراضي التي كانت قائمة عليها حتى عدوان حزيران عام/ يونيو عام 1967، ودولة فلسطينية تقوم على أراضي مدينة القدس العربية والضفة الغربية وقطاع غزة. وقد تبنت الدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، التي عقدت في حزيران/ يونيو عام 1974 ذلك المشروع.
وحتى عندما تبنى القادة العرب في مؤتمر القمة العربي الذي عقد بمدينة الرباط في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1974 قرارهم الذي نص على التأكيد بحق الشعب الفلسطيني في تأسيس دولته الخاصة به تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، في كل المناطق الفلسطينية المحررة، وأن الأقطار العربية ستقدم الدعم للسلطة عند تأسيسها في كل المواقع وكل المستويات، فإن ذلك كان مبنيا على الدور الفلسطيني في الشتات.
من هنا فإن نقطة البدء في استراتيجية العمل الفلسطيني الجديدة، بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات، يجب أن تنطلق من التسليم بوحدة الشعب الفلسطيني، ووحدة نضاله. إن الحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية يحب أن ينطلق من مفهوم أرقى، يتعدى الحرص على الوحدة الوطنية في المناطق المحتلة، ليشمل وحدة الشعب الفلسطيني في كافة المواقع والخنادق، في الشتات وفي المناطق التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1948، وفي مدينة القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، أخذا بالإعتبار أن الفلسطينيين الذين يعيشون في المخيمات وبالشتات هم الغالبية، وأن وحدانية حق التمثيل للشعب الفلسطيني، لا تمنح صكا بالتفريط في الحقوق، بل هي تفويض بالنضال من أجلها. وعلى هذا الأساس ينبغي أن تعاد الروح لفكرة انتقال الفلسطيني في المخيمات من لاجيء إلى ثائر، من خلال تحشيد اللاجئين والزج بهم في العملية السياسية، والكفاح بهدف حماية حقهم في العودة إلى ديارهم.
ومن هنا أيضا، تنبثق النقطة الثانية في استراتيجية النضال الفلسطيني الجديدة، المتمثلة في ضرورة الفصل بين مهام السلطة الفلسطينية، ومهام اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. إن فك التشابك بين المهمتين هو ضرورة ملحة في هذا المنعطف من التاريخ الفلسطيني. فدور السلطة الفلسطينية، كما هو معروف، هو إدارة شئون الفلسطينيين في المناطق التي ينسحب منها المحتل الإسرائيلي، ولديها من المهمات في هذا الإتجاه ما يكفي لاستنفاذ طاقتها ووقتها. أما منظمة التحرير فهي قيادة لثورة وطنية، لم تستكمل مهماتها بعد، وينبغي أن تتفرغ بالكامل لتلك المهمات، دون ضغوط أو مساومات، ودون تهالك على المكاسب والمناصب، أو تخل عن المبررات الأساسية التي أدت إلى منحها الحق في وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني في كل المواقع والمنابر، وعلى كافة الأصعدة.
وعلى هذا الأساس، فإن الإستراتيجية الفلسطينية الجديدة ينبغي أن تقوم على حق اللاجئين في المشاركة السياسية العملية الشاملة في تقرير مصائرهم وأقدارهم.
وعلى صعيد الداخل، فإن هناك حقائق جديدة قد أخذت مكانها في العقد المنصرم، وأثرت بشكل كبير على مسار الكفاح الفلسطيني. إن الخارطة السياسية قد تغيرت بشكل كبير، كما أن توازنات القوة لم تعد بالشكل الذي كانت عليه، قبل التسعينيات من القرن المنصرم. لقد برزت حركات مقاومة جديدة وحركات سياسية لعبت دورا رئيسيا في الإنتفاضة الباسلة التي مضى عليها الآن أكثر من أربع سنوات. وبعض هذه القوى غير ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية، ولا تشارك في السلطة. إن الحديث عن الوحدة الوطنية ينبغي أن يلتزم بالثوابت ويبتعد عن سياسة الإقصاء أو التهميش أو الإحتواء. وأن استراتيجية الكفاح الجديدة يجب أن تكون حاصل تفاعل وحوار بين مختلف الفصائل الفلسطينية الممثلة في منظمة التحرير، وتلك التي لم تمثل بعد. ويكون الحكم في ذلك هو ثقل هذه المنظمات ودورها في أوساط الشعب الفلسطيني، والدور الذي تضطلع به في مواجهة المحتل. وذلك هو جوهر الإصلاح السياسي المطلوب، والإلتزام بمبادئ الديمقراطية.
إن مفاهيم الإصلاح السياسي وتحقيق الديمقراطية ينبغي أن لا تكون إملاء أو تفصيلا أمريكيا، بل يجب أن تنطلق من حاجات ومستلزمات النضال الفلسطيني، وتعبيرا عن الإلتفاف الوطني، حول ثوابت التحرير، ومتطلبات المرحلة التاريخية، ومن ضمن تلك المتطلبات حق الفلسطينيين، كل الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، وتحرير القدس، باعتبارها عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة المرتقبة. وكل خروج على هذه الثوابت هو خرق لميثاق العمل الفلسطيني، وتنكر لدماء الشهداء، ومبادئ الكفاح لن ينتج عنه سوى مزيد من التنازل، ومزيد من التشظي، بحيث لن يتبقى بعد ذلك سوى كانتونات متناثرة، وسلطة واهنة، تقوم بدور الشرطي ورأس الحربة، خدمة لمصالح الاحتلال، وبدلا من أن تكون السلطة ممثلا وحارسا لمصالح الفلسطينيين، ستتحول رويدا رويدا إلى خنجر في خاصرتهم، ومعوقا لهم في الحصول على حقوقهم.
تلك مقدمة لا بد منها، للحديث عن استراتيجية النضال الفلسطيني، بعد رحيل القائد ياسر عرفات، وتبقى تفاصيل أخرى مهمة، سوف نتطرق لها في حديث قادم بإذن الله.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-11-24