في أهداف التصعيد العسكري الروسي

18
لم يكن مفاجئا الرد العسكري الروسي، على الهجوم الذي استهدف الجسر الوحيد، الذي يربط شبه جزيرة القرم بالأراضي الروسية. فعملية تخريب الجسر، من وجهة نظر إدارة الرئيس بوتين هي تجاوز للخطوط الحمر. لقد جرح الدب القطبي، في كبريائه، خاصة وأن عملية التخريب تلك، جاءت متزامنة مع تراجعات للقوات الروسية، عن أراض شاسعة اكتسبتها بقوة السلاح، وبالتضحيات الجسيمة في المال والرجال. ولا بد لاستعادة الكرامة المهدورة من رد الصاع صاعين، أو أكثر.
ففي يوم الإثنين من الأسبوع الماضي، أمطرت روسيا سماء المدن الأوكرانية، ينحو 75 صاروخا، في أوسع هجمات جوية منذ بداية الحرب، وأسفرت عن خسائر جسيمة في البنية العسكرية والمدنية. وقد استهدفت تلك الضربات، مقر القيادة العسكرية وأنظمة الاتصالات والطاقة في 15 موقعا أوكرانيا، في أوديسا وزابوريجيا وكاركيف وكييف ولوغانسك.
ولا يبدو أن حكومة زيلنسكي قد استوعبت بالدرس الروسي، فقد قامت باليوم التالي للهجوم الروسي الواسع، بقصف مدينة ستاخونوف بمنطقة لوغانسك بصاروخين، من نوع هيمارس الأمريكي. وليستمر المسلسل الجديد من القصف الجوي المتبادل والعنيف، بين الجيشين المتحاربين.
لقد جاءت الضربات الروسية، انتقاما للضربات الموجعة التي تعرضت لها، سواء الضربات التي أدت إلى تراجع قواتها في خطوط واسعة من جبهات القتال، أو في تدمير خط الغاز الروسي المتجه لأوروبا الغربية، أو في تفجير جسر القرم، وعمليات تخريبية أخرى. لكن الأهداف المضمرة للهجوم تبقى هي الأهم في هذا الشأن.
فالحرب التي شنتها إدارة بوتين على أوكرانيا، لن يكون لها معنى، من غير تحقيق النصر. والحروب عادة تشن لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية، ومن غيرها تتحول إلى لعبة عبثية. والروس صرحوا مرارا وتكرارا أن هدف هذه الحرب، ليس فقط اكتساب مناطق جديدة تعتبرها روسيا عمقا استراتيجيا لها، وجزءا من تاريخها وبعدها القومي، بل إنها تأتي في سياق، التسريع في انبثاق نظام دولي جديد، بديلا عن الأحادية القطبية، التي سادت منذ نهاية الحرب الباردة، في مطالع التسعيينات من القرن المنصرم.
إن وعي إدارة الرئيس الأمريكي، بايدن، ومعه قادة أوروبا للهدف الحقيقي للحرب، هو الذي يوضح سبب اندفاع الغرب، لتقديم كل ما من شأنه إعاقة النصر الروسي على الغريم الأوكراني. وقد بلغت قيمة الأسلحة والمساعدات التي قدمتها تلك الدول إلى أوكرانيا، عشرات المليارات من الدولارات. وإذا فإن أوكرانيا في هذه الحرب، تحارب بالوكالة عن الغرب، وتسهم في إعاقة انبثاق نظام عالمي جديد، يعكس حقائق القوة الراهنة.
هذا التقدير من جانبنا، لا يمكن الأخذ به بشكل مطلق، فالتماهي في بين أقطاب الدعم الغربي لأوركرانيا، في مواجهة الدب القطبي، ليس متوازبا في النوع والكم، وليس متكافئا في الحماسة. فأمريكا هي المعنية الأولى بالحرب، ونتائجها، التي ربما تكون وبالا على مشروع هيمنتها حال انتصار روسيا بالحرب. والأوروبيون، باتو يدركون ذلك ويعبرون صراحة عن امتعاضهم من السياسة الأمريكية، التي تعرض بلدانهم لأزمات اقتصادية حادة.
لم يعد التذمر الغربي، من السياسة الأمريكية في خانة العتب بين الأصدقاء، بل جاء في صيغة هجوم مباشر وحاد من الرئيس الفرنسي، أمانويل ماكرون، والمستشار الألماني فرانك فالتر ستايمر، اللذان اتهما حكومة بايدن بخلق أزمة اقتصادية عالمية، وبالثراء الاقتصادي الأمريكي، على حساب القارة الأوروبية.
السياسة الروسية الراهنة، تعتمد عدة خطوط عسكرية وسياسية واقتصادية. فعلى الصعيد العسكري، يتواصل القصف الروسي للمدن الأوركرانية يوميا وبشكل متواصل، منذ بدأ الهجوم الصاعق عليها بوم الاثنين من الأسبوع. المنصرم، ومن جهة أخرى، تعزز روسيا حضورها العسكري، على حدودها مع الدول الاسكندنافية، حيث أظهرت صورا للأقمار الصناعية، زيادة في عدد القاذفات الاستراتيجية، والتي تفوق سرعة الصور من طراز توبوليف الملقبة بالبحعة البيضاء، والمتمركزة في قاعدة جوية بالقرب من الحدود الفنلدية والنرويجية.
وعلى الصعيد السياسي، تطور روسيا علاقاتها مع الدول التي تتخذ موقفا متوازنا من أزمتها مع أوكرانيا. وعلى الصعيد الاقتصادي، أعلنت روسيا استبدالها الخطوط التي تزود القارة الأوربية بالغار بخط جديد عبر الأراضي التركية. يضاف إلى ذلك تواصل صادراتها للبلدان الأوروبية، التي تعلن استعدادها للخروج عن بيت الطاعة الأمريكي. وقد نجحت القيادة الروسية في ذلك إلى حد كبير. فقد أعلنت 13 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، عن زيادة وارداتها من السلع الروسية، فيما خفضت الدول الأخرى من واردتها.
ويظل الهدف الأثير للرئيس الروسي بوتين، الاحتفاظ باقليم دومباس وتجريد أوكرانيا من قوتها العسكرية، ومنعها من الانضمام لحلف الناتو، وتحويلها إلى دولة محايدة، وتغيير معادلة توازن الرعب.
​​​​​​​د. يوسف مكي

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي