في أسباب انهيار الاقتصاد العالمي
لقد قيل، ولسوف يقال الكثير عن أسباب حالة الانهيار التي يمر بها الاقتصاد العالمي، والتي برزت نذرها قبل عدة أشهر، مع أزمة الرهن العقاري التي تفاقمت بشكل خاص في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وبلغت ذروتها في الأسبوعين المنصرمين، إثر إعلان عدد من البنوك والمؤسسات الأمريكية والبريطانية المالية عن إفلاسها، بسبب نقص السيولة، والعجز عن الإيفاء بمطالب العملاء، مما أرغم بعضها على إعلان إفلاسها، وتسبب في انهيار السوق.
وقيل إن الأزمة الأخيرة هي نتاج تداعيات أزمة الرهن العقاري، بسبب ارتفاع نسبة الفائدة، وعجز المديونين عن سداد القروض في أوقاتها المحددة، وبالتالي عرض تلك الممتلكات في أسواق المزاد من قبل البنوك، لسداد الديون المستحقة، وعدم قدرة الأموال المستوفاة على السداد الكامل، مما تسبب في ندرة السيولة بالمصارف المالية المقرضة.
وقيل أيضا إن الأزمة هي نتاج عمليات نهب ونصب واسعة. وفي هذا الاتجاه أشارت محطة الـ “سي إن إن” إلى أن مكتب التحقيقات الفيدرالي يقوم بالتحقيق مع كبار المديرين التنفيذيين لأربع مؤسسات مصرفية أمريكية كبرى، كجزء من بحث شامل وواسع، لاحتمال وجود فضائح احتيال وراء أزمة الرهن العقاري. وأشير إلى أن التحقيقات، التي ما زالت مستمرة، شملت مؤسسات “فاني ماي” و”فريدي ماك” و”ليمان بروذرز” و”إيه آي جي”، وفقاً لمصدر رفض الكشف عن هويته لأن التحقيقات مازالت جارية حتى الآن.
ورفض المتحدث باسم مكتب التحقيقات، ريتشارد كولكو، التعليق على الأنباء، ولكنه أكد أن 26 مؤسسة تخضع للتحقيقات كجزء من تحقيقاته حول شبهة “احتيال” بأزمة الرهن العقاري. وكان مدير مكتب التحقيقات، روبرت مولر، قد أبلغ، في وقت سابق من هذا الشهر، الكونغرس الأمريكي بأن 1400 فرد ووسيط ومخمّن في مجال الإقراض العقاري يخضعون للتحقيق، إلى جانب أكثر من عشرين مؤسسة وشركة. كما أكد أن مكتب التحقيقات يحقق مع 26 شركة حول فضائح، من بينها مؤسسات إقراض كبرى.. وأن هذا الرقم قابل للتغيير مع مرور الوقت، لكن ريتشارد كولكو رفض الكشف عن هوية الشركات التي تخضع للتحقيق.” لكن مصادر مطلعة كشفت أن التحقيقات تجري مع مؤسسات “فاني ماي” و”فريدي” و”ليمان” و”إيه آي جي”، وأنها مازالت في مراحلها المبكرة، فيما قال أحد المصادر إن الحكومة الفيدرالية الأمريكية يمكن أن تكون موضع اتهام بالإهمال والتقصير إذا لم تحقق في أسباب الأزمات المالية التي تواجهها هذه المؤسسات والشركات، وكذلك في تصرفات وسلوكيات بعض الأفراد المسؤولين فيها.
لقد اعتبرت هذه الأزمة، من قبل كثير من الخبراء والمحللين والمراقبين الاقتصاديين في العالم، وضعا شاذا، وغير مألوف، لأنها تكاد تكون المرة الأولى التي يعم بها كساد اقتصادي، تقابله حالة تضخم. وأشير إلى أن ذلك كان بسبب الاستعار المفاجئ في أسعار النفط بالأسواق العالمية. وكان المألوف بالسابق، أن تمر البلدان الرأسمالية بدورتين اقتصاديتين، يسود طابع التضخم في إحداهما، ويسود الانكماش في الحالة الأخرى.
ووفقا للقوانين الاقتصادية فإن الانتعاش الاقتصادي ينتج عنه تضخم في أسعار السلع الاستهلاكية والاستراتيجية، والعقار وقطاع الخدمات. أما الكساد الاقتصادي فينتج عنه حالة انكماش، تتراجع فيها نسب التضخم، وتتدنى، أو على الأقل تثبت فيه تكاليف وأثمان السلع والخدمات بكافة أنواعها.
وقد جرت العادة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن يمر اقتصاد السوق بدورتين ماليتين، في الأولى يسود الانتعاش عندما يصل الديموقراطيون إلى البيت الأبيض، في واشنطون، حيث يجري الاهتمام بتنشيط المفاصل التحتية للاقتصاد، من خلال رفع النسب الضريبية على المؤسسات المالية والشركات الضخمة ومراكز الاحتكارات الكبرى، ويهتم الديمقراطيون بتقديم الدعم للطبقة المتوسطة، باعتبارها تمثل، من وجهة نظرهم، العمود الفقري للاقتصاد. ويركز في هذا السياق أيضا على القطاعات الخدمية والتعليمية والصحية، والضمان الاجتماعي، وزيادة عدد أفراد المؤسسات الأمنية. ويؤدي ذلك إلى تضخم الجهاز البيروقراطي للدولة، كواقع طبيعي لتلبية احتياجات القطاعات الاقتصادية المستجدة، بما يؤدي إلى انخفاض نسبة البطالة، وازدياد الطلب على البضائع التجارية والعقارات، ومضاعفة نسب الاستهلاك، وبالتالي ازدياد نسب الفؤائد التي تتقاضاها المؤسسات المصرفية.
أما السياسة الاقتصادية للجمهوريين، فتعتمد على تخفيض نسب الضرائب على المؤسسات الاقتصادية الكبرى، بما يترتب عليه انخفاض دخل الحكومة الفيدرالية، وتقليص نسب الإنفاق الحكومي، بما يتسبب في تسريح مئات الألوف من الموظفين عن أعمالهم، واضمرار الإنفاق على القطاعات الخدمية والتعليمية والصحية والضمان الاجتماعي، والتسبب في وجود ملايين العاطلين عن العمل والمحرومين من المأوى والتعليم والعلاج. والنتيجة الطبيعية لذلك هو سيادة حالة كساد وانكماش اقتصادي، يترك بصماته ثقيلة على كافة أنشطة الحياة. ويلقي ذلك بظلاله على تداعي نسب الفوائد وتراجع أسعار العقار، وانهيار الدور الاقتصادي للطبقة المتوسطة.
كما تؤدي السياسة الاقتصادية للجمهوريين إلى انخفاض نسب التضخم. والطبقة الوحيدة المستفيدة من هذا الوضع هي الطبقة الرأسمالية التي تملك الكارتلات النفطية والمصارف ومصانع السلاح والمنتجات الصناعية الكبرى، التي تستفيد من انخفاض نسب الضرائب، وتستثمر انخفاض الفوائد البنكية على القروض. ولأن الأثر الإيجابي الاقتصادي يتم في هذه الحالة بأعلى القمة، فإنه لا يحدث الأثر المطلوب بالقاع الاجتماعي أو في السفوح.
وهنا يبرز سؤال هام وملح: لماذا إذا يرفض الأمريكيون حالة الانتعاش وينتخبون إدارة أمريكية تضع في سلم أولوياتها تقليص الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية والضمان والتأمين الاجتماعي، وتتسبب في تسريح الملايين من أعمالهم، وانتشار البطالة؟ أليس حريا بالأمريكيين أن يتجنبوا الوقوع في فخاخ من هذا النوع، وأن يكون البرنامج الديموقراطي هو السائد دائما؟
الواقع أن الأمر ليس بهذا التبسيط، ذلك أن كلتا الدورتين تحملان مشاكل ومصاعب ومتاعب لا تحصى للمواطن العادي، وللشريحتين الاجتماعيتين في قاع المجتمع وسفوحه الدنيا. ذلك أنه بالقدر الذي يتسبب فيه تبني برنامج الجمهوريين في تعميم حالة كساد تؤدي إلى انكماش في الاقتصاد، وتبلغ في النهاية حدا لا يطاق، يؤدي إلى ابتعاد الجمهور عن تأييد الجمهوريين، وتكون من نتيجته وصول الديموقراطيين إلى السلطة، فإن حالة الانتعاش التي يتبناها الديموقراطيون تؤدي في النهاية إلى حدوث حالة تضخم، ينتج عنها ارتفاع مفرط في الأسعار الغذائية والحاجات الأساسية، بحيث يعجز المواطن العادي عن مقابلة متطلباته، وينوء بثقل المديونية، ويصل التضخم حدا لا يطاق، يصبح فيه تقليص المصروفات، والضرائب أمرا ملحا ومطلوبا من قبل معظم الشرائح الاجتماعية في المجتمع الأمريكي. وينبغي في هذا السياق، الإشارة إلى الدور الذي تلعبه الـ “الميديا” إعلام بكل تفرعاته، في التبشير بالبرامج الاقتصادية لصالح هذا الفريق أو ذاك. كما ينبغي التنبه إلى دور مؤسسات الضغط الأمريكية، بما فيها مجموعة المصالح، من اتحادات مهنية وكنائس، ومؤسسات المجتمع المدني. كما ينبغي التنبه أيضا إلى الدور الذي تلعبه جماعات الضغط الحكومية في الترويج للبرامج السياسية والاقتصادية، عند نهاية كل دورة اقتصادية وبداية أخرى. ومن المؤكد، أن هناك أطرافا متنفذة ستكون في نهاية المطاف مستفيدة من تطبيق برنامجي الانتعاش أو الانكماش، وسوف تسعى لفرض أحدهما وفقا لمصالحها الخاصة.
الأزمة الحالية، هي نتاج وضع خاص، وضع شاذ لم تشهده الساحة الأمريكية أو العالمية من قبل. وضع تسود فيه حالة كساد اقتصادي، وتسود فيه حالة تضخم بسبب عامل متدخل، لم يؤخذ اعتباره في الحسبان، هو الارتفاع المفاجئ والسريع في أسعار النفط. وهو في الغالب يأتي بسبب ازدياد الطلب على النفط من قبل الصين واليابان والهند ودول أوروبا الغربية، وتسهم في استعاره حقائق سياسية أخرى، ليست لها علاقة مباشرة بالاقتصاد، كالوضع السياسي في العراق، وفشل المشروع الأمريكي المعروف بـ “الحرب على الإرهاب”، وأيضا التلويحات الأمريكية و”الإسرائيلية” بتوجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية، وكلها أمور تخلق حالة من التوجس والخوف والشعور بعدم الاستقرار، في أسواق النفط العالمية، بما يفاقم من الأزمة.
كيف يتم النظر في خطة الإنعاش الأمريكية لإنقاذ الاقتصاد وتجاوز الأزمة؟ وما التأثيرات المستقبلية لهذه الخطة على النظام الرأسمالي ذاته، وعلى مشروع العولمة، وبالذات لوائح وأنظمة منظمة التجارة الدولية، وبالتالي على مفهوم التجارة الحرة.. تلك الأسئلة وأخرى ذات علاقة ستكون موضوع حديثنا في الأسبوع القادم بإذن الله تعالى.
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة ٍس .م.ر)
في الحقيقة ان نسبة الفائدة على الرهن العقاري الامريكي لم تكن مرتفعةبالاضافة الى تدخل البنك الفدرالي وتخفيض نسبة الفائدة اكثر من مرة. ما حدث فعلا هو المبالغة في اسعار العقارات وقد جنى البعض ارباح غير طبيعية…مما دفع الفرد العادي الى الشراء على امل جني ارباح بعد فترة قصيرة عن طريق بيع العقار, فالهدف من الشراء في اغلب الحالات كان الامل بجنى ارباح سريعة. وعندما وصلت اسعار العقارات الى مبالغ تتجاوز كثيرا قيمتهاالحقيقية لم يعد من السهولة بل اصبح مستحيلا ايجاد مشتري لهده العقارات واصبح ضروريا تخفيض الاسعار, واستمر النزول بالاسعار الى ان وصلت الى مستويات تقل كثيرا عن سعر الشراء, ولهدا بدا المديونين بالتنازل عن العقار وتركه للبنك ليتصرف به لان سعر العقار الحالي اقل بكثير من قيمة القرض. فالحقيقة في عجز او عدم رغبة المديونين في الاستمرار في السداد ليس ارتفاع نسبة الفائدة بل ان سعر العقار الحالي اقل من قيمة القرض.