في أسباب اندلاع الحروب
الصراع بين البشر هو شرعة الكون، فمنذ تلمس الإنسان طريقه فوق هذا الكوكب، وعبر مرحلة الالتقاط والصيد، بدأ الصراع، حول مواقع الكلأ والماء. وكانت أسباب الحروب، في المراحل الأولى للتاريخ الإنساني محدودة جدا. وبالمثل كانت أدوات القتل محدودة أيضا. لكن قيام الإمبراطوريات وتوسعها، وبناء السفن والاساطيل، أحدثت تغيرات كبرى في أساليب وأدوات الحرب، وأيضا الأسباب التي تؤدي إلى اشتعال الحروب.
بات من أسباب الحروب، السطو على الثروات، والسيطرة على الممرات والمعابر والمضائق الاستراتيجية. ومن أجل ضمان النصر، تشكلت تحالفات كبرى، وشنت حروب وكالة، وبات الصغار من الدول يحتمون بالكبار، وبدأ عصر الاستعمار.
الحقبة التي نعيشها ليست استثناء في التاريخ الإنساني. فهناك حرب في أوكرانيا، تشنها روسيا تحت مسمى العملية الخاصة، إذا ما أمعنا النظر في أسبابها، نراها مركبة ومعقدة، رغم أنها تدور بين روسيا وأوكرانيا، لكن أطرافها وأسبابها تتعدى الفاعلين المباشرين فيها، إذ من غير الممكن فهمها دون وعي طموحات حلف الناتو للانتشار في منطقة المصالح الحيوية للاتحاد الروسي، ورغبة إدارة الرئيس بايدن في محاصرة روسيا، والحد من طموحاتها العسكرية والاستراتيجية والسياسية.
وهناك حرب أهلية في السودان، لا يمكن لأحد الجزم بأن أسبابها داخلية محضة، رغم أن الصراع والقتل اليومي، يدور بين أطراف سودانية. ومثل هذا القول، يصدق على الحرب الدامية التي يشنها جيش الاحتلال الاسرائيلي ضد قطاع غزة. إن من المستحيل، فصل أسباب هذه الحرب، عن السياسات الأمريكية، وعن مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي جرى الحديث عنه، قبل عدة عقود، وبات الاستعار محموما، لتطبيقه، منذ عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن، والذي تزامن مع تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس بأنه سيخرج من رحم الفوضى الخلاقة.
لماذا تشن الحروب؟! موضوع حظي باهتمام كبير من الدارسين والباحثين، منذ أيام حضارة الإغريق، قسم المهتمون بدراسة أسباب الحروب، أنواعها، إلى حروب عادلة وأخرى غير عادلة، وحروب تقليدية وأخرى تأخذ شكل حرب العصابات، لعل الأبرز بينها معارك التحرر الوطني، التي كانت من أهم معالم القرن العشرين.
في العصر الحديث، تشن الحروب من أجل السيطرة على مصادر الطاقة، وعلى المواد الخام القابلة للتحويل، وتشن أيضا للسيطرة على المواقع الاستراتيجية، وتأمين المصالح الخاصة. كما تشن بهدف تأمين أسواق جديدة.
وعندما برز السلاح النووي المرعب، باتت الحروب المباشرة، بين العمالقة الذين يملكون هذه الأسلحة مستحيلة، لأنها تعني فناء محققا للبشرية، برزت حروب الوكالة، حيث ينهمك طرف واحد من القوى الكبرى، بالضلوع المباشر في تلك الحرب، بينما يكتفي الطرف الآخر، بتقديم الأسلحة والذخائر، والمساعدات الاقتصادية، والدعم السياسي، دون المشاركة المباشرة في الحرب.
حدث ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، في الهند الصينية، حين صعدت إدارة الرئيس الأمريكي، ليندون جونسون، من تدخلها العسكري المباشر في فيتنام، لدعم حكومة فان ثيو، وتجاوز عدد الجنود الأمريكيين النصف مليون، وخسرت أمريكا في الحرب خمسين ألف قتيل، وقرابة نصف مليون من الجرحى. وتوسعت الحرب لاحقا لتشمل لاوس وكمبوديا، وانتهت بهزيمة عسكرية وسياسية للولايات المتحدة الأمريكية.
في حروب الهند الصينية، قدم الاتحاد السوفييتي، خيرة أسلحته لحكومة هانوي ولثوار فيتنام، ووقفت الصين مع حكومة هوشي منه الثورية، تقدم لها مختلف أشكال الدعم، إلى أن تمكنت من إلحاق الهزيمة بالأمريكيين، واضطرت المرشح الرئاسي ريتشارد نيكسون، لأن يضع في أولويات برنامجه الانتخابي، الذي فاز على أساسه، الانسحاب العسكري الأمريكي من فيتنام.
تشن الحروب أيضا لأسباب داخلية محضة. فالأنطمة السياسية التي تواجه مشاكل داخلية صعبة، تعمل على تصدير أزمتها إلى الخارج. تقوم بتسعير المشاعر القومية نحو هذا العدو، وتحشد الجميع حول مواجهته. وكثيرا ما تنجح الحكومات في تحقيق ذلك.
في المرحلة الراهنة، يواجه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، تهما بالفساد ربما تتسبب في إحالته إلى السجن، والقضاء على مستقبله السياسي. ويرى كثير من المحلليين السياسيين، ومن ضمنهم كتاب أسرائيليون، أن إلحاحه على مواصلة الحرب والتدمير في قطاع غزة، يعود إلى أسباب شخصية محضة. إن نتنياهو، من وجهة نظر كثيرين من الباحثين والمراقبين يتعلل بالحرب وأسبابها، من أجل تأجيل القدر المحتوم، قدر محاسبته وربما إيداعه السجن، وإنهاء مستقبله السياسي. والحرب في غزة، والترويج بأنها هي معركة التأسيس الثانية للكيان، هي وسيلته للبقاء في الحكم.
وتبقى أسباب الحروب، ومعالجة جوانبها النظرية مفتوحة وبحاجة إلى المزيد من القراءة والتحليل في أحاديث أخرى قادمة.
التعليقات مغلقة.