في أسباب النكسة

0 197

بمناسبة مرور 38 عاما على نكسة الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967، والتي تمكن فيها الكيان الصهيوني من إلحاق الهزيمة بحق جيوش ثلاثة بلدان عربية: سوريا ومصر والأردن، كرسنا الحديثين السابقين (للرجوع للمقالين اضغط هنا 1،2) لمناقشة هذا الموضوع. ووعدنا بتفكيك وتناول أسباب النكسة في هذا الحديث.

 

لقد أشرنا في الحديث السابق إلى أن المقدمات الأولى التي أدت تداعياتها إلى تصعيد وتيرة الصراع العربي- الصهيوني قد أخذت مكانها مع انطلاقة حركة فتح عام 1965. وفي معظم الحالات في التاريخ الإنساني، فإن المقدمات تحكم النتائج. كانت حركة فتح قد أعلنت بوضوح، في بيانها الأول، كما أسلفنا، بأن هدفها هو إيقاف الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، وإرهاق الإقتصاد الإسرائيلي، والعمل على أن تبقى قضية فلسطين حية. وفي تصريحات أخرى لقيادات حركة فتح وفي مقدمتهم مؤسس الحركة ياسر عرفات، وقادة في مكانة خليل الوزير وصلاح خلف وخالد الحسن، فإن ضمن تلك الأهداف هو إرغام الجيوش العربية على الإشتباك العسكري مع الصهاينة.

 

إن البيان الأول، الذي وضع لبنة قوية، على طريق تصعيد الصراع قد أغفل جملة من الأمور المهمة. وقد أدى ذلك الإغفال إلى نتائج كارثية على الأمن القومي العربية، ومشاريع النهضة العربية، كما أدى إلى توسع المشروع الصهيوني في الديموغرافيا والجغرافيا. أغفل مشروع فتح أن الجيوش العربية لم تكن مهيأة أبدا ولم تكن مستعدة للدخول في مواجهة عسكرية مع إسرائيل. وأن من شأن أية مواجهة التقدم بالمشروع الصهيوني التوسعي خطوات إلى أمام. وأن الحديث عن إرهاق الإقتصاد الإسرائيلي، يتناسى الجانب الآخر من المعادلة، التي هي إرهاق الإقتصاد العربي. وكان الكيان الصهيوني، للأسف، أكثر اقتدارا، أمام غياب الإستراتيجية العربية للمواجهة، على إلحاق الأذى ليس فقط بالإقتصاد العربي، ولكن بالوجود العريي ذاته.

 

النقطة الأخرى التي يجدر التنبه لها هي روح المغامرة، غير المحسوبة، والتحشد غير المستند على اعتبارات علمية وعملية من قبل الأنظمة العربية التي تم جرها إلى الفخ. فالنظام السياسي القائم في سوريا على سبيل المثال، في تلك الحقبة، تعامل مع قضية الصراع العربي- الصهيوني بطريقة بدا فيها متأثرا بما كان يجري في كثير من بقاع العالم، أثناء الحرب الباردة، والتي اتسمت بتصاعد وتيرة الكفاح الشعبي المسلح بين القوى اليسارية المؤيدة من قبل الإتحاد السوفياتي والصين والكتلة الأشتراكية وبين العناصر المدعومة من قبل الغرب، والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص. كانت آنذاك حروب التحرير ومواجهة الأنظمة المؤيدة للغرب مشتعلة في عدد من دول أمريكا اللاتينية، ومن ضمنها بوليفيا. كما كانت تجري في أفريقيا: أنجولا وغينيا الإستوائية. وكان جبهة الحرب حامية في الهند الصينية: فيتنام وكمبوديا ولاوس. بل إن حروب العصابات قد شملت بلدنا أخرى مثل تايلايد وجبال سراواك والفلبين.. وفي ظل غياب الإستراتيجية المنبثقة من الحاجات والممكنات المحلية استحضر شعار حرب التحرير الشعبية، وجرى تبنيه من قبل المؤتمر القومي التاسع لحزب البعث. وكان ذلك التبني صورة أخرى من صور التماهي المنفعل بالتيارات السياسية العالمية، وغير المتمكن من اكتشاف أدوات واستراتيجيات محلية قادرة على الفعل والتعامل الإيجابي والعلمي مع أولويات الصراع العربي مع الصهاينة.

 

لقد كانت حروب العصابات، وحروب التحرير التي سادت في العالم، كما قلنا جزءا من الحرب الباردة. بمعنى آخر، كانتا وجها معبرا عن الصراع الكامن، بين العملاقين، والذي كان من الواضح استحالة جعله مواجهة مباشرة بينهما، نتيجة امتلاكهما لسلاح الردع النووي. ومن هنا كان كثير من تلك المواجهات، حروب بالوكالة لصالح هذا القطب أو ذاك. وفي تلك الحقبة كان المعسكر اليساري هو المبادئ بالمواجهة الشعبية، بسبب وقائع موضوعية في مقدمتها سيادة حالات الفقر والجوع ونهج الإستبداد، التي كانت تشكل مناخا جيدا لبروز حركات العصابات.

 

اكتفى النظام السوري القائم برفع شعار حرب التحرير الشعبية، دون وضع أليات واستراتيجيات لوضع هذا الشعار موضع التطبيق. وهكذا انساق مع حركة فتح، يقدم لها العون والدعم، ويساهم في تصعيد وتيرة الصراع، دون تحضير مستلزماته. وكان ذلك خطأ تاريخي أدى إلى تداعيات لم تكن الأمة متحسبة لها. والأنكى من ذلك كله أن الهدف من تصعيد الصراع، فلسطينيا وعربيا لم يكن واضحا. فتحرير فلسطين، على الصعيد الإستراتيجي، لم يكن مطروحا من أي نظام عربي. صحيح أنه كان يطرح تكتيكيا من قبل عدد من الأنظمة العربية للإستهلاك، وبهدف إضفاء مشروعية على النظام العربي الرسمي، ولكنه على الصعيد العملي لم يجر تناوله في أي اجتماع من اجتماعات القمم العربية. كل ما تم التوصل إليه في مؤتمر القمة العربي الأول هو إيجاد كيان يمثل الفلسطينيين ويقود نضالهم نحو العودة إلى ديارهم.

 

وبإمكان المرء أن يستنتج الآن أن العرب، آنذاك، لم يكونوا يرغبون في إثارة حفيظة حكومة الأردن التي ضمت الضفة الغربية والقدس إلى أراضيها، ومصر التي كانت تشرف على إدارة قطاع غزة. ولو كان القادة العرب، والقيادات الفلسطينية، بما في ذلك حركة فتح جادين في العمل على إقامة دولة فلسطينية، لكان بإمكانهم الضغط من أجل إقامتها بالضفة الغربية وقطاع غزة، دون تسليمها أولا للكيان الصهيوني، ثم العمل ثانيا على استرجاعها منه، لكن ذلك لم يتحقق، بما يؤكد غياب أي متصور استراتيجي عملي لتحرير فلسطين.

 

ونأتي الآن إلى الفصل الأخير في المرحلة التي سبقت النكسة. لقد هدد رئيس وزراء إسرائيل، ليفي أشكول دمشق بغزوها ما لم توقف عمليات المقاومة. وأبلغ الإتحاد السوفياتي البلدان العربية عن تحشد عسكري إسرائيلي واسع على الحدود السورية. وعندها كانت ردة الفعل المصرية هي توقيع معاهدة دفاع مشترك مع سوريا. وتلك الخطوة تبدو منطقية ومنسجمة مع ميثاق جامعة الدول العربية، والأخوة القومية. ولكن غير المنطقي هو الطريقة التي تم بها استعراض القوات المسلحة المصرية، والطلب من قوات الطواريء الدولية التابعة للأمم المتحدة الإنسحاب من مضائق تيران، وإغلاق تلك المضائق في وجه الملاحة الإسرائيلية.

 

إن تلك الخطوات قد عولت كثيرا على أن العالم لن يسمح للكيان الصهيوني بتصعيد الأزمة، وأن تدخلا سياسيا من جهة ما، سوف يأخذ مكانه للتخفيف من حدة الصراع. وقد تغافل هذا التعويل عن طبيعة المشروع الصهيوني، كمشروع حرب، كما تغافل عن طبيعة التحالف التاريخي القائم بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، والعلاقة الخاصة التي ربطت الرئيس الأمريكي آنذاك، ليندون جونسون مع مشروع العدوان.

 

لقد كان إغلاق مضائق تيران إعلان حرب ضد الكيان الصهيوني، دون توفير مستلزماتها. وكانت الطريقة الإستعراضية للقوات المصرية في شبه جزيرة سيناء، ووجود الطيران المصري مكشوفا في حالة تأهب في القواعد الجوية المصرية قد جعل من تلك القوات والطيران صيدا سهلا، مكن الصهاينة من تدميره، في سرعة ليس لها نظير في تاريخ الحروب الحديثة.

 

هكذا كان الإفتقار للرؤية العلمية، والإنفعال والخضوع لقانون الفعل ورد الفعل، وغياب التخطيط الإستراتيجي، وعدم الوعي بطبيعة التحالفات الدولية، واستعارات شعارات ليس لها علاقة بالواقع أسبابا موضوعية لحدوث النكبة، وهزيمة الجيوش العربية، وضياع شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان والضفة الغربية ومدينة القدس.

 

ولعل السبب الرئيسي والمغيب للنكسة هو غياب السؤال، الذي هو الوجه الآخر لمفهوم المحاسبة، والذي يقتضي، ضمن جملة ما يقتضيه، دولة حديثة، وفصلا بين مؤسسات القضاء والتشريع والتنفيذ، وسيادة علاقات تعاقدية تضمن الحق في المساءلة والمحاسبة وسيادة القانون، ومشاركة في صناعة القرار.

 

وباختصار، لقد حدثت النكسة لأن العنصر الحقيقي في حسم الصراع، الذي هو الإنسان، كان دوره مغيبا بالكامل. وقد أثبتت نتائج حرب يونيو بشكل لا لبس فيه أنه لن يعاد للأوطان اعتبارها إلا إذا أعيد الإعتبار للإنسان.

 

ــــــــــــــــ

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2005-06-22

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

12 − ثلاثة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي